لا أعرف كيف شُيّعت جنازات أولي العزم من الرسل؟ ويجب أن أتواضع وأقول: ولا غير أولي العزم. اليهود عبدوا العجل "بكفرهم"، حين غاب موسى، وقد حُرّم عليه دخول الأرض المقدسة، وتركهم ضالّين، أربعين سنة يتيهون في الأرض. والجنازة التي لا أتخيل مثلها لن تكون إلا لسليمان الملك، لولا موته في حماية العصا. وافتضح ادعاء الجن بمعرفة الغيب. والتراث الشعبي احتفظ بمكانة خاصة لقبره. والرعب العابر للأزمنة توارثته الجن، كلما حررهم من القمقم إنسيٌّ بحسن نية، ظنوا أنه سليمان، وهتفوا خاشعين: "التوبة يا نبي الله".
وفي ألف ليلة وليلة يتمكن عفّان وبلوقيا من عبور البحور السبعة، والوصول إلى مدفنه. والضريح تحرسه حية عظيمة. يلمس عفّان خاتم سليمان، يريد انتزاعه، فتحرق الحية عفّان، ويصير رماداً.
جنازات الرسل لا تهتم بها الكتب المقدسة. روى الإمام أحمد عن عائشة أن نبي الإسلام محمّد توفي يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء. في هذين اليومين قرر كبار الصحابة مصير الأمة. وتحدََدَ مستقبل علاقات المسلمين بجيرانهم في الجزيرة العربية وخارجها. لنا أن نتخيل نتيجة مختلفة انتهى إليها المجتمِعون في سقيفة بني ساعدة، باختيار عمر بن الخطاب، أو سعد بن عبادة.
لا أعرف كيف شُيّعت جنازات أولي العزم من الرسل؟ ويجب أن أتواضع وأقول: ولا غير أولي العزم. اليهود عبدوا العجل "بكفرهم"، حين غاب موسى، وقد حُرّم عليه دخول الأرض المقدسة، وتركهم ضالّين، أربعين سنة يتيهون في الأرض. والجنازة التي لا أتخيل مثلها لن تكون إلا لسليمان الملك، لولا موته في حماية العصا
اهتموا باختيار حاكم من قريش، خشية أن يؤول الأمر إلى الأنصار. شغلهم المستقبل عن التعجيل بدفن صاحب الرسالة. ذكر ابن هشام أن الصحابة اشتغلوا ببيعة أبي بكر يومي الاثنين والثلاثاء، "فلما تمهّدت وتوطّدت وتمّت شرعوا بعد ذلك في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم". ولم يكن معه إلا أهله، الإمام علي وعمّه العباس والفضل وقُثم ابنا العباس وأسامة بن زيد. روت أم سلمة أن جسده كان مسجى، وهم يبكون ولا ينامون، حتى سمعوا في السحر صوت الكرازين، وهي الفؤوس الكبيرة، "فصِحْنا وصاح أهل المسجد، فارتجّت المدينة صيحة واحدة، وأذّن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب، فزادنا حزناً".
الخلافات التالية مباشرة لوفاة الرسول، والجدل حول استحقاق الحكم، وصعود التحيزات القبلية، هذا كله كلام سرعان ما تحول إلى صراعات دامية ضحاياها أحفاد النبي، ومأساة الطالبيين ماثلة لا تغادر الذاكرة. وحين تمكن العباسيون من هزيمة الأمويين وقعت انتهاكات انتقامية نوعية، غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي.
