"مفيش فُرجة يا حبيبي"...
يقولها وهو يشدّ مني المجلّة بعنف، ويعيدها إلى مكانها، وسط صف طويل من المجلات المصوّرة المستوردة من أمريكا. بينما أبتعد عن الكشك، ينظر لي "كابتن أمريكا" بحسرة من غلاف أحد مجلات "مارفل"، ويقول لي: "روح هات فلوس وتعالى"، بينما يعقب "باتمان" من غلاف مجلة أخرى: "اللي معهوش مايلزموش"، يتعاطف سبايدرمان ويضيف: "سيبوا الواد في حاله"! يدور بينهم جدل عنيف ، وتتعالى أصواتهم. يخرجون من المجلات ويتعاركون. تحتد المعركة في خيالي، ابتسم. ينظر لي البائع مرة أخرى، ويصيح بصوت أعلى: "يالا يا متختخ".
ابتعد متحسّراً، وانا أحمل حقيبة المدرسة وبها كتب الصف السادس الثقيلة على كتفي وعقلي. أتلفّت مرة أخرى إلى رفوف المجلات. تصمت الشخصيات كلها في وقت واحد وكلٌ يعود إلى غلافه. أحبس دمعة ثانية تريد الهروب بعد أن فشلت في منع الأولى.
يشير لي "عادل" من شباك باص المدرسة: "يالا يا زول، الباص هايتحرك"“.
*****
"مفيش فُرجة يا سمارة": يقولها الرجل الستيني لعادل، بعد أربعين عاماً من المرة الأولى.
"هانشتري الأربعة دول".
أمد يدي بمائتين جنيه مصري، ويمسك عادل بيدي بقوة: "يا مجنون، تدفع فلوس في مجلات من سنة 84؟ دي ورقها أصفر وبهتان".
"مكنش معايا فلوس لما كانت جديدة": أحاول أن أذكّره بالموقف القديم. لا يتذكر، ولكنه تحمس لزيارة الكشك الذي يقع في نهاية شارع مدرستنا القديمة.
هاتفني قبل أربعة أيام وقال إنه سوف يأتي إلى مصر هرباً من الصراع في السودان، وفراراً من تبعيات تجربة طلاق حديث لم يسفر عن أطفال: "قاعد على قلبكم شوية يا مصريين".
ينظر لي "كابتن أمريكا" بحسرة من غلاف أحد مجلات "مارفل"، ويقول لي: "روح هات فلوس وتعالى"، بينما يعقب "باتمان" من غلاف مجلة أخرى: "اللي معهوش مايلزموش"، يتعاطف سبايدرمان ويضيف: "سيبوا الواد في حاله"... مجاز
أحتضنه بمجرد أن أراه. هي المرة الأولى التي نتقابل فيها بعد آخر مرة تركت فيها المدرسة الابتدائية الخاصة، قبل أربعين عاماً، نظراً لظروف مادية خاصة بأبي.
"يا زول، الواحد ماشي في الشارع هناك ومستني الطلقة في قفاه": نضحك بينما نسير في شوارع حي الزمالك بالقاهرة، بداخلي فرحتين، الأولى لرؤيته، والثانية لشراء المجلات الأربع القديمة.
"على الأقل هنا، أخرك عيل معدي بعجلة يظرفك ..... في المؤخرة، ويقولك بالشفا يا سمارة"
أضحك أكتر من اللفظ الخارج الذي قاله. قليلون من ينتزعون البسمة مني، وكان هو منهم، بل أقدمهم.
*****
"طلقتهما بالتلاتة…لا عودة يا فنان"
"أنت متجوز اتنين يا فحل؟"
"السودان. طلقت مراتي وطلقت السودان. العِشرة أصبحت مستحيلة"
ينتهي من وضع ظرف من السكر البُني في فنجان الاسبريسو الصغير. يرشف رشفة لها صوت مقزّز جداً لا يليق بالمقهى الفاخر الذي نجلس فيه، مقهى "خبز الملك"، ولكن العنوان بالفرنسية Bain De Roi.
"لسه بتتكسف من طريقة أكلي وشربي"
يضحك ويذكرني كيف كان صوته العالي وهو يأكل سندوتشات المدرسة يثير اشمئزازي، فابتعد عنه حتى ينتهي، وتكون الإشارة أنه يتجشأ بصوت عال جداً متعمداً معلناً نهاية الوجبة. "قال يعني طريقة أكلي هي اللي كانت بتبعد البنات عنك. كده كده مكنش فيه واحدة بتبص لك". يضحك ويكشف رشفة أخرى من الاسبريسو: "ولا بتبص لي".
يستطرد في قصة زواجه، وأن سبب الطلقة الثالثة هو عدم رغبتها في ترك السودان، وأنها لم تكن تحبه من الأساس، وأن عودته في الطلقتين السابقتين لأسباب لها علاقة بنفوذ أبيها في جنوب السودان، حيث كان يخشى على حياته، حتى دبّر أمر الهرب. هو الآن في أمان في "مصر أم الدنيا".
"يا زول. مفيش فول زي فول القاهرة وطعمية القاهرة وطحينة القاهرة"
يشكو من إحساسه الدائم بأنه ليس له حظ في الزواج، ولذلك لا يفكر أبداً في الزواج مرة أخرى. ثم يشير إلى فتاة عشرينية جميلة في ترابيزة مجاورة، ترتدي فانلة حمالات تكشف ذراعيها: "إلا لو كانت موزّة بدراعات حلوة كده". تلاحظ الفتاة نظراته الشهوانية وتعطينا ظهرها، بينما يضحك هو أكثر: "طب ده كده أحسن"، مخترقا ظهرها العاري بعينيه السوداوين.
نتشارك الأسى واحكي له عن زيجتين فاشلتين في سنيني الأربعين، وأنني فقدت الأمل في النساء وفي "مصر أم الدنيا".
"فاكر لينا الأردنية اللي كنت بتلزق فيها في حصة الموسيقى علشان أستاذ سلطان كان بيخلينا نمسك أيد بعض وأحنا بنغني (وطني حبيبي الوطن الأكبر) بينما تكون قرعتي دوماً أن أجلس بجوار (ريان العجمي) الفلسطيني، وأمسك يده التخينة المتعرقة؟ شتان بين يدي ريان ويد لينا الناعمة يا ابن المحظوظة".
كان ريان يحب عادل جداً وينفق بسخاء عليه وعلى الفصل كله، وكان يجلب لنا الهدايا طوال الوقت، ويتفاخر بمحلات "العجمي" للأجهزة الكهربائية التي تملأ شوارع الزمالك. لم يتحدث عن فلسطين أبداً، برغم أنه ولد فيها حتى أتمّ عامين، ثم هاجر مع أبيه إلى الولايات المتحدة، وعاد إلى القاهرة ليؤسس امبراطورية "العجمي" للأجهزة الكهربائية مع نهاية السبعينيات، حيث فتح الرئيس السادات أبواب الرأسمالية لمن يريد.
"كان الوحيد اللي بيجيب سندوتشات برجر"
"وأنا وأنت مالناش غير الجبنة والخيار"
"فضلت أسبوع فاكره طعمية، لغاية ما أخدت قطمة وبعدين أداني السندوتش كله"
نرد على بعضنا البعض بينما نقف أمام فاترينة إحدى محلات "العجمي" التي صمدت حتى الآن، في نهاية شارع 26 يوليو. ونتحدث عن مصير ريان الآن، أين هو؟ ونتذكّر كيف كنا نواسيه بالرسومات المؤيدة للقضية، والأغاني الحماسية. كان ممتلئ الجسم وخفيف الروح، ولا يجيد لعب كرة القدم، ولذلك كنا نعهد له بحراسة المرمى.
"بس كان بيديهالك كلها علشان بيحبك"
"علشان كنت بضحكه"
كنا نحب خفة ظل عادل. يضحك دوماً بفمه الواسع الذي يشبه فم الفنان اسماعيل يس، برغم أنه كان يعيش حياة بائسة مع أم هو طفلها الوحيد، بعد اغتيال أبيه ضابط الاتصال في الجيش السوداني، اعتراضاً على سياسيات الرئيس النُميري المناصرة للشيوعية... مجاز
كنا جميعاً نحب خفة ظل عادل. لديه قدرة على الإضحاك في لحظة واحدة. يضحك دوماً بفمه الواسع الذي يشبه فم الفنان اسماعيل يس، برغم أنه كان يعيش حياة بائسة مع أم هو طفلها الوحيد، في شقة متواضعة بشارع السودان بمنطقة المهندسين، بعد اغتيال أبيه ضابط الاتصال في الجيش السوداني، اعتراضاً على سياسيات الرئيس النُميري المناصرة للشيوعية.
