تقول الرواية إن بنت خالد بن سنان العبسي سمعت رسول الله يقرأ "قل هو الله أحد"، فقالت: "كان أبي يتلو هذا". وقد استقبلها الرسول استقبالاً يليق بابنة نبي، قائلاً: "مرحبا يا ابنة أخي، كان أبوك نبياً ضيّعه قومه". فكم من نبي وثائر ضيّعه قومه، ومُحيت تعاليمه ووصاياه، لأنه افتقد ظهيراً مجتمعياً يحميه ويدافع عنه، ولو لم يؤمن البعض من أهله برسالته؟
في أجوائنا المشحونة بغضب منذور لأي أحد، وجموع عارية الأعصاب تنشد الجنة عوضاً عن العدل الغائب، لا آمن على نفسي، وأتجنب الخوض في هذه التفاصيل، وفي استلهام ترانيم أخناتون، ومن قبله تحوت رب المعرفة في مصر القديمة الذي صلّى: "هو الواحد الصمد لا يشوبه نقص/ هو الباقي دوماً/ هو الخالد أبداً... المطلق الأكمل الأسمى/ جماع الأفكار التي لا تدركها الحواس/ ولا تدركه المعرفة مهما عظمت/ هو الخفي المتجلي في كل شيء/ وتدركه عيوننا في الآفاق/ لا جسد له ولكنه في كل شيء... هو الجوهر الكامن في كل شيء/ هو أصل ومنبع كل شيء/ هو الواحد الذى ليس كمثله شيء".
ذلك أصلٌ له صدى، وتوجد ظاهرة قديمة متجددة، تحمل مسميات متعددة، منها التأثر، والتناص، وصولاً إلى النقل مع تجاهل ذكر المصدر وهذا ما يشغلني الآن. تصادفني أحياناً نصوص قرأتها في كتب أخرى، ولا بدّ أن أحداً نقل عن الآخر، ولعل لكليهما مصدراً مجهولاً.
في خريف 1996 نشر أستاذ التاريخ الدكتور محمود إسماعيل دراسة عنوانها "هل سرق ابن خلدون نظريات إخوان الصفا؟"، في صحيفة "أخبار الأدب" القاهرية؛ فأثار عاصفة امتدت من مصر إلى المغرب، تبناها ورثة المعطف الخلدوني. دافعوا بشراسة عن مكانة ابن خلدون ورمزيته، وتجاهلوا "أدلة الاتهام".
تقول الرواية إن بنت خالد بن سنان العبسي سمعت رسول الله يقرأ "قل هو الله أحد"، فقالت: "كان أبي يتلو هذا". وقد استقبلها الرسول استقبالاً يليق بابنة نبي، قائلاً: "مرحبا يا ابنة أخي، كان أبوك نبياً ضيّعه قومه". فكم من نبي وثائر ضيّعه قومه، ومُحيت تعاليمه ووصاياه
خلص محمود إسماعيل إلى أن ابن خلدون سطاً في "المقدمة" على نظريات إخوان الصفا الذين عاشوا قبله ببضعة قرون، وفسر عدم إشارة دارسي ابن خلدون إلى هذا النقل بأنهم لم يدرسوا رسائل إخوان الصفا. والعكس صحيح أيضاً.
في هذا الفراغ البحثي، البيني، ظلت الفجوة بين دارسي الفلسفة ودارسي علم الاجتماع الخلدوني.
قال محمود إسماعيل إن "الشاغل الخلدوني" كان همه منذ ربع قرن، "ولم أجد الحل الشافي إلا بعد دراسة إخوان الصفا". وأصدر، عام 1996، كتابه "نهاية أسطورة... نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا"، متسلحاً بنصوص مقارنة من العملين، فاتهمه خلدونيون بالادعاء، وهدم رموز الفكر العربي الإسلامي، وترديد دعاوى مستشرقين يطلقون أباطيل "موجهة ضد تراثنا وضد الحقيقة".
وفي عام 2000 أصدر كتاب "هل انتهت أسطورة ابن خلدون؟"، تضمن ما واجهه من اتهامات، وبعضها قاسٍ يصفه بالجهل. وبهدوء ناقش رافضي اجتهاده، ورأى مواقفهم متسرعة، وأحكامهم ناتجة عن انفعال عاطفي، وتشنج غير منهجي. وقال إنه يعرف أن "آفة العقل العربي المعاصر" هي "تقديس التراث وعبادة أعلامه ورموزه". وإن الدفاع عن ابن خلدون لا يعني براءته من الاتهام.
المقريزي ناقلاً من البغدادي
إذا ذُكر اصطلاح الشدّة فلن تكون إلا المستنصرية. استمدت الشدة المستنصرية شهرتها من كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" للمؤرخ المصري تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (1365 ـ 1441 ميلادي). وتُستدعى تلك الشدة، المستنصرية، كلما حلّ وباء أو شبح مجاعة، لأن الكتاب متاح وتتولى طبعاته. وحين قرأتُ كتاب الرحالة المؤرخ العراقي عبد اللطيف البغدادي (1162 ـ 1231 ميلادي)، وعنوانه "كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر"، شككت في بعض ما تضمنه من وقائع وفقرات، كأنني قرأتها بالنص في كتاب المقريزي.
اسم الرحالة العراقي يلتبس ويختلط باسم عبد اللطيف البغدادي أحد ضباط الحكم في مصر بعد ثورة تموز/يوليو 1952، وكتاب البغدادي العراقي غير مشهور، وقد قرأته عام 2021، بعد نشره في دار الثقافة الجديدة بالقاهرة، بتحقيق الكاتب المصري عبد العزيز جمال الدين. وبدأتُ رحلة التحري عن نشر هذا الكتاب الذي رأيته مسطوّاً علبه.
نشرت الطبعة الأولى عام 1286 هجري (1896 ميلادي) في القاهرة. وفي القاهرة أيضاً صدر الكتاب، عام 1934، بعنوان "عبد اللطيف البغدادي في مصر"، "بقلم الأديب العربي المشهور عبد اللطيف البغدادي"، هدية للمشتركين في المجلة الجديدة لصاحبها الكاتب المصري سلامة موسى، وذكر في المقدمة أن الكتاب الذي غيّر عنوانه، "يمثل مصر في العصور الوسطى".
وفي شباط/فبراير 1984، نشر الدكتور علي محسن عيسى مال الله الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة بغداد دراسة وتحقيقاً للكتاب في مجلة "المورد" التراثية العراقية، وقد عرف بالكتاب منذ دراسته في القاهرة في سبعينيات القرن العشرين، وشجعه أساتذته في مصر والعراق على دراسته وتحقيقه. وفي عام 1998 صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة الثانية من الكتاب بعنوان "رحلة عبد اللطيف البغدادي في مصر"، إشراف وتقديم الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ.
البغدادي والمقريزي كلاهما أرّخ لمجاعة. ظل المقريزي أكثر شهرة، وكتابه في متناول القارئ. والبغدادي وكتابه لا يعرفهما إلا المتخصصون. البغدادي سجل جانباً من تفاصيل مجاعة بدأت عام 1200 ميلادي. كان شاهداً عليها في عصر العادل أبي بكر شقيق صلاح الدين الأيوبي المتوفي عام 1193. والمقريزي كتب عن مجاعة وقعت قبل ميلاده بثلاثة قرون، وكانت عنواناً للشدة المستنصرية التي بدأت نحو عام 1065 ميلادي، واستمرت سبع سنين. فكيف استعار المقريزي، أو استحلّ، ما ذكره البغدادي، ونسبه إلى نفسه، وإلى مجاعته؟
البغدادي وصف بناء الأهرام بأنه "عجيب من الشكل والإتقان ولذلك صبرت على ممر الزمان بل على ممرها صبر الزمان....". وفي هامش الكتاب أورد المحقق عبد العزيز جمال الدين الجملة نفسها من كتاب "المواعظ والاعتبار" للمقريزي الذي وصف الهرم الأكبر من الداخل منقولاً بالنص من البغدادي.
كتب البغدادي معايناته بضمير المتكلم. على سبيل المثال، عرف بمن اعتادوا ارتقاء الهرم، في قرية مجاورة، "فاستدعينا رجلاً منهم... كنت أمرته أنه إذا استوى على سطحه قاسه بعمامته فلما نزل ذرعنا من عمامته مقدار ما كان قاس فكان إحدى عشرة ذراعا بذراع اليد". والمقريزي كتب بضمير الغائب عن مساحة قمة الهرم: "وذكر أن ذرع سطحها أحد عشر ذراعاً بذراع اليد". البغدادي تحرّى الدقة اللغوية فأنّث الذراع. والمقريزي تساهل وذكّر الذراع، وتجاهل المصدر كما تجاهله أيضاً بخصوص اختفاء أطباء في الشدة الأيوبية، في كتابه "السلوك لمعرفة دولة الملوك".
البغدادي سجل ما جرى لثلاثة أطباء يعرفهم، وقد حاول "الخبثاء" اصطياد أحدهم، وتمكن من الفرار، فأخبره صاحب إسطبل أن "أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالحيل". وثّق الرجل مشاهداته: "رأيتُ صغيراً مشوياً في قفّة"، «ولقد رأيتُ امرأة يسحبها الرعاع"، "ورأيتُ قبل ذلك بيومين صبياً نحو الرهاق مشوياً"، "فرأيتُ امرأة أحضرت إلى الوالي"، "ورأيتُ مع امرأة فطيماً... فحكت لي".
أما المقريزي فيذكر في "كشف الغمة" طرفاً من هذه الوقائع، مع بناء الفعل للمجهول أحياناً، وقد يترك بعضاً من نصوص البغدادي من دون ذكر المصدر. ولعله اطلع على نسخة من كتاب البغدادي، ولم يلتفت إلى ذلك الباحثون بسبب الفراغ البيني، في الاقتصار على تراث هذا المؤرخ أو ذاك.
من القاضي التنوخي إلى باولو كويليو
في كتاب "الفرج بعد الشدّة" للقاضي التَّنوخي الذي في القرن الرابع الهجري (939 ـ 994 ميلادي) حكاية عن عراقي ورث مالاً وبدده، حتى باع أبواب داره، ولم يجد القوت، فتمنى الموت، ورأى في المنام من يقول له: "غناك بمصر، فاخرج إليها"، فالتمس من أبي عمر القاضي كتاب توصية ليشغل وظيفة بمصر، ولم يظفر بوظيفة، وخجل أن يمدّ يده يطلب إحسانا من الناس، وأجّل الفكرة إلى الليل، وأبت نفسه المسألة، وقبض عليه شرطي، وضربه بالمقارع، فحكى له قصة المنام، والشرطي اتهم البغدادي بالحماقة، وأقسم أنه منذ سنوات، رأى في النوم، من يقول له إن في بغداد في الشارع الفلاني، دار فلان، فيها بستان وفيه سدرة وهي شجرة نبق، وتحت السدرة مدفون ثلاثون ألف دينار.
في أجوائنا المشحونة بغضب منذور لأي أحد، وجموع عارية الأعصاب تنشد الجنة عوضاً عن العدل الغائب، لا آمن على نفسي، وأتجنب الخوض في هذه التفاصيل، وفي استلهام ترانيم أخناتون، ومن قبله تحوت رب المعرفة في مصر القديمة
عجب العراقي؛ لأن الشارع الموصوف شارعه، والدار داره، وفيها بستان وفيه سدرة. رجل المنام نصح الشرطي قائلاً: "فامض، فخذها"، والشرطي لم يهتم بالحلم، ونظر إلى العراقي قائلاً: "وأنت يا أحمق، فارقت وطنك، وجئت إلى مصر بسبب منام". تفاءل العراقي، ونام في مسجد، وغادر مصر فجراً، وبلغ داره في بغداد، وعثر تحت السدرة على قمقم فيه ثلاثون ألف دينار.
القصة نفسها تحتل صفحة في "ألف ليلة وليلة"، وبطلها بغدادي نفد ماله، فرأى في المنام من يقول له: "رزقك بمصر فاتّبعه وتوجه إليه"، وبلغ مصر مساء، فنام في مسجد دخله لصوص ونفذوا منه إلى بيت، واستغاث أهل البيت، فأغاثهم الوالي، وهرب اللصوص، ووجد البغدادي في المسجد، "وضربه بالمقارع"، وسجنه ثلاثة أيام، ثم أحضره وروى قصته، فضحك الوالي وقال: "يا قليل العقل أنا رأيت ثلاث مرات في منامي قائلاً يقول لي إن بيتا في بغداد بخط كذا ووصفه كذا بحوشه جنينة تحتها فسقية بها مال له جرم عظيم فتوجّهْ إليه وخذه فلم أتوجه وأنت من قلة عقلك سافرت" بسبب رؤيا، "وهي أضغاث أحلام"، وأعطاه مالاً يستعين به على العودة إلى بغداد، وكان البيت الذي وصفه الوالي بيته، وحفر فوجد مالاً كثيراً.
تلك الحكاية عالجها الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في قصة "حكاية الحالمين"، وبطلها مصري دفعه حلمه بكنز في أصفهان إلى مغادرة القاهرة، وواجه أخطار الصحارى من الضواري واللصوص، ونام بمسجد اقتحمه لصوص، وفي التحقيق معه أخبره الضابط أنه حلم بكنز في بيت بالقاهرة، واتهم المصريَّ بالحماقة، وأمره بالمغادرة.
لا أظن بورخيس قرأ كتاب القاضي التنوخي، لا هو ولا باولو كويليو الذي استلهم الحكاية في روايته "الخيميائي"، وينطلق بطلها الراعي "سانتياغو" من إسبانيا، باحثاً عن كنز حلم بأنه مدفون بالقرب من الأهرام. منح كويليو الحكاية أبعاداً روحية، فالشاب ظل حتى سن السادسة عشرة يتردد على المدرسة الدينية، لرغبة أبويه أن يكون قسًّاً، وكان منذ صباه يحلم "بأن يعرف العالم، كان ذلك في نظره أهم بكثير من معرفة الرب أو خطايا البشر"، وصارح أباه بأنه لا يريد أن يصبح كاهناً، وتساءل يوماً وهو يرقب شروق الشمس: "كيف يمكن للإنسان أن يذهب إلى مدرسة دينية لكي يبحث عن الله؟. عصف الحلم بسانتياغو؛ فخاض مغامرة شاقة وحافلة بمتعة اكتشاف ما هو أثمن من الكنز.
هكذا يمكن التوصل إلى أصول بعض القصص، وهكذا يظل أنبياء وثوار ما قبل التدوين يتامى، ذهبت آثارهم، فلا كرامة لثائر مهزوم، ولا ذكر لنبي ضيّعه قومه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...