كان أبو العباس السفاح، أول حكام بني العباس، شديد التدين. والدين لا يمنع صاحبه من بيع نفسه لإغراء السلطة. وتحولات المتدينين إذا ملكوا واستبدوا متكررة في التاريخ، أبرز نماذجها في الماضي "حمامة المسجد" عبد الملك بن مروان، وفي الحاضر معمر القذافي، وبينهما سلالة من السفاحين، أولهم أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
لعل التاريخ اختصه باقتران اسمه بلقبه، السفّاح. في سن السادسة والعشرين تولى الحكم، وختم خطبته الأولى، البليغة، في أهل الكوفة بقوله: "فاستعدوا، فأنا السفاح الهائج، والثائر المبير". سكت السفاح. كان به وعكٌ، فاشتد عليه. يسجل ابن كثير في "البداية والنهاية" أنه جلس على المنبر، ونهض عمه داود بن علي، فحمد الله الذي ردّ "إلينا حقّنا وإرثنا"، ولعن بني أمية وبني مروان. وقال إن للناس على بني العباس "ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس".
هذا كله متوقع. لكن الذي فاجأني في خطبة العرش قول العم، وهو يشير إلى "أمير المؤمنين" ابن أخيه السفاح: "واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم، عليه السلام".
أما الانتقام النوعي، الذي أشرتُ إليه، فسجله ابن كثير، إذ دخل عبد الله بن علي، عمّ السفّاح، دمشقَ بالسّيف، وأباح فيها القتل، وجعل جامعها سبعين يوماً إسطبلاً لدوابه، "ثم نبش قبور بني أمية، فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطاً أسود مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، فوجد جمجمة، وكان يوجدُ في القبر العضوُ بعد العضو، غيرَ هشام بن عبد الملك، فإنه وجده صحيحاً لم يَبلَ منه غيرُ أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت، وصلبه أياماً، ثم أحرقه بالنار، ودقّ رمادَه، ثم ذرَّاه في الريح... ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين نفساً عند نهر بالرملة، وبسط عليهم الأنطاع، ومدّ عليهم سماطاً، فأكل وهم يختلجون تحته، وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك، وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة، فما زالوا يَزْنون بها، ثم قتلوها".
التفكير في اللحظة التالية للموت، وتخيُّل الجنازة بمهابتها أو فقرها من المشيّعين، ربما يكون رادعاً لمن يستقوي بكثرة الأتباع، ويستأسد بما يعلنه المريدون من إخلاص. ثم لا يكون مع الميت، قبل لقاء الله، إلا أهله بعد تخلِّي الأخلّاء، وتفرّق الأتباع. وفي كتاب "الأخبار الطوال" يذكر أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري واقعة ذات دلالة.
كان عمرو بن سعيد بن العاص يرفض البيعة لعبد الملك بن مروان، ثم اتفقا على اقتسام "المُلك"، وأن تكون الخلافة لعبد الملك، ومن بعده لعمرو. كتبا بذلك كتاباً، وأشهدا عليه أشراف أهل الشام. ثم غدر عبد الملك بعمرو "فأُخِذ، فأُضجِع، وذُبِح ذبحاً، ولُفّ في بساط. وأحس أصحاب عمرو بذلك، وهم بالباب، فتنادوا، فأخذ عبد الملك خمسمائة صرّة، قد هُيّـئتْ، وجُعل في كل صرّة ألفا درهم، فأمر بها، فأُصعِدت إلى أعلى القصر، فأُلقيت إلى أصحاب عمرو بن سعيد مع رأس عمرو، فترك أصحابه الرأس مُلقى، وأخذوا المال، وتفرقوا. فلما أصبح عبد الملك أخذ من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلاً، فضرب أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله بن الزبير".
لواقعة عمرو بن سعيد بن العاص نماذج قريبة الشبه؛ ذكر نوبار باشا في مذكراته بعضاً منها. ففي ذروة امتلاك القوة لا يفكر المستبد في جنازته. وإذا كان التاريخ لا يرحم، فالحاضر أشدّ قسوة. عدم الرحمة يخص الذكرى، أما القسوة الأشدّ فتخص الجسد منزوع الروح، وما يتعرض له من هوان. إنه جحود المنتفعين وانتقام الخائفين.
في أيام إبراهيم باشا الأخيرة، مكث بجواره نوبار "كممرض وحاجب وأمين سر وكل شيء... ولكنني كنت ألاحظ قلق كبار الشخصيات وهم يستفسرون عن حقيقة حالة الوالي للصحية. ارتسمت على الوجوه علامات السرور بشكل واضح كلما ذاع خبر عن تردي صحته، فقد كان إبراهيم مهيبا يخشاه الجميع وذاعت شهرته وقسوته". وفي إحدى لحظات "الهدنة مع المرض"، طلب عباس باشا إلى عمه إبراهيم (1789 ـ 1848) أن يأذن له بالسفر إلى الحجاز، التابع آنذاك للإدارة المصرية.
حضر سكرات موت إبراهيم ستة أشخاص، منهم أربعة مسيحيون. وتوفي في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1848، بعد منتصف الليل بنصف ساعة. وسرعان ما انتشر الخبر. ظن نوبار أن يسارع كبار رجال الدولة إلى الحضور، "لكن يبدو أنني أخطأتُ التقدير فلم يهرع أحد ولم يتسابق أحد للمجيء، بل لم ينزعج أحد. صحيح ما الضرورة حتى يزعجوا أنفسهم ويقطعوا نومهم؟ إن من كانوا يرهبونه لم يعد هنا". ثم جاءوا في الصباح، "ولكن ما كل علامات الرضا هذه التي كانت تكسو الوجوه؟ وما كل هذه الأحاديث التي انطلقت مرة واحدة وبصوت عال كما لو كنا في ميدان عام". ولم يبكِ أيٌّ منهم على الميت، بل إن السعادة "كانت تكسو وجوه هذا الجمع" من كبار رجال الدولة.
التفكير في اللحظة التالية للموت، وتخيُّل الجنازة بمهابتها أو فقرها من المشيّعين، ربما يكون رادعاً لمن يستقوي بكثرة الأتباع، ويستأسد بما يعلنه المريدون من إخلاص. ثم لا يكون مع الميت، قبل لقاء الله، إلا أهله بعد تخلِّي الأخلاء، وتفرّق الأتباع
وفي خروج النعش، عند مدخل القصر، حدث زحام وصخب، "فوضى تشبه من يصطحب موكب عروس سعيد، لا أناس يستعدون للسير وراء جنازة". وبخطوات سريعة، نزل المشيعون من القلعة، وعند المنعطف الأول ركب كبار رجال الدولة خيولهم، "تاركين الموكب"، وتبعهم مساعدوهم. وعند المنعطف الثاني المؤدي إلى مسجد السلطان حسن انصرف الموظفون، ولم يواصل السير في الجنازة إلى المدافن إلا الفلاحون، يحملون النعش على الأكتاف، "تتبعهم النادبات ووراءهم عربة بداخلها نساء أسرة الوالي".
يعلق نوبار: "كان مشهداً قاتماً وحزيناً تغلفه الوقاحة والانحطاط؛ لأن هذه كانت نهاية الرجل الذي أضاء اسمه الشرق وهزّ عرش السلطان محمود ولم ينقذه سوى تحالف القوى العظمى الأوروبية ضد إبراهيم وأوقفته على مشارف القسطنطينية التي كان شعبها المبهور به يدعو له بخالص الأمنيات".
كبار رجال الدولة قرأوا المشهد، فشيعوا الوالي إبراهيم باشا بلا مبالاة، بلا كبرياء؛ فالرجل القوي مات. أما أبوه الجبار محمد علي (1769ـ1849) فقد سرَّه موتُ ابنه الذي نافسه على العرش. والوالي الجديد عباس باشا عاد من الحجاز بعد يومين، ولعله استراح أيضاً لاختفاء ظلال عمه.
إبراهيم باشا، الذي يصفه نوبار بـأنه كان يصل إلى حدود العبقرية، لا تليق به تلك النهاية التراجيدية.
لو فكّر في اللحظة التالية لموته لاختلفتْ طبيعة الوداع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...