كان قليل الكلام عن أبيه، إلى أن حكى لي مرة القصة كاملة، وكيف أنه حضر "الغُسل"، ولا ينسى يوم أرسل النُميري ضباطاً بعدها بعدة أيام لكي يأخذوا الأم والطفل إلى منفاها في الصومال، وفي الطريق هربت به إلى مصر.
كانت تعمل في مصنع ملابس بالحوامدية بمحافظة الجيزة، يبعد عن المنزل ساعتين، لتدبير حياتها اليومية بأجر زهيد، وكان عادل يحضر معه نصف رغيف خبز فقط به قطعة جبن بيضاء ممسوحة، ولم يكن مشتركاً معنا في وجبة الغذاء اليومية لارتفاع سعرها، ولهذا كان يتكفّل ريان به، وأحياناً بنا. كان ولداً نظيفاً سخياً.
"تفتكر لو لينا موجودة دلوقت ومتاحة ممكن تتجوزها"
"مش لو عرفت شكلها"
"جايز تكون اتجوزت الواد إبراهيم البغدادي وسافروا أمريكا"
يضحك بشدة، وينظر لي بخبث. يعلم أنني لا أريد أن أتذكر الوجع ولكنه يضيف إمعاناً في استفزازي: "كان شعره أنعم. الزول كان شعره ناعم وأبيضاني، وعينيه عسلي، وأنت كنت مكعبر وتخين وشعرك أكرت". يضحك بصوت عال: "فاكر يوم الخناقة بتاعتكم". يغمز بعينيه.
"أنا جعان"
أحاول الهرب من الذكرى.
"تحب تاكل إيه؟"
*****
كل من يسيرون في شارع جامعة الدول العربية تائهون، حتى وإن بدا غير ذلك. الحفر في كل مكان، وتم تحويل مسارات العديد من الشوارع الرئيسية إلى شوارع جانبية، ووضعت إشارات اعتراضية تدعو السائقين إلى الاتجاه الجديد. أصبحت أجهل الشارع، وعادل يجهله أكثر. أشرح له أن السبب هو المرحلة الثالثة من "مترو أنفاق القاهرة" الذي سوف يمرّ بين الزمالك والمهندسين، وهو مشروع جديد يسمى "الخط الأخضر".
لا أعلم لماذا سمي شارع جامعة الدول العربية بهذا الاسم؟
كل من يسيرون في شارع جامعة الدول العربية تائهون
إن القاهرة هي المقر الدائم لجامعة الدول العربية، ولكن المبنى نفسه في منطقة وسط البلد! عندما أعود بالذاكرة للخلف قليلاً محاولاً أن أستنتج السبب. في الثمانينيات والتسعينيات، عندما كان مليئاً بالسائحين من الجنسيات العربية العديدة، الباحثة عن السهر والحياة الليلية والمقاهي والملاهي الليلية، وفتيات الليل، والفنادق المنتشرة في الشارع الممتد لحوالي ثلاثة كيلومترات، بدءاً من شارع السودان شرقاً وحتى ميدان سفنكس غرباً، بينما يتفرع منه شارع سوريا، ومن سوريا يتفرع شارع لبنان! ومن شارع السودان يتفرع شارع وادي النيل، وفي نهايته شارع عطبرة، وهكذا تجتمع شوارع متفرقة بأسماء الدول العربية في منطقة المهندسين، بدون تواجد فعلي للمكان الذي يفترض أنه يجمعهم معاً. الاسم على غير مسمّى.
"شوية فول وطعمية على ذوقك"
هذا ما اختاره عادل من بين قائمة ضخمة من أصناف اللحوم التي ظننت أنها سوف تسيل لعاب رجل أربعيني نحيف، لا يزيد وزنه عن ستين كيلو جرام.
"يا زول. مفيش فول زي فول القاهرة وطعمية القاهرة وطحينة القاهرة"
أقود السيارة مقترباً من وجهتنا، سائحاً في وطني، في شارع اعتدت أن أحفظه كخطوط كف يدي. أمرّ على حطام الشارع وأتذكر أيام المراهقة، وألمح محل "موسيقى الجيل" الذي أعتاد أن يبيع شرائط الكاسيت في نفس يوم صدورها، قبل خمسة وثلاثين عاماً، وقد تحول لمحل هواتف محمولة واكسسوارات صينية رخيصة. أين موسيقي الجيل؟ أي موسيقى وأي جيل؟ الجيل الذي عاصر شباب هذا الشارع قبل أن يشيخ، كما شاخت الجامعة التي يحمل اسمها.
