يحتوي القرآن الكريم على ما يزيد عن الألف وستمائة آية في قصص الأنبياء والأمم السابقة. مثلت تلك الآيات ما يقرب من ربع الحجم الإجمالي للقرآن، وبُثت من خلالها العديد من النصائح والإرشادات الروحية التي دعا الإسلام إليها.
برغم توافق تلك القصص بشكل كبير مع الحبكات الرئيسة للسرديات الواردة في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إلا أنها قد شهدت في الوقت ذاته العديد من مواضع الاختلاف والتباين. بقي وجود تلك الاختلافات بحاجة إلى تفسير وتوضيح. كيف اختلفت السرديات القصصية في الكتابين، القرآن والكتاب المقدس، رغم أنهما يرجعان إلى المصدر الإلهي نفسه؟ ظل هذا السؤال عالقاً عبر القرون وظهرت الكثير من الإجابات عليه.
التحريف: الإجابة التقليدية
كان القول بتحريف الكتاب المقدس هو الإجابة الأسهل على هذا السؤال الصعب. ذهب العديد من المفسرين والفقهاء المسلمين إلى أن القصص الواردة في الكتاب المقدس قد حُرفت وتم تزيفها عبر السنين. استدل أصحاب هذا الرأي ببعض الآيات القرآنية ومنها الآية 75 من سورة البقرة: "أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"، وكذلك الآية 13 من سورة المائدة "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ".
كيف اختلفت السرديات القصصية في الكتابين، القرآن والكتاب المقدس، رغم أنهما يرجعان إلى المصدر الإلهي نفسه؟ كان القول بتحريف الكتاب المقدس هو الإجابة الأسهل على هذا السؤال الصعب
على الرغم من شيوع فكرة تحريف الكتاب المقدس في الثقافة الإسلامية الجمعية فإن هناك بعض الآراء التي اعترضت عليها ورفضتها. على سبيل المثال نُقل عن الصحابي عبد الله بن العباس قوله: "معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزل على نبيها فتبدله… وإنما بدلوه وحرفوه بالتأويل…"، وذلك بحسب ما جاء في كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر" لعبد الرحمن بن خلدون المتوفى 808هـ.
كان المحدّث الشهير محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256ه أيضاً ممن رفض فكرة التحريف اللفظي للكتاب المقدس. قال البخاري في صحيحه مفسراً معنى التحريف: "يحرفون: يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله".
في الحقيقة، توجد بعض الآيات القرآنية التي تقدم شواهد إضافية لدعم هذا الرأي. على سبيل المثال جاء في الآية رقم 43 من سورة المائدة: "وَكَيفَ يحكُمونَكَ وعندَهُم التوراةُ فِيها حُكمُ الله". كذلك جاء في الآية 47 من سورة المائدة: "وليَحْكُم أهلُ الإنجيلَ بما أَنزلَ اللهُ فِيه". يُفهم من دلالات تلك الآيات أن الكتاب المقدس -التوراة والإنجيل- كانا يحملان الأوامر الإلهية الصحيحة بحسب المفهوم الإسلامي في عصر الرسول.
في السياق نفسه، سنجد أن أقوى وأشهر الأدلة الإسلامية المثبتة لحفظ القرآن من التحريف اللفظي، والمتمثلة في الآية التاسعة من سورة الحجر، "إنّا نَحنُ نزّلْنا الذِّكرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُون"، قد يُفهم منها حفظ التوراة والإنجيل والكتب السماوية السابقة بالتبعية. ذلك أن كلمة "الذِّكْر" الواردة في الآية قد جاءت في العديد من المواضع للدلالة على التوراة والإنجيل باتفاق جماهير المفسرين المسلمين.
من محمد عبده إلى نصر أبو زيد: محاولات في طريق البحث عن إجابة موضوعية
عرف العصر الحديث ظهور مدرسة علمية جديدة في ما يخص تناول القَصَص القرآني. تأثرت تلك المدرسة بالاتجاهات الحداثية الغربية الناقدة لنصوص الكتاب المقدس من جهة، وبالتقدم الكبير الحادث في علوم الأركيولوجيا والحفريات من جهة أخرى.
كان مفتي مصر الأسبق محمد عبده، المعروف باتجاهاته الإصلاحية، من أوائل أعلام هذه المدرسة. أكد عبده في الكثير من المواضع من كُتبه على أن القصص القرآنية تختلف عن التاريخ التقليدي. على سبيل المثال جاء في تفسير عبده للقرآن، وهو التفسير المعروف بـ"المنار ": "بيّنّا مراراً أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن وأن ما فيه من قِصصِ الرُّسُل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم وما تتضمنه من أصول الدين والإصلاح".
في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، عبّر المفكر المصري طه حسين عن المعنى نفسه بشكل أكثر جرأة عندما قال في كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي ": "للتوراة أن تحدّثَنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة".
تُعدّ قصة العذراء مريم والمسيح من بين القصص التي وقعت فيها الخلافات بين العهد الجديد والقرآن. يمكن أن نفترض أن الخلاف في السرديتين يرجع إلى وجود اختلاف في التصور المجتمعي لمفهوم وبنية الأسرة بالأساس.
في الأربعينيات من القرن نفسه، دار الجدل في الأروقة العلمية والأكاديمية في مصر بعدما تقدم الباحث محمد أحمد خلف الله للجامعة المصرية -والتي ستصبح في ما بعد جامعة القاهرة- بأطروحته للحصول على درجة الدكتوراه تحت عنوان "الفن القصصي في القرآن الكريم". أكد خلف الله في أطروحته على خطأ التفسيرات الإسلامية التراثية في نظرتها للقصص القرآني على كونه تاريخاً صحيحاً لا يقبل الشك. وبيّن أن تلك النظرة تسببت في توجيه سهام النقد للإسلام نفسه بعدما أثبتت المكتشفات الأثرية الحديثة وجود تعارض بين ما ورد في تلك القصص وما تم التأكد من صدقه تاريخياً.
يقول خلف الله موضحاً: "هذه الأقوال وكثير غيرها قصد إليها المبشّرون والملاحدة ليثبتوا للناس أن القرآن من عند محمد لأنه لو كان من عند الله لما وجدت فيه هذه الأخطاء التاريخية. وهذه الأقوال وكثير غيرها إنما كانت لأن المسلمين أنفسهم قد حرصوا الحرص كله على فهم القصص القرآني على أساس من التاريخ، ولو أنهم أعرضوا عن هذا الأساس وحاولوا فهم القرآن على أساس من الفن الأدبي أو البياني البلاغي لأغلقوا هذا الباب الذي جاءت منه الريح، ولَسَدّوا على المشركين والمبشّرين السبل، وحالوا بينهم وبين الطعن في النبي عليه السلام وفي القرآن الكريم".
يوضح خلف الله بعد ذلك أن القرآن قد اشتمل على ألوان قصصية مختلفة، وأنه لا يجوز التعامل معها بنفس الطريقة. فهناك القصة التاريخية التي وقعت أحداثها بالفعل في الماضي، وهناك القصة التمثيلية التي ضُربت للناس لتوصيل بعض الأفكار والمعاني. أيضاً، هناك القصة الأسطورية التي لم تحدث ولم تقع تاريخياً ولكنها وردت لكونها تتوافق مع بعض الأفكار والمعتقدات التقليدية الشائعة في المجتمع العربي في فترة الدعوة المحمدية.
على الرغم من الهجوم الشديد الذي تعرضت له أطروحة خلف الله إلا أن الكثير من الباحثين استفادوا منها كثيراً في ما بعد. على سبيل المثال رجع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد لأفكار خلف الله أثناء بحثه الطويل عن إعادة تعريف القرآن. فرّق أبو زيد بين "النص" و"الخطاب"، وأكد على أن النظرة التراثية التي اعتادت أن تعرف القرآن بوصفه نصاً ثابتاً جامداً، خاطئة، وأنه من الأفضل أن نُعيد تعريف القرآن باعتباره خطاباً يعتمد على ثقافة المُخاطب وقيمِه والأعراف والعادات السائدة في مجتمعه.
إجابة جديدة: محورية القيم الإسلامية ومراعاة السياق
في ضوء الأفكار السابقة يمكن طرح رأي جديد. ماذا لو افترضنا أن القصص القرآنية قد صيغت بالشكل الذي يتوافق -بالمقام الأول- مع القيم الأصيلة في الدين الإسلامي من جهة، ومع الأفكار السائدة في المجتمع العربي الجاهلي من جهة أخرى؟ قد يفسر ذلك الطرح الإشكال المتعلق بالاختلافات القائمة بين السرديتين القرآنية والكتابية. في السياق نفسه، من الممكن أن يلقي هذا التفسير مزيداً من الضوء على طبيعة المجتمع الإسلامي المبكر. سنضرب في السطور القادمة مجموعة من الأمثلة التي توضح معالم تلك الفرضية.
