اشتهر عهد الخلافة العباسية بالفتوحات والازدهار العلمي والأدبي، فتوسعت خلاله الأراضي الإسلامية وتنوعت الثقافات والمذاهب التي كانت تحت لواء تلك الخلافة. عُرفت هذه الخلافة وغالبية الخلفاء العباسيين بجدالاتهم مع الشيعة والمذهب الشيعي، ولكن بين جميع الخلفاء العباسيين كان هناك خليفة لم يعادِ الشيعة بل أحبّهم إلى درجة أنه في بداية خلافته منعَ قتلهم، وأمر بإطلاق سراح المسجونين منهم، كما أنه أجرى لهم راتباً، مواساةً لهم لما حل بهم من قبل. الحديث هنا عن ثالث الخلفاء العباسيين أبي عبد الله المهدي، فمن هو؟
أبو عبد الله المهدي... ابن الخليفة وأبو الخلفاء
هو أبو عبد الله محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، والد الخليفتين الأخوين موسى الهادي وهارون الرشيد. وُلد أبو عبد الله عام 745، في مدينة إيذج الواقعة في إقليم الأهواز آنذاك، والذي يُعرف حالياً بمحافظة خوزستان، جنوب غرب إيران. كان الخليفة العباسي عبد الله المأمون يسمّي الأهواز بـ"سلّة الخبز"، نظراً إلى احتضانها الكثير من العلماء والنخب الإسلامية آنذاك. يُذكر أن هناك بعض المؤرخين الذين يختلفون حول مسقط رأس هذا الخليفة، إذ يعتقد البعض أنه وُلد في مدينة الحميمية في الأردن.
بين جميع الخلفاء العباسيين كان هناك خليفة لم يخاصم الشيعة بل أحبهم إلى درجة أنه في بداية خلافته منع قتلهم، وأمر بإطلاق سراح المسجونين منهم، كما أنه أجرى لهم راتباً، مواساةً لهم لما حلّ بهم من قبل. ما قصة أبي عبد الله المهدي؟
وُلّي أبو عبد الله من قبل أبيه على منطقة طبرستان التي كانت تمتد من شمال غرب إيران إلى شمال شرقها، وشملت بالكامل إلى حد ما المنطقة الشمالية لهذا البلد. ولكن قبل أن يجلس أبو عبد الله المهدي على مسند حكم طبرستان، أثبت لأبيه الخليفة جدارتَه بهذا المنصب، وذلك لمّا ثار عبد الجبار بن عبد الرحمن الآذري في خراسان سنة 759، فأرسل المنصور ابنَه المهدي ذا الـ14 عاماً، على رأس جيش، وأمره بنزول الريّ، فسار المهدي ورافقه القائد خازم بن خزيمة التميمي لمحاربة عبد الجبار، وهنا نزل المهدي في مدينة نيسابور، ولما بلغ ذلك أهل مدينة مَرو، ساروا إلى عبد الجبار وقاتلوه وسلّموه إلى خازم، فحمله إلى المنصور، وضرب الأخيرُ عنقه، عقاباً له على ثورته أو "خروجه من الملّة" حسب حكم أبي جعفر.
دُفن في محافظة إيلام غرب إيران، حيث كان له مقام صغير يُعرف بمقام "السيد مهدي"، وكان يزوره سكان تلك القرية للتبرك والتشفع، وتم تخريب هذا المكان في عهد محمد رضا شاه.
حين استطاع المهدي هزيمة عبد الجبار دون مشقّة أو تعب وبغير قتال، كره المنصور أن تبطل تلك النفقات، فكتب إليه أن يغزو طبرستان. وكان الأصبهبذ في ذلك الوقت محارباً وقائداً شجاعاً للمصمغان، ملك دماوَند شمال إيران، فلما بلغه خبر دخول الجنود بلادَه، قاد جيش دَماوند وواجه به المسلمين وحاربهم. ولما طالت تلك الحروب، وجّه المنصور عمر بن العلاء، الذي كان عالماً ببلاد طبرستان، فقصد مدينة رويان شمال إيران وفتحها، كما أخذ قلعة الطاق وما فيها وطالت الحرب حتى طلب الأصبهبذ الأمان على أن يسلّم قلعته بما فيها من ذخائر، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك، وبعد ذلك بويع له بالخلافة وتولى إمارة طبرستان.
ومن هنا يمكن فهم سبب محبة هذا الخليفة العباسي للشيعة والمذهب الشيعي، إذ وُلد في الأهواز التي كانت تُعدّ ثالث مراكز الشيعة في العالم، وذلك بعد مدينتَي الكوفة وقُم، كما أنه كَبر وترعرع وحكم في منطقة كان غالبية سكانها من الشيعة.
إخماد الثورات وتوسيع الفتوحات
بدأت خلافته بعد وفاة والده أبي جعفر المنصور عام 775م. ومع بداية خلافته، بدأت الثورات المختلفة؛ كانت أولاها ثورة المقنّع الخراساني عام 776م، الذي كان رجلاً دميماً، أخفى وجهه وراء قناع من الذهب، ووضع قطعاً من الحرير الأخضر مكان العينين في القناع، كما ادّعى الألوهية وقال بتناسخ الأرواح، واجتمع حوله كُثُر من الناس كانوا يسجدون له، وجمع المقنّع في أول أمره، بين عقائد الرزامية التي كان ينتمي إليها وعقائد الخرمية، إذ أباح لأتباعه الحرمات وأسقط عنهم الفرائض وسائر العبادات. أمر أبو عبد الله المهدي، معاذ بن مسلم بمواجهة المقنّع، فسار إليه مع جماعة من القادة والعساكر وهزموه.
وبعد إخماد ثورة المقنّع، جمع المهدي جيشاً كثيفاً، وأمّر عليهم عبد الملك بن شهاب المسمعي في البحر، وأرسلهم إلى بلاد الهند، فلما وصلوا إربد (حالياً في الأردن) حاصروها وضيّقوا الحصارَ على أهلها، حتى فتحوها. بعد نحو عام، قامت ثورة جديدة في خراسان على يد يوسف بن إبراهيم، عُرفت بثورة يوسف البرم، وتمكّن من إخمادها بنجاح، وذلك باعتقال قادتها وضرب أعناقهم.
يرى البعض أن أبا عبد الله المهدي إن لم يعدل عن موقفه إزاء الشيعة، وبقي مستمراً في تعامله الحسن معهم، لربما كان قبره مشيّداً حتى اليوم، أو كان ضريحاً مقدساً أو تحول إلى مقام ديني يقصده الشيعة من جميع أنحاء العالم
وفي سنة 781م، أي بعد ثلاث سنوات من ثورة يوسف البرم، حشد جيشه وهجم على بلاد الروم، وتمكّن من فتح دمشق التي كانت ضمن الأراضي الرومانية. في سنة 783م، بعد هذه الأحداث والثورات التي كانت من بينها حركات شيعية أيضاً، غيّر أبو عبد الله أسلوبه مع الشيعة، وصار يعاملهم مثل سلفه، حتى توفي عام 785م، بعد عشر سنوات من خلافة مليئة بالحركات السياسية والعسكرية.
دُفن أبو عبد الله في قرية رذ (حسين آباد)، في محافظة إيلام، غرب إيران، حيث كان له مقام صغير يُعرف بمقام "السيد مهدي"، وكان يزوره سكان تلك القرية للتبرك والتشفع، ولكن تم تخريب هذا المكان في عهد محمد رضا شاه البهلَوي، تحديداً عام 1973، وبُنيت مكتبة مكانه.
يرى البعض أن ثالث الخلفاء العباسيين لو لم يعدل عن موقفه إزاء الشيعة، وبقي مستمراً في تعامله الحسن معهم، لربما كان قبره مشيّداً حتى اليوم، أو كان ضريحاً مقدساً أو تحول إلى مقام ديني يقصده الشيعة من جميع أنحاء العالم، ليصبح أول رجل من بني العباس يقدّسه الشيعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون