شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
العاشرة والنصف صباحاً مع ثريا حلمي

العاشرة والنصف صباحاً مع ثريا حلمي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 14 سبتمبر 202411:02 ص

تصميم حروفي لكلمة مجاز


قضت أيقونة "فن المونولوج" ثريا حلمي، حياة غنائية مليئة بالبهجة والفكاهة اللاذعة. شيّدت مهنة مجيدة، وخاضت معارك هادئة من أجل نقاء النوع دون أن تمزجه بالنكات أو الهرج، لكنها كانت قادرة أيضاً على إنهاء شقاق منزلي حدث لي في الطفولة، كانت معركتها ضد أمي، وأمي بالمناسبة ثريا أخرى.

لم تكن الحياة سهلة أبداً بين أمي وخالي. كان شقيقها التوأم، وإذا وضعت له أحمر شفاه أو رسمت لها شارباً، ستفهم ما أعنيه حين أقول توأم. بعد وفاة أبي، حدث خلاف كبير بين أمي وخالي، خصام ألتهم معظم فترة طفولتي. لم يستطع أحد أبداً أن يتوسط لإنهائه، لذا تصورت أن ربما سبب الخلاف هو تسبّب خالي في وفاة أبي في سن مبكرة، خصوصاً وأن "سرهما كان لبعض".

بعد عدة سنوات تطوّر طقس سري وغريب بين أمي وخالي. كانت أمي تغض الطرف عن حضور خالي سرّاً أثناء غيابها عن المنزل. كان يأتي إلى منزلنا مرّتين كل شهر، يختار موعداً غير متوقع، يطبخ أو يصنع مخبوزات أو يصلح أحيانا أشياء في المنزل. يشتري فستاناً لأمي أو لعبة من أجلي. كان أيضاً ملكاً متوجاً في عمل أشهى طبق بيض بالبسطرمة. أحياناً أيضاً كان يأتي إلي منزلنا ولا يفعل شيئاً، ثم ينصرف قبل أن أعود من المدرسة وتعود هي من عملها.

كان المنزل في الأصل ملكاً لجدتي، ثم تركته لأمي ليكون مسكناً للزوجية، واتخذت جدتي منزلاً كبيراً يتسع للعائلة، في غيط العنب بالإسكندرية. شيئاً فشيئاً شغلني الوقت الذي كان يقضيه خالي في منزلنا، وكنت أحياناً حين أعود من مدرستي، وقبل أن أخلع حقيبتي وأبدّل ملابسي، أعيد تمثيل تحرّكه داخل المنزل، كما لو كنت حريصاً ألا أعبث بأدلّة الجريمة، أين جلس؟ وماذا فعل؟ وكم سيجارة دخن؟ أجسّ حرارة البوتاجاز والوسادات التي استخدمها، وأميّز تراب السكك الذي علق بمشاية المدخل. كنت أفحص حتى كيس القمامة.

لم تكن الحياة سهلة أبداً بين أمي وخالي. كان شقيقها التوأم، وإذا وضعت له أحمر شفاه أو رسمت لها شارباً، ستفهم ما أعنيه حين أقول توأم... مجاز

لكن كل شيء تغير فجأة، حين شاهدت مع أمي على شاشة التلفزيون برنامجاً كان يستضيف المونولوجست ثريا حلمي. كانت قد تجاوزت الخمسين، لها بطن بمنحنيات بارزة. تضع نظارة كبيرة معتمة. كان تأخذ قطعة قطعة من ملامح كل سيدات العائلة لتصنع ملامحها. وكطفل لم يكن يعنيني ما تتحدّث عنه، خصوصاً وهي تتحدّث مثل أمي مع الباعة. تحدثت ثريا حلمي إلى مقدمة البرنامج بغضب بالغ. اتهمت مسؤولي الإذاعة عن بثّ المونولوجات في الساعة العاشرة والنصف صباحاً.

لم تفهم المذيعة سبب غضبها من توقيت العرض، لكن ثريا حلمي أوضحت أن العاشرة والنصف صباحاً هي ساعة بثّ ميتة، حيث تكون البيوت خاوية. قالت للمذيعة إن في هذا التوقيت تكون السيدات في العمل أو تنشغل بالطبخ والتنظيف، والرجال في أشغالهم، وطالبت بعرض المونولوجات في السهرة.

قلت لأمي: "هذا هو نفس التوقيت الذي يحضر فيه خالي إلى المنزل". لم تهتمّ وغيّرت القناة التي كانت تذيع البرنامج. لم أنم في تلك الليلة حتى بنيت خطة. تسلّلت سرّاً في الليالي التالية وفتشت في مقتنيات والدي. كان يحتفظ بدرج للمجلات والكتب القديمة. نسيت بالطبع ما الذي كنت أبحث عنه، لكن في النهاية تذكرت أنني في مهمة بحث عن ثريا، ثريا حلمي التي يقضي معها خالي وقته الخاص في منزلنا، في الساعة العاشرة والنصف صباحاً. قصصت أخباراً عنها، وأغلفة تظهر فيها ثريا حلمي.

كان هناك غلاف تعلن فيه عن مشروب جديد اسمه "كوثر الجديدة": "ثريا حلمي تفضلها، لأنها خلاصة أفخر أنواع الليمون". في الصباح التالي وجدت أمي تلك القصاصات ومزقتها، عرفت ذلك من كيس القمامة. يبدو أنني تسبّبت بضرر كبير، لقد خلقت في عقل أمي ارتباطاً شرطياً بين شقيقها وبين ثريا حلمي. كان خالي يملك ورشة لترميم الأنتيكات والتحف في سوق الخشب. ذهبتُ إليه ذات يوم كي أحكي ما حدث، لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة. كان هناك اتفاق ضمني صارم يمنعني من فتح سيرة ذهاب خالي إلي منزلنا، لكني أهديته يومها مجلة قديمة غلافها يحمل صورة فيلم تشارك فيه ثريا حلمي بدور ثانوي. ومع ذلك دفعته للحديث عنها.

تحدث عن ثريا حلمي بجمل قصيرة لم أفهمها، وربط بينها وبين أمر آخر. كان يحكي عن حلم الرئيس أنور السادات أن تكون العمارة في مصر مثل هونج كونج. كان يبدو أن خالي يسخر منه، أو تمنى لو أن ثريا حلمي تصنع عنه مونولوجاً، لكنني تخيلت الأبطال الخارقين يطيرون في هذه البلد الخيالية.

قرأت أكثر عن ثريا، عرفت أن عدداً قليلاً من فنانات المونولوج ازدهرن بشكل مذهل في منتصف الثلاثينيّات، لكن القليل منهن كن موهوبات مثلها. كانت ثريا حلمي- واسمها الحقيقي ثريا على محجوب - طفلة معجزة، ولدت في مدينة مغاغة عام 1923. قضت طفولتها بين السفر والموسيقى، متجوّلة مع أبيها بين المدن المصرية، والذي كان يعمل وكيلاً للفنانين.

كانت ثريا تتحرك بصخب وتوزع تعبيراتها بطريقة كأنها تتفاعل مع جمهور مسرح حقيقي، تفتح ما بين ساقيها وتهزّ صدرها وتتمايل بظهرها للخلف، ولا تختار الوقفة غير الوقورة ولا تتحرّك أيضاً بإغراء... مجاز

في سن الخامسة عشر، قيل لثريا إنها ستكون تحت الاختبار لمدة شهر في صالة ببا عز الدين، مصنع النجوم. كان ذلك بمساعدة شقيقتها. عرفت أن بمجرد حصولها على الفرصة تمتعت بقبول فائق لدي الجمهور، متفوقة بطريقتها الخاصة على الجميع. كطفل حاولت إيجاد أوجه الشبه بين الثرياتين، ثريا أمي وثريا حلمي. ولدت ثريا سليمان في حي العطارين بالإسكندرية عام 1943. قضت أمي طفولتها بين ورش النجف والأنتيكات، مصنع الحرفيين القدامى، متجولة مع أبيها الذي كان يملك مجموعة من الورش هناك. في سن السابعة عشر قيل لها إنها ستكون تحت إشراف جدتي في إدارة تجارة العائلة بعد وفاة جدي، لكنها تركت كل شيء لشقيقها التوأم، وفضّلت أن تسافر بلا وجهة، لكنها عادت منهزمة في النهاية، تعيش حياتها كأنها تشهد فنها يزول، مثل ثريا حلمي.

شاهدت ثريا حلمي تؤدي مجموعة من المونولوجات في استديو التلفزيون المصري في أواخر الستينيات. تبدو ثريا حلمي تودّع فن المونولوج. شعرت بذلك من الطريقة التي تتفاعل بها مع الاستديو. كانت ثريا تتحرك بصخب وتوزع تعبيراتها بطريقة كأنها تتفاعل مع جمهور مسرح حقيقي، تفتح ما بين ساقيها وتهزّ صدرها وتتمايل بظهرها للخلف، ولا تختار الوقفة غير الوقورة ولا تتحرّك أيضاً بإغراء. كانت تشبه ربات المنازل حين يتم دعوتهن لحفلة حقيقية.

في لقاء تلفزيوني، كانت ثريا كما لو أنها ضد مشروع أم كلثوم في هذه الفترة، المرتبط لإرضاء الجمهور أكثر من أي وقت مضى بصورة السيدة الوقورة الكمّل، ربة الحب. يقال إن مذهب أغنية "حب إيه" كان مكتوباً خصيصاً من أجل ثريا حلمي، قبل أن تعجب به أم كلثوم وتغنيها.

حين كنا نجتمع لمشاهدة فيلم أبيض وأسود على  القناة الأولى وقت الظهيرة، كانوا الأطفال في العائلة لا يميزون بين ثريا حلمي وسعاد مكاوي، لا على مستوى الاسم أو الشكل، بل يستبدلون الواحدة بالأخرى في أفلام ومونولوجات. لكن ذات مرة في سهرات العائلة، حين اعترفت زوجة خالي أنها أيضاً أحياناً تخلط بين ثريا حلمي وسعاد مكاوي، دار نقاش حول ثريا حلمي تحديداً، قالوا إنها خفيفة الظل أكثر، تتلاعب بالعقل، هشّة لكنها ليست سهلة الكسر. خالي أضاف أن من المدهش أن تصنع مونولوجاً على شكل أحجية، وعلى المتلقي حل الشفرة، وأن تكون موجهة جمهورها الأساسي والأول، الجمهور السكير، جمهور صالة ببا عز الدين وبديعة مصابني.

الآن بعد مرور السنوات، أحياناً حين أعود إلى المنزل مبكراً، وتكون زوجتي في العمل وابني في التمرين، إذا صدف وأذاعوا مونولوجاً لثريا حلمي في إذاعة الأغاني، أحب أن تكون الساعة قاربت على العاشرة والنصف... مجاز

كانت السهرات في منزل جدتي تشبه احتفالاً كبيراً، لا يعرف أحد من حضوره سبب مناسبته، فتجد الجميع سعداء بلا معنى. هذه أكثر منطقة مضاءة في طفولتي، حتى الانهيارات العاطفية كانت تشبه حالة غنائية من فيلم. في إحدى تلك السهرات، وبعد مشاهدة مباراة ساخنة في الدمينو، وانتصار خالي سليمان على الجميع. كان ذلك الانتصار نادر الحدوث لخالي سليمان ضد أي احد. وبعد شرب البيرة، والسكر الخفيف، راقبت تفاصيل انسجامه حتى النهاية. في التسعينيات كانت شرائط الفيديو ملاك السهرة.

شاهدنا فيلماً لاميتاب باتشان، ثم حفلة زواج نجم سينمائي لا أتذكره، بعدها قام خالي بتشغيل شريط فيديو لمجموعة من الأغاني النادرة، ثم ظننت أنه تعمّد تشغيل مجموعة من مونولوجات ثريا حلمي في آخر الليل. شاهدت لأول مرة تسجيلاتها الأخيرة للتلفزيون، في السهرة كالعادة، يتجنب خالي وأمي أن يحدث أي تفاعل بينهما. ذهب إلى المطبخ وجهّز العشاء، وحين عاد كانت تغني ثريا حلمي، فردّد معها:

"يا نونو عيب

 يا فخدة عيب

يا انجغة عيب

عيب اعمل معروف

عيب ما نتش مكسوف"

أمسك خالي بذراع جدتي لترقص وتتمايل معه دون أن تقوم من كرسيها، ثم رقص مع زوجته، ثم توقف عند المكان الذي تجلس فيه أمي، واستدار بحركة راقصة ورفع ذراعه لأعلى ورقص لأجلها وهو يعطيها ظهره.

الآن بعد مرور السنوات، أحياناً حين أعود إلى المنزل مبكراً، وتكون زوجتي في العمل وابني في التمرين، إذا صدف وأذاعوا مونولوجاً لثريا حلمي في إذاعة الأغاني، أحب أن تكون الساعة قاربت على العاشرة والنصف.

في ذكرى رحيل المونولوجست ثريا حلمي  (26 سبتمبر 1923 - 9 أغسطس 1994)


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image