يظهر مفهوم عصمة الأنبياء كواحد من المفاهيم المهمة التي تفسر سبب الخلاف بين السرديتين الكتابية والقرآنية.
المثال الأول يرتبط بأهمية فكرة التبشير والدعوة في الدين الإسلامي؛ فعلى عكس اليهودية التي ترى في نفسها ديناً إثنياً قومياً مغلقاً اختُصّ به بنو إسرائيل دوناً عن بقية الشعوب، روج الإسلام لنفسه باعتباره ديناً عالمياً يستهدف مختلف الشعوب والأجناس.
تُفسر الرؤى المختلفة لطبيعة الدينين -اليهودي والإسلامي- أسباب الخلاف القائم في الكثير من القصص الدينية في كلٍّ من الكتاب المقدس والقرآن؛ على سبيل المثال شهدت قصة النبي موسى ومحاوراته المختلفة مع فرعون تأكيداً قرآنياً على دعوة الأخير للإيمان بالله في مواقف متعددة.
جاء في سورة طه: "اذْهَبا إلى فرعونَ إنّهُ طَغَى فَقُولا لَه قَوْلاً لَيناً لَعلّهُ يتَذَكّر أو يخشى"، وجاء في سورة النازعات: "فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى". كذلك جاء في سورة يونس أن فرعون قد آمن في لحظاته الأخيرة بإله موسى، فقال: "آمَنتُ أَنَّهُ لَا إله إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ". هذا الملمح الدعوي لا نجد له أثراً في النص التوراتي.
يؤكد سِفر التكوين أن الطلب الوحيد الذي طلبه موسى من فرعون كان هو أن يطلق سراح بني إسرائيل، وأن يدعهم يغادروا إلى أرض الميعاد. جاء في الإصحاح السابع من سفر الخروج: "اذهَبْ إلى فِرعَون فِي الصَّباح... وتقُول لَه: الربّ إله العبرانيين أرسَلَني إليك قائلاً: أطلق شعبي ليعبدوني في البرية. وهُوذَا حتّى الآنَ لم تسمع".
يتوافق مع ذلك موقف السحرة الذين واجهوا موسى بسحرهم. أكد القرآن أنهم قد أعلنوا إيمانهم بعد أن تأكدوا من حقيقة المعجزات التي ظهرت لهم: "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى".
أما النص التوراتي فلا يتحدث عن إيمان السحرة المصريين على الإطلاق برغم تأكيده -أي النص- لهزيمتهم في المعركة: "فدعا فرعون أيضاً الحكماءَ والسحرةَ، ففعل عرّافو مصر أيضاً بسِحرِهم كذلك. طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابينَ. ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم". وكان السبب في ذلك أن هؤلاء السحرة لم يكونوا من المستهدفين بالإيمان أصلاً في العقيدة اليهودية.
يساعدنا اختلاف مواقف الدينين -اليهودي والإسلامي- حول مفهوم التبشير أيضاً في فهم الاختلاف الدائر حول قصة النبي يونان/يونس. يؤكد الكتابان -الكتاب المقدس والقرآن- أن النبي العبراني قد غضب وترك قومه وسافر راكباً إحدى السفن، فابتلعه الحوت بعدما أقدم ركاب السفينة على إلقائه في البحر. ولكن الخلاف في السرديتين يدور حول سبب الغضب. في الكتاب المقدس يغضب يونان لأن يهوه قد أرسله لهداية أهل نينوى وهم ليسوا من بني إسرائيل. أما في القرآن فيغضب يونس بسبب إعراض أهل نينوى عن الحق وإصرارهم على الكُفرِ والشِّرك.
في سياق أخر، يظهر مفهوم عصمة الأنبياء كواحد من المفاهيم المهمة التي تفسر سبب الخلاف بين السرديتين الكتابية والقرآنية. يظهر الأنبياء في العهد القديم بوصفهم أشخاصاً عاديين، قابلين للوقوع في الخطيئة. يذكر سفر التكوين أن نوحاً شرب الخمر وسَكر: "وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه".
وتحدث سِفر الخروج عن قيام هارون بصناعة العجل الذهبي لبني إسرائيل: "وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ، اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ. فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأتُونِي بِهَا". فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ. فَأَخَذَ ذلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإِزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلًا مَسْبُوكًا".
ووصف سِفر صموئيل الثاني وقوعَ داود في خطيئة الزنا: "وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا... فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلًا وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا". أما سِفر الملوك الأول فقد صرح بمَيلِ سليمان لعبادة بعض الآلهة الأجنبية: "فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّين. وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ".
يرفض القرآن جميع تلك الأوصاف، ويحفظ للأنبياء مقامهم الرفيع ومكانتهم المبجلة باعتبارهم الواسطة بين السماء والأرض، والمكلفين بإقامة الحجة على الناس أجمعين. من هنا، تم تنزيه الأنبياء عن جميع تلك الخطايا وخلا القرآن من الأوصاف المشينة التي وصف بها الأنبياء في العهد القديم. ويحق لنا أن نسأل هنا هل نقل القرآن الصورة التاريخية لهؤلاء الأنبياء؟ أم أنه اصطنع لهم صورة مُتخيلة تتفق مع أهدافه ومضامينه وقيمه العليا؟
تُعدّ قصة العذراء مريم والمسيح من بين القصص التي وقعت فيها الخلافات بين العهد الجديد والقرآن؛ يؤكد القرآن على أن النبي زكريا قد كفل مريم في صغرها، وأن المسيح قد تحدث في مهده مبرئاً أمَّه من تهمة الزنا التي رماها بها اليهود. من العجيب أن الأناجيل الأربعة القانونية لا تذكر شيئاً عن تلك المعجزة الخارقة لنواميس الطبيعة البشرية. ويمكن أن نفترض أن الخلاف في السرديتين يرجع إلى وجود اختلاف في التصور المجتمعي لمفهوم وبنية الأسرة بالأساس.
ماذا لو افترضنا أن القصص القرآنية قد صيغت بالشكل الذي يتوافق -بالمقام الأول- مع القيم الأصيلة في الدين الإسلامي من جهة، ومع الأفكار السائدة في المجتمع العربي الجاهلي من جهة أخرى؟
تحدث العهد الجديد عن يوسف النجار خطيب مريم. والخطبة عند اليهود قريبة الشبه بالزواج نفسه. من هنا لم يقم اليهود -بحسب التصور الإنجيلي- باتهام مريم بالزنا، وكانوا يعرفون يسوع بانه ابن يوسف النجار. على النقيض من ذلك، لم يُطرح اسم يوسف النجار أبداً في القرآن. ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن الثقافة العربية الجاهلية كانت تضع قيوداً أكثر تشدداً في ما يخص علاقة الخاطب بخطيبته. هنا احتاج ميلاد عيسى لبرهان وإعجاز يفسران للمسلمين سبب سكوت اليهود عن ولادة مريم لابنها بغير رجل. كان الحلّ إذاً هو تسليط الضوء على المعجزة التي تؤكد على حديث المسيح في مهده.
في بعض الأحيان تظهر الخلافات بين القصة التوراتية والقصة القرآنية بسبب تباين السياق الزماني والمكاني؛ على سبيل المثال ورد في القرآن أن يوسف قد بيع بثمن رخيص: "وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ". يخالف ذلك ما ورد في سفر التكوين من أن سعر بيع يوسف كان 20 شيكل فضة. من المعروف أن الشيكل يختلف عن الدرهم، وأن الأول وحدة وزن، أما الثاني فيأخذ شكل النقود المعدودة.
هنا ينبغي الالتفات إلى طبيعة المجتمع المُخاطب بتلك الآيات وإلى غاية القرآن من عرضه للقصة على هذا الشكل، وأن التدقيق في نوع العملة لم يكن أمراً مهماً على الإطلاق. ذكر القرآن أن الثمن كان بالدراهم، لأن تلك العملة كانت شائعة في المجتمع العربي زمن الدعوة المحمدية، وكان من المناسب أن يُخاطب المجتمع بالمفردات التي يفهمها ويدركها جيداً في ذلك الوقت حتى تنجح القصة المحكية في التأثير على المُخاطب بأفضل وسيلة ممكنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...