شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ماتفوتنيش أنا وحدي"... مراكب الشيخ سيّد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 11 فبراير 202312:58 م

حياكة الكلام

 

خارج مصر- 2045

تبرق الصور في مخيلتي بسرعة شديدة لمبان مضيئة لا أتعرّف عليها، بينما تسير بنا سيارة أجلس في مقعدها الخلفي، يقودها شاب في أوائل الثلاثينيات. أجاهد لجمع ملامحه كبازل من مليون قطعة، وبجواره فتاة، لست متأكداً ما إذا كنت رأيتها من قبل، تمسك يده بقوة وتقبّلها من حين لآخر. أفشل في جمع قطع البازل لأتعرّف على الشاب، ولكن تنبعث موسيقى لأغنية ترنّ موسيقاها في صدى عقلي، ووجدتني أدندن معها: "ماتفوتنيش أنا وحدي... ماتفوتنيش أنا وحدي".

القاهرة 2020

"هو هايفضل يقول ماتفوتنيش أنا وحدي كده كتير يا بابا؟".

يستفسر ابني تميم ذو الثماني سنوات، بينما تبحر بنا سيارتي اليابانية ذات اللون السماوي في الطريق الصحراوي.

القاهرة 1985

يبحر بنا أبي بسيارته الفيات 128 ذات اللون السماوي في شوارع القاهرة، تهتز السيارة بفعل الأمواج التي تعلو بسبب المطبات الهوائية الملقاة بدون تخطيط أو وعي في شوارع قاهرة الرئيس "مبارك" لكي تنال من "عَفشة" السيارات، وتوقظ أطفالهم النائمين في أمان الله، كما الحال معي.

ما بين النوم واليقظة، ألمح مباني أتبيّنها بوضوح، نحن في منطقة شعبية داخل القاهرة القديمة، أألف وجوه الناس برغم أني لا أعرفهم بشكل شخصي، أجمل ما في تلك الثواني التي تلي اليقظة هي الصور المضيئة المشوشة داخل العقل، التي تبدو كصور فوتوغرافية مهزوزة مأخوذة بكاميرا في حقبة الثمانينيات. تخدير إلهي ممتع!

تدخل السيارة في حارات وأزقة ضيقة، وأقرأ الشارات التي تحمل أسماء الشوارع المكتوبة باللون الأبيض على خلفية زرقاء، هوية بصرية معروفة لمدينة القاهرة، المباني العتيقة التي بناها الفاطميون، "حي الحسين" "زقاق الوايلي"... طفل عمره اثنا عشر عاماً يتجوّل، نصف مستيقظ، في قاهرة المُعزّ.

تتوقف السيارة أمام منزل في حارة صغيرة، وينزل منها أبي ويتركنا مع أمي في السيارة، يغيب لدقائق ويخرج من باب المنزل القديم بصحبة سيدة في منتصف الأربعينيات من العمر، أنيقة بدون تكلف. تنظر لنا وتشير بيدها، وتنزل أمي وتقف بجوارها، وينظر الثلاثة إلى السيارة، ويدورون حولها، ويرفع أبي غطاء المحرك، وأرى وأخوتي اللون السماوي للغطاء لكي يحجب عنا ما يدور خلفه، ثم ينزل مرة أخرى لأرى السيدة تصافح أبي وأمي في ود، بينما يناولها أبي المفتاح وتتجه لتأخذ مكانها خلف القيادة.

تبرق الصور في مخيلتي بسرعة شديدة لمبان مضيئة لا أتعرّف عليها، ولكن تنبعث موسيقى لأغنية ترنّ موسيقاها في صدى عقلي، ووجدتني أدندن معها: "ماتفوتنيش أنا وحدي..."... مجاز

خارج مصر - 2045

ممرّات في مستشفى، ووجوه أجنبية ذات أعين زجاجية باردة. أشعر بالبرودة، والشاب الذي كان يقود السيارة يسير بجواري ممسكاً بيدي، والفتاة تسير خلفي، تتقاطع في ذاكرتي يافطة زرقاء مكتوب عليها حروف بيضاء بلغة أفهمها. ندخل إلى غرفة ويطلبون مني أن استلقي على ظهري، بينما في الأعلى جهاز عجيب يشبه طائرة هليكوبتر يحلق فوقي. أخاف ويقول لي الشاب وهو يغمز بعينيه "غني ماتفوتنيش أنا وحدي...". ابتسم وقد استوعبت الدعابة بدون أن أعرف من هو صاحبها!

القاهرة 1985

تقود السيدة سيارتنا، يجلس بجوارها أبي وتجلس أمي معنا في الخلف. الأغنية لا تزال تملأ جنبات السيارة، ثم يشرح لنا أبي الموقف بعد أن يخفض صوت الأغنية: "طنط (...)" سوف تشتري سيارتنا، واليوم هو آخر يوم لنا فيها، وسوف تقوم مشكورة بتوصيلنا للمنزل في آخر مشوار لها ولنا فيها.

ثم قام برفع صوت الأغنية مرة أخرى، مستمتعاً بها.

شعرت أن السيارة هي من تغني لنا، له ولنا:

ماتفوتنيش أنا وحدي، أفضل أحايل فيك... ماتخليش الدنيا تلعب بيه وبيك".

بدت صور الشوارع خارج السيارة مهزوزة بفعل الدموع التي زارت عيني، وعيت على هذه السيارة منذ أن كنت في السابعة!

الليل... الليل...

الليل... الليل... الليل... الليل... الليل الليل...

يكررها الشيخ سيد مكاوي ثماني مرات، محاولاً شرح ما يفعله الليل به في غياب الحبيب، بينما أربطها أنا بأول ليلة سوف تقضيها السيارة أسفل منزل السيدة (...)، وحالنا عندما ننظر من بلكونة المنزل ولا نجدها مستكينة في الأسفل بانتظار أمر أبي لها بالتحرك.

خارج مصر - 2045

لا أعرف أين أنا، ولم أنا هنا؟

عادت المباني الغريبة في الخارج تتحرك بسرعة مخيفة مثل الأفكار في ذهني بعد طنين جهاز الهليكوبتر، من هذا الشاب، ومن هذه الفتاة؟ يهاجمني مشهد قصير الزمن لوجه رجل يشبهني، أحسبه أبي، يأتي من مكان دافئ في الذاكرة، ممسكاً بيدي ونسير في أزقة ضيقة، لا أتبين ملامحها... ثم يختفي كل شيء فجأة ويتحول إلى سواد، وأشعر بالنُعاس!

القاهرة 1985

أجمل ما في اللحظات التي تلي النوم، هو تشابهها مع تلك التي تأتي بعد الاستيقاظ منه. صور متداخلة وبواقي أحلام ووجوه تائهة، اللون السماوي للسيارة يطلي حلم الليلة الماضية، وأستيقظ في الصباح بينما يجمعنا أبي أمام كتيب صغير به صور للسيارة الجديدة التي قام بشرائها على أن يتسلمها الأسبوع القادم. اخترت اللون الأحمر.

أخرج إلى الصالة، وألحظ صندوقاً كارتونياً متوسط الحجم لأول مرة أراه، اقترب منه وأفتحه لأجد محتويات السيارة: قداحة أبي، بعض الأقلام التي لا تعمل، ثم عدد من شرائط الكاسيت لمطربي أبي المفضلين. أتوقف أمام ستة شرائط كاملة لسيد مكاوي، ما بين حفلات وألبومات مسجلة وأغان مجمعة. لم يكن سيد مكاوي مطرباً بالمعنى الدارج المعروف، بل كان في الأساس ملحناً يجيد غناء ألحانه ويُطرِب ويُطرَب، وكان أبي مفتوناً به، عندما أمر على أسماء الأغاني، أجدني أحفظ بعضها، أو معظمها، بسبب كثرة استماع أبي لها في السيارة التي فارقتنا إلى الأبد.

تبحر السيارات في الشوارع وهي تحمل ذكريات وقصصاً وشجاراً وضحكاً وحزناً وأغاني، يمكنك التعرف بسهولة على مزاج صاحب السيارة من الشرائط التي يحتفظ بها فيها. تلتصق "ماتفوتنيش أنا وحدي" بذاكرتي، لا تكاد تبرحها، تبقى حية، مسموعة مرتبطة بصورة مزلقان بيتنا، وحوش المنزل الضيق، ويد أبي الممسكة بمقود السيارة، على الذاكرة الآن أن تتكيف وتبدأ في التعامل مع وجود هذه التركة في سيارة حمراء جديدة تبحر بنا في شوارع القاهرة.

صور فوتوغرافية كثيرة تتابع مع مقاطع مصورة يظهر فيها شخصاً يشبهني، أضغط على أنامل الذاكرة بيدي لكي أتذكر الأماكن، في كل اللقطات يظهر تتابع لطفل ثم مراهق ثم شاب ثم رجل يرافقني في كل الصور... مجاز

خارج مصر - 2045

صورتي في المرآة لا تشبهني. سيارة حمراء تمر من خلفي، تأتي من زمن بعيد وتذوب في لون سماوي وكأن فناناً تشكيلياً قد أستأجر رأسي للعمل على لوحة عشوائية الفرشاة. أهتزّ من سخونة المياه بينما يقوم الشاب بتحميتي في حمام فخم. يتحدث عن ذكرياته في بلد تدعى مصر، تائهة في ذكرياتي كمركب ضلت وجهتها في محيط أبدي.

يتحدث كثيراً عن رحلاتنا بالسيارة معاً في شوارعها. يتطرّق إلى الموسيقى التي يتذكرها ويدندن أغاني بلغة أعرفها وأفهمها، تشبه اللغة المكتوبة بالحروف البيضاء على الخلفية الزرقاء التي تغزو عقلي من وقت لآخر، ولكن لا أجد لها مدلولاً في عقلي. سجين في حوض استحمام مع غريب يحدثني عن رموز.

القاهرة 1985

"فين القلب اللي يقدر يستحمل إيه!"

يتحمل القلب الكثير، يتجاوز الفراق والذكريات بحلوها ومرّها، يتكيّف مع مرور العمر وتلاشي الذاكرة وضياع الأشياء التي نحبها وتحبنا.

"زي المركب ما تبقى محتارة بين شطين"

سيارة جديدة نبحر بها في شوارع القاهرة، لون مختلف وموديل أحدث، وصالون أكبر، وجهاز كاسيت متطور ونفس الأغنية. الشيخ سيد يبحر بنا في مزاج أبي المنتشي، ويتأكد من حفظنا لكل كلمة كتبها الشاعر حسين السيد.

نحفظ عنك وعنه يا شيخ سيد، ربما تظل هذه الأغنية عصيّة على النسيان، ربما تعلق في مراكز الذاكرة البعيدة بعد أن يداهمنا الزمن ونشيخ في محيط الحياة المهيب. نبحر بعذوبة اللحن، وطلاقة الكلمات وصدقها في تلافيف المخ المتشابكة.

يرى الشيخ سيّد أبعد مما نرى، يشاهد أبعاداً وألواناً خلف نظارته السوداء في الصورة التي تحتل غلاف الشريط، ينقل لنا ما يراه ويسمعه، بينما نحن بداخل علبة من الحديد، مغلقة علينا.

خارج مصر - 2045

صور فوتوغرافية كثيرة تتابع مع مقاطع مصورة يظهر فيها شخصاً يشبهني، أضغط على أنامل الذاكرة بيدي لكي أتذكر الأماكن، في كل اللقطات يظهر تتابع لطفل ثم مراهق ثم شاب ثم رجل يرافقني في كل الصور...

"ده أنا يا بابا"

ينادي بلغة مختلفة داخل الغرفة المضيئة الواسعة...لا أميز إلا كلمة واحدة فقط من الجملة "ما تفوتنيش أنا وحدي...".

تخرج موسيقى الأغنية من كل مكان بالغرفة، تصاحبها ألوان متناثرة تخرج من كشافات غير مرئية.

"أنت هنا في بيتي في أستراليا"

تخرج الأغنية بصوت مختلف تماماً عن صوت أبي، وعن صوت "الشيخ سيّد". أنظر للشاب وقد بدأت أحدّد التشابه بين ملامحه وملامحي.

" أنا تميم ابنك".

أرى صورته مشوشة بفعل الدموع التي تزور عيني الآن. أشير إلى مصدر الصوت، وأضع يدي على أذني.

"ده مش الشيخ سيد. عندك حق...كتير غنوها. دي بصوت هاني الدقاق. فرقة مسار إجباري. تحب أشغلهالك بصوت الشيخ سيد؟".

أجد نفسي أشير له بأن يتركها.

القاهرة 2020

"هو هايفضل يقول ماتفوتنيش أنا وحدي كده كتير يا بابا؟": يستفسر ابني تميم ذو الثماني سنوات، بينما تبحر بنا سيارتي اليابانية ذات اللون السماوي في الطريق الصحراوي.

- ده اسم الأغنية يا تميم، "ماتفوتنيش أنا وحدي"

- مش هاسيبك يا بابا متخافش!

- دي بصوت هاني الدقاق... فرقة مسار إجباري

- تعرفه؟

- آه صاحبي

- طيب ممكن تروح له بقى وتشغل لنا حاجه تانية تخرم لي ودني!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard