أعترف أن الشجاعة لم تحالفني من قبل لأتحدّث عن ألمي على مسمع الناس، فلطالما اكتفيت بحضن جسدي المتكسّر في فراشي ليلاً، بينما تغسله عيوني الدافقة بصمت، لكنني وببالغ الحزن، حاولت أن أسترق الفرصة خلسة لأفسح مجالاً لقصّتي كي ترى النور، من بين صفحات الفضاء الرقمي هذه، أملاً بأن يقدّم هذا لي، ولكل فتاة لاقت من العنف شيئاً، عزاء وإن كان قليلاً أمام ما قاسيناه من واقع مجتمعنا الذكوري العنيف، وطمعاً بأن يحقق لي أمنيتي بأن أقف مع نفسي موقفاً عادلاً، خارج جدران عقلي، لو لمرّة، ولكي أخبركِ يا سيّدة أنك لست الوحيدة في هذا.
لن أقص عليكم قصة بطل خارق أو قاتل متسلسل أو غيرها من قصص التشويق والإثارة لرجال "مارفل" الأبطال، بل قصة مملّة، تتكرّر مشاهدها يومياً مع نصف فتيات مجتمعنا على الأقل، ترى بعضهن يعشن فصولها مع آبائهن وبعضهن الآخر مع أزواجهن وأبنائهن. أما أنا فعشت أحداثها مع أخي، أخي الذي يكبرني في الحجم والسن ضعفين، أما في الذكاء العاطفي والضبط الانفعالي فحدّث ولا حرج.
لقد ذكّرني في آخر مرّة بمشهد رأيته في صغري بأحد برامج مسابقات الأداء، عندما كان أحد المتسابقين يستعرض دقته في تصويب السكين على تفاحة فوق رأس إمرأة، لكن في حالتي، كنت أنا التفاحة وأنا المرأة، وبدلاً من السكين كانت الأداة ولاعة سجائر حمراء. لا أنسى كيف تركت ورائها فقاعة في جبهتي رافقتني أسبوعاً كاملاً، كذكرى تبعد عن رومانسية هذا اللون بعد السماء عن الأرض.
أما السكين فكان من حظ صديقتي، حيث شارف أبوها في أحد المرات على جرح عنقها، لكن لحسن الحظ مضت تلك الحادثة على خير، إذ لم يترك وراءه أكثر من جرح في القلب، تفتح في جلسة نبش لذكريات عراكاتها مع زوجها وكأننا نتبارز على من تعرّض للعنف أكثر، حيث كانت تصوّر لي كيف رفع البندقية في وجهها وهدّدها بالقتل، في حين غلفت حديثنا بمصارحة موجعة قالت فيها: "بخاف إلجأ لأبي لأن ما بدّي تتكرّر مرة تانية أكتر لحظة خفت فيها بحياتي، لما قلّي: بدبحك، وهو حاطط السكين على رقبتي"، أتتساءلون لماذا؟ فقط لأنها كانت تسير برفقة أختها وصديقها "شاب غريب" في طريقهم إلى المدرسة.
كذب من قال إن وأد البنات انتهى. نحن نوأد في كل لحظة. وأد بالكلمات، ووأد بالضرب ووأد بالنظر، لكن السيء في الأمر أننا نوأد حتى الموت دون أن نموت
*****
منذ يومين بالضبط، تسرّبت من عيني صديقتي الأخرى ملامح أخيها فجأة بينما نجلس على الشرفة تحت ضوء القمر. تجلّى أمامي كمارد ضخم يتخبّط من ضيقه بجسد أخته الضعيف، محاولاً أن يثبت سطوته وقدرته أمام والدته التي تنفخه وأبيه الشفّاف. محزن ومثير للحنق أنني لم أتمكن من تخيل أكثر من ذلك، لأن دموعها منعتها عن مواصلة الكلام بعد أن غصّت ببقية الكلمات.
ها أنا أرتجف مجدداً. لا أنسى تلك البرودة التي أصابتني عندما كنت أحمل شفرة الحلاقة في المرحاض منذ عامين، محاولةً التحكم بحركة يدي المرتعشة لأتمكن من قطع وريدي الأيمن، لتسعفني ذاكرتي بعد فشلي في الوصول إلى الوريد باستخدام يدي اليسرى، بقرار تبديل وجهتي، حيث أمسكت الشفرة باليمنى لأقطع الوريد الأيسر بدلاً من ذلك. أتذكر تماماً كيف شعرت بأن الحياة تكرهني، عندما استيقظت في المستشفى على صوت تهديدات أخي بأنه سيقتلني بعد أن أصل إلى البيت، حيث لم يفرغ كامل غيظه في عراك تلك الليلة نظراً لتدخّل أفراد الأسرة في لحظات الصراع الأخيرة، لانتشالي من تحت أقدامه، والسبب وراء كل هذا بسيط للغاية: تذمّري من شدة البرد.
ما رأيكم في هذه السلسلة؟ ألا تنفع أن نضعها في فيلم يستمر عمراً أو عمرين؟ ربما يكفي لعرض جزء بسيط من قصص الكثير من فتيات مجتمعنا، اللواتي يتحركن كدمى خشبية بعد كل حفلة يحييها أحد الذكور المحيطين بهن.
كذب من قال إن وأد البنات انتهى. نحن نوأد في كل لحظة. وأد بالكلمات، ووأد بالضرب ووأد بالنظر، لكن السيء في الأمر أننا نوأد حتى الموت دون أن نموت.
ألا تصدقون! سأثبت لكم. منذ سنة، تعرّضت صديقتي الثالثة للضرب من قبل زوجها كالعادة، لكن المميز في تلك المرة كان دخولها المستشفى مع كسر في الفك وارتجاج في الدماغ، إضافة إلى رشقة كدمات في باقي الجسد. لم تخبرني عن تلك الحادثة إلى أن عرفت مصادفة، حين رافقتها إلى عيادة طبيب الأسنان وتحدّث أمامي عن وجود كسر في الفك، لتشرح لي فيما بعد تفاصيل القصة التي أغلقت بتوقيع زوجها على تعهّد بعدم الضرب، متبوع بحفنة اعتذارات لوالدها الذي كان حاضراً آنذاك، لكن أحداً لم يسمع ما يحدث داخل أسوار بيتهم بعد ذلك، ليستنتج أنه لم يمتنع عن تعنيفها نفسياً ولفظياً.
حتى نقيس عمق الهاوية نحتاج لأن نقفز من على الجدار، لكن يتعيّن علينا أن نفكر في ما سيحدث بعدها، هل ستكسر أقدامنا أم سنحط على الأرض بسلام؟
*****
حتى نقيس عمق الهاوية نحتاج لأن نقفز من على الجدار، لكن يتعيّن علينا أن نفكر في ما سيحدث بعدها، هل ستكسر أقدامنا أم سنحط على الأرض بسلام؟
لا أعتقد أن أي منّا يحلم بأن يكمل حياته واقفاً على جدار، في حين أن ذلك لن يتحقق على أي حال، إذ ستتركه عضلاته في لحظة تعب للسقوط في رحب الغيب خلف الجدار. لكن لحظة، ماذا لو نظرت إلى يمينك، ووجدت مسؤولياتك والتزاماتك وأحباءك مكوّمين بجانبك على ذلك الجدار، هل ستقفزين وتتركين كل شيء وراءك، أم أنك ستنتظرين العشب لينبت لتضمني لهم هبوطاً آمناً؟
قد يرى بعضكم أن حل هذه المعضلة سهل، وأن مواجهة المعنّف والوقوف بوجه الإساءة يحتاج لموقف حاد من قبل الضحية، لكن عندما يتعلق الأمر بأفراد الأسرة والشريك، يصبح الأمر معقّداً. معقد بقدر أصحاب الكلمات التي تقال لأي فتاة معنّفة ممن حولها، بأنها يجب أن تتحمّل وتسكت على قولهم "بضل زلمة البيت وبمون عليكي"، أو أن تواجه كومة انتقادات ولوم لأنها قالت أمامهن إنها ستلجأ للشرطة إن تكرّر الأمر، لتصبح حينها بنظرهم "بلا أصل"، كما أن مجرّد تعبيرها عن رفض السلوك الذي تعامل به أو الدفاع عن نفسها يعتبر "وقاحة وقلة احترام".
الأمر معقد بقدر أصحاب الكلمات التي تقال لأي فتاة معنّفة ممن حولها، بأنها يجب أن تتحمّل وتسكت على قولهم "بضل زلمة البيت وبمون عليكي"، أو أن تواجه كومة انتقادات ولوم لأنها قالت أمامهن إنها ستلجأ للشرطة إن تكرّر الأمر، لتصبح حينها بنظرهم "بلا أصل"
*****
إن سألتموني إن كان الصبر قد نصلني من ملامحي فسأجيب بكل اعتزاز: لا. فعن نفسي، لم أسمح لأي مما تعرّضت له من عنف ولوم وإساءة، أن يمحي شخصيتي مع كل الندبات المحفورة في نفسي أو تلك المؤرخة على يديّ. لقد حملت خوفي وأحلامي وقفزت عن ذلك الجدار وأنا أحلع ثوب العجز عن جسدي. ها أنا أعيش حرّة من جديد دون أن أتخلى عن مسؤولياتي أو أحبائي أو التزاماتي. ما زلت لم أصل للقاع، إلا أنني أعالج الموضوع بصبر وبخطوات مدروسة باحكام، بدأت ألاحظ فعاليتها في كل مواجهة تحمل في مسامها جذور العنف، والخبر السار أنني لا أمانع مشاركتكم سرّ هذه الوصفة.
أطلقت أجنحتي وقرّرت المواجهة بشجاعة بغضّ النظر عن الخسائر، ووضعت نصب عيني أن الشخص الذي أمامي هو أخي، الذي أوصته أمي أن يرعاني وهي تحتضر ولم يقصّر في فعل ذلك طوال حياته. أخذت بعين الاعتبار كل ما يحمله من طيب وخلق ومسؤولية وحب للخير، بدرجة تصعب أن تجد متسعاً لها في شخص واحد، وذكّرت نفسي بأنني الأقرب إلى قلبه وأنني أحبه عند كل شجار.
كنت أعتقد بعد أن نجوت من محاولة الانتحار أنها الباب الذي سيغلق على الألم إلى الأبد، وأن أخي لن يكرّر فعلته مرة أخرى، لكنني كنت مخطئة بعض الشيء. لقد توقف العنف الذي كان قليلاً من حيث العدد لفترة وجيزة، لكن بعد أن عادت تلك الحفلات التي يصل فيها أخي إلى هذا الحد من الغضب، أصبحت أقف في وجهه دون أن أخشى أي شيء، وأقول كلمة الحق وانا أنظر في عينيه، كما لا أستسلم أمام أي تعدِ أو سوء معاملة وأناقش أيضاً. أنتبه متى يجب علي تجنّب النقاش لأنه سيكون بلا جدوى وحاد أكثر من اللازم، وأنتظر الوقت المناسب والأسلوب المناسب كي لا أوقظ وحشه النائم.
الأهم من كل ذلك، اتباعي لمبدأ "الكف بالكف والبادي أظلم"، حيث بدأت أفرض فكرة أن الدفاع عن النفس لا يشترط أن يكون الطرف المقابل في نفس عمري أو أصغر مني، فلا يُشترى شيء إلا بثمنه، ومن يفضل اختيار عملة أخرى فعليه أن يكون جاهزاً لرجع الصدى.
فهمت أن الإنسان يحتاج في وقت ما إلى ردود لاذعة تضيء على الخطأ، ليتجنّب في المرة القادمة أو مع الزمن أن يدفع ثمن إهانته أو أذيته أو تعديه، ثقوب في النفس أو نظرة مشوهة إلى الذات.
أخي: أعلم أنك طفل صغير تعرّض للضرب في صغره كأي طفل في مجتمعنا، وعندما نضجت تحول الضرب إلى لغة تعبير عن المشاعر، تستخدمها في اللحظات التي كانت تستخدم ضدك أو في اللحظات التي لا تجد فيها رداً منطقياً تثبت به صحّة كلامك، وربما لأسباب جميعنا نجهلها، بمن فينا أنت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع