في نهاية حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد، اندلعت ثورة عارمة في سمرقند، بقيادة رافع بن الليث، وامتدت إلى العديد من مناطق خراسان، وذلك نتيجة الظلم الذي لحق بالرعية على يد الولاة، وأبرزهم علي بن عيسى.
اهتمام الولاة بمصالحهم
بشكل عام، لا يمكن فصل ثورة رافع بن الليث، عن المعطيات التي سادت خراسان تحت حكم الدولة العباسية. يذكر عبد العزيز الدوري، في كتابه "العصر العباسي الأول... دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي"، أن المشكلات الداخلية في عهد الخليفة هارون الرشيد نتجت لأسباب عديدة، منها عدم إساءة الظن بالعمّال وإطلاق أيديهم في الأمور، وظهرت نتيجة هذا الإهمال بصورة قوية في خراسان.
ويشرح الدوري، أن أكثر ولاة خراسان اهتموا بمصالحهم وثرائهم دون أن يهتموا بالرعية، حتى أن بعضهم، كعبد الجبار بن عبد الرحمن والمسيّب بن زهير، زادوا في الضرائب دون مسوغ. ولعل الوحيدَين اللذين سعيا إلى خير الرعية كانا الفضل بن سليمان الطوسي ( ولايته: 166-170هـ)، والفضل بن يحيى البرمكي (ولايته: 177-179هـ)، وقد وُلّي الأخيرُ خراسانَ في خلافة الرشيد.
في نهاية حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد، اندلعت ثورة عارمة في سمرقند، بقيادة رافع بن الليث، وامتدت إلى العديد من مناطق خراسان
وينقل الدوري عن أبي عبد الله الجهشياري، في كتابه "الوزراء والكتّاب"، قوله: "لما صار الفضل البرمكي إلى خراسان أزال سيرة الجور، وبنى الحياض والمساجد والرباطات، وأحرق دفاتر البقايا (ما لم يدفعه الزرّاع من خراج السنين الماضية بسبب مواسم الزراعة الرديئة)، وزاد الجند والقوّاد (في العطاء)".
علي بن عيسى ومقدمات الثورة
ويبدو أن سياسة الفضل البرمكي، لم تُرضِ الرشيد، إذ ترتبت عليها قلة الوارد من خراسان إلى الخزينة، لذا اتجه إلى عزل الفضل وتولية علي بن عيسى بن ماهان، والذي كان من أقسى الولاة، فظلم الناس وعسّر عليهم، واعتدى على أموالهم، وجمع أموالاً كثيرةً، فحمل إلى الرشيد عشرة آلاف ألف درهم، فلما وصلت إلى الرشيد سُرّ بذلك، فثبت علي بن عيسى في مركزه وزادت حظوته عند الرشيد بهذه الوسيلة، فاستمر على ظلمه.
وينقل الدوري عن محمد بن جرير الطبري، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، قوله: "فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها وأخذ أموالهم واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها تشكو سوء سيرته، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به".
والظاهر أن هذه الشكاوى لم تقنع الرشيد، حتى ذكر له بعض رجال الحاشية أن علياً بن عيسى ينوي الثورة عليه، وعندئذ توجه صوب خراسان سنة 189هـ. ولعلّ ابن عيسى شعر بالوشاية فقدم على الرشيد بالأموال والهدايا والمتاع والمسك والجواهر، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان مع الرشيد من ولده وأهل بيته وخدمه وقادته على قدر طبقاتهم ومراتبهم.
ولم تنكشف حقيقة علي بن عيسى للرشيد، حتى افتُضح أمره سنة 191هـ، بعد ثورة أهل خراسان مع رافع بن الليث، إذ انسحب من بَلْخ إلى مَرو، خوفاً من أن يستولي رافع عليها.
رافع بن الليث والنزعة الاستقلالية
وشخصية رافع بن الليث لم تظهر إلا زمن الخليفة هارون الرشيد، عندما ولّى الرشيد علي بن عیسی بن ماهان، نيسابور، مكان منصور بن يزيد الحميري، سنة 180هـ، وضمّ إليه مجموعةً من القادة، منهم رافع بن الليث، وطلب منه ألا يستعمله على أي بلد، لكن عليّاً بن عيسى خالف أمر الرشيد وعيّن رافعاً على سمرقند، وسرعان ما استقلّ بها بعد أقلّ من عام، بحسب عدنان عبد الله عبيدات، في دراسته "ثورة رافع بن الليث 190-195هـ/805-801م)".
ويذكر عبيدات، أن طلب الرشيد عدم تعيين رافع بن الليث كان فيه بعد نظر، وقد يكون ذلك بسبب درجة القرابة التي تربطه بنصر بن سيار (ت131هـ)، أحد قادة الدولة الأموية، وكان والياً على خراسان زمن الخليفة هشام بن عبد الملك (105-125هـ)، فضلاً عن تنبّه الرشيد إلى وجود ميول استقلالية لدى رافع.
أما الليث بن نصر بن سيّار، والد رافع، فكان مولى الخليفة العباسي المهدي (158-169هـ)، وكان عامله على السند سنة 165هـ، وقد أرسله مبعوثاً إلى حاكم فرغانة، في الوقت الذي كان فيه رافع بن الليث قائداً لحامية عسكرية في سمرقند.
وبخسب عبيدات، لم تذكر المصادر أي خلافات وأحقاد قديمة بين العباسيين وأحفاد نصر بن سيّار، فقد برز الليث في مجال الأدب والشعر واللغة، وكان أحد كتّاب البرامكة، واشتهر بالفقه والزهد، وتنقّل بين العراق ومصر والحجاز، حتى استقرّ به الأمر في خراسان، وكان من جلساء علي بن عيسى بن ماهان، وتالياً لم يكن هناك أي تخوف منه.
دوافع شخصية وراء الثورة
وبرغم الأسباب الموضوعية، إلا أن بعض المصادر لم تغفل الدوافع الشخصية وراء ثورة رافع بن الليث، في أثناء وجوده في خراسان عاملاً على سمرقند، وذلك دون تجاهل لسياسة علي بن عيسى التي أوقعت الظلم والجور على الرعية.
وينقل عبيدات عن الطبري، قوله إن رافعاً بن الليث غضب على عليّ بن عيسى بعدما قام بجلده والطواف به في شوارع سمرقند بأمر من الرشيد، نتيجةً لشكاية القائد العباسي الأشعث بن يحيى الطائي، الذي كان حينها يقيم في بغداد، بعد أن أقدم رافع على الزواج من امرأته التي تركها في سمرقند، فلما بلغ رافع أمرها طمع بها واحتال حتى تزوجها، بأن زيّن لها أن تطلّق نفسها بأن ترتدّ عن الإسلام، ثم تعلن توبتها ليتزوجها.
بعض المصادر لم تغفل الدوافع الشخصية وراء ثورة رافع بن الليث، في أثناء وجوده في خراسان عاملاً على سمرقند، وذلك دون تجاهل لسياسة علي بن عيسى التي أوقعت الظلم والجور على الرعية.
وبعد أن علم الرشيد بفعل رافع أمر بمعاقبته، فجلده علي بن عيسى وأهانه وخلعه عن سمرقند وحبسه، فهرب رافع من الحبس وذهب إلى مدينة بلخ مقام الأمير علي بن عيسى، يستسمحه لكنه رفض وأمر بقتله. وبعد هروب رافع، اجتمع عليه الناس وأمّروه، واجتمعت من حوله كل بلاد ما وراء النهر، بعد أن سيطر على سمرقند عندما قتل عاملها الذي يتبع علياً بن عيسى سنة 190هـ.
ويرى أبو محمد محمود بن سليم، في كتابه "من تاريخ خوارزم"، أنه ليس من المعقول أن تشتعل الثورة في بلاد ما وراء النهر وتعمّ إقليم خرسان لمجرد زواج رافع من امرأة رجل غادر البلاد وأقام في بغداد، خاصةً أن المرأة اشتكت للقاضي، وحكم بطلاقها، ثم تزوجها رافع بعد ذلك زواجاً صحيحاً، كما ذكر المؤرخون.
على كلٍّ، شعر ابن ماهان بتنامي حركة رافع والتفاف الأنصار حوله، فأرسل إليه ابنه عيسى الذي لم يتمكن من الوقوف في وجهه وهزيمته، وكانت النتيجة التي أثارت ابن ماهان، مقتل ابنه عيسى في أول مواجهة مع رافع بن الليث، وكان ذلك دافعاً لابن ماهان للتأهب لمواجهة رافع، الذي أخذت قوته ونفوذه بالازدياد، لذلك خرج ابن ماهان من بلخ إلى مرو التي دُفن فيها ابنه عيسى، بحسب عبيدات.
عزل عليّ بن عيسى
ويذكر أحمد علي صقر، ومحمد كريم الجميلي، في كتابهما "العصر العباسي الأول... قوة دولة وازدهار حضارة"، أن رد فعل الرشيد على هذه الثورة كان سريعاً، إذ أمر بعزل علي بن عيسى ومصادرة أمواله.
وجاء في كتاب العزل الذي أرسله الرشيد لابن عيسى: "خالفتَ عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى ظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته لسوء سيرتك... لقد ولّيت هرثمة بن أعين ثغر خراسان، وأمرته أن يشدّ وطأته عليك وعلى ولدك وكُتّابك وعُمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهماً ولا حقاً لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به حتى تردّه إلى أهله، فإن أبيت فله أن يبسط عليكم العذاب ويصبّ عليكم السياط".
وأوصى الرشيد في كتابه، هرثمة بن أعين، باستخراج أموال الخراج التي اغتصبها ابن عيسى، وبإنصاف المسلمين والمعاهدين منه، ورد حقوقهم ومعاملتهم بالحسنى، وأن يتّقي الله ويهتدي بكتابه، ما يدلّ -بحسب صقر والجميلي- على أن الرشيد استنكر تصرفات ابن عيسى ولم يرضَ عنها، ولعله تظاهر بذلك، ولكن المهم أنه لم يكن مُطّلعاً اطلاعاً كافياً على الوضع في خراسان ولم يكن شاعراً بأثر سياسة واليه.
عصيان عام وثورة عارمة
وبحسب ابن سليم، في كتابه المذكور آنفاً، بدأت الثورة بإعلان العصيان العام ضد علي بن عيسى، وعمّت إقليم سمرقند، وانتقلت منها إلى منطقة "نسف"، حيث أرسل أهلها إلى رافع يسألونه أن يوجّه إليهم من يعينهم، فأرسل إليهم الرجال والسلاح، ونجح الثوار في قتل حاكم المدينة في عام 191هـ.
وبمرور الوقت، عمّت الثورة جميع بلاد ما وراء النهر، وشملت بلاد الشاش، وفرغانة، وخُجنُدة، وأشروسنة، والصغانيات، وبخارى، وخوارزم، وطخارستان، والختل، وامتدت إلى بلخ، والترك الخرلخية، والتغزغز، والتبت، وغيرها، وأرسل جميع أهالي هذه المناطق إلى رافع ما يلزمه من الرجال والسلاح.
المشكلات الداخلية في عهد الخليفة هارون الرشيد نتجت لأسباب عديدة، منها عدم إساءة الظن بالعمّال وإطلاق أيديهم في الأمور، وظهرت نتيجة هذا الإهمال بصورة قوية في خراسان
ويذكر محمد سعد أطلس، في كتابه "عصر الازدهار... تاريخ الأمة العربية"، أن أهل فرغانة والصغانيات وأشروسنة وبخارى وخوارزم التفوا حول رافع كرهاً بالعباسيين وتخلصاً من ظلم علي بن عيسى.
كما اجتمعت لرافع أسباب أخرى غير هذه قوّت مركزه، منها أن حكام بلاد الشاس وبلاد الترك رأوا في ثورة رافع على العباسيين إنقاذاً لهم من خطر الغزو العباسي، فأيّدوه في حركته الانفصالية التي أخذت تقوى حتى عظم سلطان رافع، بحسب أطلس.
انتهاء ثورة رافع
على كلٍ، نجح هرثمة بن أعين، الذي عيّنه الرشيد حاكماً على خراسان، في تحقيق الانتصار على رافع، حيث حاصره في سمرقند، ونجح في فتح بخارى، وأسر حاكمها من قِبل رافع، وهو بشير بن الليث، وبعث به إلى الرشيد الذي أمر بقتله، بحسب ابن سليم في كتابه المذكور آنفاً.
ويبدو أن هرثمة لم يستطع تحقيق النصر النهائي على رافع، وذلك برغم نجاحه في الجولة الأولى، بدليل أن الخليفة هارون الرشيد خرج بنفسه متوجهاً إلى خراسان ليتولّى حرب رافع، ولكن وافته المنية عند مدينة طوس في سنة 193هـ.
وأصبح على المأمون الذي انفرد بحكم خراسان -على أثر الخلاف الذي نشب بينه وبين أخيه الأمين- أن يواجه رافعاً، فأحكم المأمون سيطرته على إقليم خراسان وبلاد ما وراء النهر، ونجح في تضييق الحصار على رافع الذي حاول الاستنجاد بأهالي أرض جبغوية، وملك الترك الخرلخية، فيلم ينجح بسبب المعاهدة التي وقّعها معه المأمون.
ووهن أمر رافع فطلب الأمان من المأمون بعد أن سمع بحسن سيرته، حيث حطّ عن أهل خراسان ربع الخراج، وردّ المظالم، ودعا عمّاله إلى الحق والعمل به. وهكذا انتهت ثورة رافع بدخوله في طاعة المأمون، وعاد الهدوء مرةً ثانيةً إلى الإقليم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com