نظل ندور في دوائر حتى نصل لمحل "التابعي الدمياطي"، بعد أن سلكنا أربعة مسارات بديلة، لا أجد مكاناً خالياً للسيارة أمام المكان. ينظر لي عسكري مرور من مسافة قريبة بنظرة تحذير مرعبة إذا ما فكرت في تركها هنا في الممنوع. يظهر من تحت الأرض "سايس" بصفارة وهو يردّد: "تعالى هنا يا باشا". يدفع سيارة مركونة ويفسح لي مكاناً خلفها: "هنا مش ممنوع، بس هاتسيب مفتاح العربية". أرفض بشدة، ويرد: "يبقى منك للشارع بقى يا باشا". أنفعل عليه، يتابع العسكري ما يحدث بنفس النظرة المخيفة. يتدخّل عادل ويتعمد إظهار لكنته السودانية التي يخفيها طول اليوم: "بص أنا جاي من السودان مخصوص علشان أكل طبق فول بالزيت الحار، أنا والزول ده صحــ...". ينفجر الولد ضاحكاً من اللكنة ويقاطعه: "وربنا عشانك أنت يا سمارة ما واخد مفاتيح. طب إيه رأيك، مش واخد فلوس". ينظر لي بحدة: "خش تعالى عشان خاطر الزول السمارة ده"، ثم بدأ يغني بصوت عال جداً لعادل: "حبيبي لون الشكولاتة... أسمر سمار دمه شرباته"، بينما ينقر على صاج سيارة قريبة. أنظر لعادل فأراه يرقص في بهجة.
"فيه منها 100 قطعة فقط موزعة على سفارات جمهورية العراق في الدول العربية، الرئيس المبجّل صاحب الركن المهيب صدّام حسين". لم أفهم. كرّرها بتعريف أدق وهو يشير إلى صورة الرجل بداخل الساعة: "رئيس الجمهورية"... مجاز
*****
أتذوق طعم الدم في فمي الآن. أتوقف عن الأكل قليلاً. ربما كان خطأي. رأيت في يده ساعة يد حديثة جداً لم أر في روعتها من قبل، تتوسطها صورة فوتوغرافية دائرية صغيرة لشخص ذي شارب كثيف، مخيف المظهر، جامد الملامح. كنا نجلس نحن الأربعة على رصيف إسمنتي صغير في فناء المدرسة، أثناء فسحة منتصف اليوم. يجلس عادل في أقصى الطرف الأيمن، وعلى يمينه ريان الفلسطيني، وعلى يمينه لينا الأردنية بشعرها الذي يشبه شلالاً من الذهب الأسود، وأنا رامي المصري على يمينها وعلى يميني إبراهيم البغدادي العراقي.
اجتماع تافه مصغر لأطفال جامعة الدول العربية، نضحك فيه ونتبادل سماعة أذن ذات نهاية دائرية إسفنجية، متصلة بجهاز ووكمان حديث للغاية، يملكه ريان الفلسطيني، به شريط كاسيت لحميد الشاعري، يغني "جلجلي جلجلة"، وبينما يأتي الدور على عادل لكي يضع السماعة في أذنه، يعترض إبراهيم بشدة لأن عادل أطال السمع في الدورة الأولى، وبالتالي يجب أن يُحرم من الاستماع في الدورة الثانية. يعترض ريان، وأتحيّز أنا لعادل، وتصمت لينا. وبينما يصرخ باللهجة العراقية التي لم أفهم منها إلا كلمة واحدة عنصرية عن عادل، أقاطعه: "مين الراجل أبو شنب مقشة اللي في الساعة ده"
وبينما أنظر إلى لينا لكي أعرف ما إذا كانت قد أعجبتها المزحة، شعرت بيده الثقيلة تصطدم بأسناني بعنف، ثم إحساس الدم الدافئ ينساب من فمي، أعقبه بقبضة أخرى على خدي الأيسر، ولم يتدخّل أحد على الإطلاق، حتى عادل وريان. نظر لي للحظة بينما أجفّف الدماء مذهولاً، ثم غادر المكان غاضباً، وكانت اللكمة الأخيرة رمزية، عندما رأيت لينا تهرول خلفه محاولة أن تطيب خاطره.
؟مش عاجبك الفول"
يعيدني إلى 17 شارع جامعة الدول العربية حيث محل "التابعي الدمياطي" للفول والطعمية المزدحم عن آخره. يرفع لقمة فول مغموسة في سلطة الطحينة إلى فمه، ويأكلها بتلذذ. أتذكر خيانته لي في ذلك اليوم من الماضي البعيد بينما كنت أدافع عنه. أكرهه للحظة، ولكنه يدفع بلقمة طعمية إلى فمي عنوة، ويعقبها بقطعة خيار مخللة.
"اطفح يا مصري. خسيت كتير. فين أيام ما كنت بقرة سوداني"
يضحك بشدة ويتناثر الطعام على وجهي، ولكنه يتدارك الأمر، ويمسح وجهي بمنديل. أخطفه منه وأمسح وجهي بنفسي.
يد طبيب المدرسة تمسح الدماء عن فمي، وأرفض أن أعترف بما حدث، وأشي بالعراقي. عادل وريان يقفان خارج العيادة يشاهدون الطبيب ينتهي من عمله. أنظر لهما أن يلتزما الصمت. يفهمان ما أريد.
"اتخبطت في سور المدرسة"
لم يكن إبراهيم عنيفاً أبداً. كنت أحب أناقته الشديدة ووجهه البشوش، قبل أن تأتي لينا العام الفائت وتلتحق بالمدرسة قادمة من مدرسة للراهبات. لم يكن من الصعب أن أرى ميلها له. نعم هناك قصص حب عنيفة في الصف السادس الابتدائي، لذلك نقلته إلى فص الكراهية في عقلي الصغير.
اقترب مني بعدها بأيام ولمّح لي بأنه ممتن لأنني لم أش به. لم أعلّق. جرى خلفي قبل بداية الطابور المدرس بدقائق، وحاول مرة أخرى، ولكن في هذه المرة خلع الساعة من يده، وقربها مني: "هدية لك"
نظرت له بدهشة شديدة!
"فيه منها 100 قطعة فقط موزعة على سفارات جمهورية العراق في الدول العربية، الرئيس المبجّل صاحب الركن المهيب صدّام حسين"
لم أفهم. كرّرها بتعريف أدق وهو يشير إلى صورة الرجل بداخل الساعة: "رئيس جمهورية العراق والقائد الأعلى لقوات الجيش العراقي".
قالها بنفس هذا الترتيب وبطلاقة شديدة.
يمد يده بالساعة رائعة التفاصيل. تظهر ملامح الرجل أكثر، الشارب الثقيل، والزي العسكري، وصرامة الملامح.
"الرئيس المبجل خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة"
أنظر له بدهشة. أفكر للحظة قبل أن أخذها منه، ولكنه يقضي على تردّدي ويضعها في معصمي ويغلقها.
"في أيدك شكلها أجمل والله. معصمك تخين يا رامي"
لا أضحك، ولكن منظرها مبهر. أدقق النظر في وجه الرجل الذي سخرت منه منذ أيام.
"سوف أتعلم الحقوق يا رامي. تمام مثل الرئيس المُلهِم"
شيء ما عجيب في وجه هذا الرجل. ربما قرأ أفكاري وكان هذا ردّه. أتحسّس الضمادة على شفتي السفلى. أشكره. يقترب مني في ودّ شديد ويحتضنني.
كنا نعلم أن والد إبراهيم ذو منصب عال في السفارة العراقية. كان يأتي إلى المدرسة في سيارة لا نرى من بداخلها، وكان يتكتّم عن الإجابة عن تفاصيل عمل الأب، حتى مللنا السؤال.
يقترب من أذني ويهمس: >والدي الملحق العسكري لسفارة الجمهورية العراقية"
لم أفهم أصلاً معنى الوظيفة، بينما قالها بنفس طلاقته ولباقته التي تسبق سنه. لم يكن إبراهيم يتحدث مثلنا، ولم يكن يهتم بكل ما نهتم به، حتى جاءت لينا إلى المدرسة، وفجأة أصبح فرداً في "جامعة الدول العربية" المصغرة.
"بس الزول صالحك"
يقاطعني عادل وهي يبتلع قطعة موز من كوب فخفخينا عند محلات "عصير فرغلي" في نهاية شارع جامعة الدول العربية. ظننته يقصد الهدية، ولكنه يذكرني بموقف آخر عندما أشار بيديه علامة دائرية مجسداً هيئة كرة قدم.
نصمت ونسمع مركب تتهادى من بعيد على صفحة النيل، ويقترب معها صوت موسيقى نشاز مزعجة، من سماعات صوت رديئة، على بعد أمتار قليلة من هذه البقعة، يقف تمثال أم كلثوم شامخاً في الميدان المسمى باسمها... مجاز
كنت سميناً ورغم ذلك كنت ماهراً في كرة القدم، وكان مدرس التربية الرياضية أستاذ محمود دعبس، يقوم بتقسيمنا لفريقين في يوم الخميس من كل أسبوع. كنت أنا وإبراهيم فقط المهتمان بكرة القدم، وفي معظم الأحيان كان حارساً للمرمى. في هذا اليوم، مررت بالكرة من عدة لاعبين، وصوبتها ناحية المرمى الذي يقف فيه إبراهيم، ولم تكن بالقوة المطلوبة، ولكنها دخلت المرمى، بينما جلس إبراهيم متحسراً، وما أن ابتعد عنه فريقه، حتى غمز لي بعينيه. فهمت أنه فوّت الهدف. غضبت بشدة وعاتبته بعد المباراة، ولكنه دُهش لرد فعلي.
عرفت من لينا فيما بعد أنه حكى لها ما حدث في المباراة، خجلت من نفسي. هجرت حبها من ذلك اليوم، واحتفظت بالساعة التي أعجب بها أبي إعجاباً شديداً، وأشترى لإبراهيم سيارة لعبة تسير بالبطاريات، لكي أردّ الهدية. رفضت الفكرة رفضاً قاطعاً. لا زال بداخلي غيرة ما منه، وعندما أصر، أخذتها منه وأعطيتها لعادل.
أمام نيل الزمالك نجلس، بالقرب من ميدان أم كلثوم. نحملق في صفحة النيل بصمت، أنهكنا الطعام والدوران بالسيارة وداخل دائرة الذكريات. الحنين للماضي ليس دوماً مريحاً. صمت مطبق في ظلام ليل القاهرة، ظهورنا لطريق السيارات ووجوهنا للمياه العميقة. قالوا لنا إن مصر والسودان شعب واحد يجمعهم شربة ماء النيل. لا أعرف إلا صديقي عادل، كرهت الكلام المرسل عن الأوطان والدول، وأغاني الشعارات. لم يكن ينقص هذه الجلسة التأملية إلا إبراهيم وريان، ولتكن لينا في أي مكان في الأرض. لا يهمني.
أريد أصدقائي وأريد الأيام الخوالي، بدون شعارات ولا أغاني ولا أعلام. ما زلت أحتفظ بالساعة، بينما فقد عادل السيارة اللعبة عندما انتقل من شمال السودان إلى جنوبها. لا أعلم مصير الوكمان الخاص بريان، ولكن كنت أتمنى أن يكون هنا لكي نستمع إلى حميد الشاعري مرة أخرى وننفصل عن واقع هذا العالم. ألتفت إلى عادل للحظة وأرى دمعة تائهة على خده الأيمن، أتجاهلها وأتركه لحاله. لن أسأل عن السبب ولن أجفّفها، يجري النيل أمامي ويشبهها في جريانها على خده، يبكي عادل أنهاراً على قسمتنا في الزواج وفقدان الصحبة، تفرّق الأصدقاء وموت الأهل. يبكي نيابة عني، وربما عن الغائبين، ريان الفلسطيني، وإبراهيم العراقي، وربما يبكي للينا ذات القلب القاسي التي لم أرها تبكي أبداً. يبكي عادل نيابة عن شارع جامعة الدول العربية الذي أصبح خرباً.
نصمت ونسمع مركب تتهادى من بعيد على صفحة النيل، ويقترب معها صوت موسيقى نشاز مزعجة، من سماعات صوت رديئة، على بعد أمتار قليلة من هذه البقعة، يقف تمثال أم كلثوم شامخاً في الميدان المسمى باسمها. "وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي": كلمات حافظ إبراهيم شاعر النيل، الذي يقال إنه وُلد على ظهر سفينة راسية على شط النيل في ديروط بصعيد مصر. تقترب المركب ويقترب معها صوت النشاز، وأضواء منفرة، وعلى متنها شباب وبنات مراهقون يرقصون على الموسيقى الشاذة.
دمعة أخرى تسيل على الخد الأيسر لعادل. أضع يدي على كتفه.
"سامحني علشان ضيعت العربية". يعتذر بصوت خافت. ابتسم له، بينما تبتعد المركب المزعجة بمن عليها، ويعود النيل صامتاً، داكناً، حزيناً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...