شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أنا قلبي مجمع أديان

أنا قلبي مجمع أديان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 17 سبتمبر 202412:05 م

خفق قلبي محبةً للمرة الأولى عندما كنتُ في الصف الأول الثانوي لجار لي يدعى "كيرلس". انتظمنا في دروس اللغتين العربية والإنجليزية معاً، وشعرتُ بأنه رجل مكتمل النضج في كل مواقفه. حتى عندما كان يحاول أن يكبح جموحي تجاهه، عبر بناء حائط صد وهمي يقيه الوقوع بغرامي. بحلول العام الدراسي الثاني كنا قد انغمرنا بدوامة هائلة من المشاعر لم تفلح معها عقلانيته، ولم يرجعنا عن اندفاعنا في علاقة محبّة بين مراهقة مسلمة وآخر مسيحي سوى خوفنا الهائل على بعضنا البعض.

بعدما حضرتُ معه قدّاس الميلاد  فاحت رائحة محبتنا وبلغت دارينا. اشتعلت الحرائق في حياتي، إذ اعتبر أهل بيتي أن من العار أن تنشغل طالبة في الثانوية العامة بشيء غير الانكباب على الدراسة، خصوصاً لو كان هذا الشيء هو ممارسة "العشق والتمعشق"  مع صبي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره ويعتنق ديانة أخرى غير ديانتي؟

لم تضيّع أسرة حبيبي الأول الوقت في انفجارات لن تجدي نفعاً، وصلتني أخبار تفيد بتعجبهم من محبة ابنهم بفتاة قصيرة ونحيفة ولا تؤمن بفداء المسيح، وفي خلال أقل من شهرين كانوا قد هجروا المنطقة بأسرها، تاركين كل شيء خلفهم، وغير عابئين بفتاة هزيلة تزن أربعين كيلو جراماً من الفقد والذكريات.

بعدما حضرتُ معه قدّاس الميلاد  فاحت رائحة محبتنا وبلغت دارينا. اشتعلت الحرائق في حياتي، إذ اعتبر أهل بيتي أن من العار أن تنشغل طالبة في الثانوية العامة بشيء غير الدراسة، خصوصاً لو كان هذا الشيء هو ممارسة "العشق والتمعشق"  مع صبي يعتنق ديانة أخرى غير ديانتي

العشرون ومغامراتها

أكملتُ عامي العشرين وأنا في معية رجل يكبرني بخمسة وعشرين عاماً. كان فائق الأناقة، بارع الطول، شديد الحكمة، تعلمتُ منه عدم التسرع في الحكم على الآخرين واكتسب مني تلك القدرة العجيبة على المحبة حتى في أحلك الظروف وأعصبها. أخبرني أنه مسلم على طريقته، لكنني وجدته أبعد ما يكون عن المسلم العادي. لقد استحدث ديانة موازية للإسلام وهي ليست إسلاماً بالشكل المتعارف عليه؛ يسجد يومياً ويتبتل لخالقه لكن دونما صلاة. يكتفي بالنزر اليسير من الطعام عبر وجبة وحيدة بعد صلاة العشاء معتمداً على الماء خلال النهار بطوله. يشدّ الرحال إلى الحرمين دونما تأدية طقوس العمرة أو الحجّ، مكرساً كل وقته في خدمة زوار بيت الله ومسجد رسوله. ينفق أكثر من ثلاثة أرباع دخله السنوي المهول على أهل الله كما كان يسميهم. يمتلئ قلبه وينطق لسانه بذكر ربه من خلال عبارات ابتهال خاصة به، أنشأها لنفسه لتكون وسيلة تواصله مع إلهه.

أحببته حباً جمّاً، وشعرتُ في حضرته بأنني ملكتُ خير الدنيا والآخرة. سجدنا سوياً لساعات لم نشعر بها، وقرأنا القرآن في جلسات ممددة بحديقة منزله الخلابة. مررنا على مئات البيوت المتواضعة الخاصة بأحبابه الذين وهب حياته لأجلهم، وجلسنا لساعات مع أناس كان يتفنّن هو في إظهار مودته لهم كي لا يشعرهم بأنه يساعدهم. حظيتُ منه ذات يوم باعتراف لمس شغاف قلبي، بأنه يشعر دوماً بالتقصير في حق هؤلاء القوم، لا لشيء إلا لأنه اعتبر ما يفعله معهم ليس سوى مساعدة لنفسه يحتاجها كي يشعر بآدميته وصلاحه.

كم قبّلته بعد اعترافه هذا، حتى خلت أني سأظل ملاصقة لشفتيه حتى موته أو موتي. قبلته وعانقته وتمدّدتُ إلى جواره كطفلته الصغيرة الكبيرة، حتى فاتحني ذات مرة وأنا بين ذراعيه بأنه يريد مقابلة أبي ليطلبني منه. لم أحتمل الفرحة، فرحتُ أبكي من السعادة حتى انغلقت جفوني، وطالبته بتلاوة رقيته الخاصة حتى تنفتح والمدهش أنها انفتحت.

رُفضت كل محاولاتنا في إقناع أهلي بزواجنا. جربنا كل الحيل والمراوغات وأسفرت كل مساعينا عن العدم، إذ شكل فارق السن بيننا الحجّة التي أشهرت في وجهي وتمت معايرتي بها حتى الآن، فلا زلتُ يتم تذكيري في كل مرة تندلع بها مشكلة في بيتنا، حتى لو لم أكن طرفاً بها، أنني قد جئتُ بعريس يكبرني بربع قرن. اكتسبتُ مرونة أكبر في استقبالي لنبأ الفراق، ولم أناقش حبيبي في قراره بالرحيل عن البلد بأكملها. تركته يذهب دونما عتاب واكتفيتُ برسالة وداع مطمئنة ومحبة، أودعتُ قلبي هدهدة تليق بخيبته، ثم انطلقتُ في حياتي نحو مغامرة جديدة وغير متعمّدة.

شكل فارق السن بيننا الحجّة التي أشهرت في وجهي وتمت معايرتي بها حتى الآن، فلا زلتُ يتم تذكيري في كل مرة تندلع بها مشكلة في بيتنا، حتى لو لم أكن طرفاً بها، أنني قد جئتُ بعريس يكبرني بربع قرن

كثير من الحب... قليل من الخوف

عملتُ لعامين على مشاريع تخصّ التراث العربي ونقله إلى اللغات الأجنبية، وفي أثناء عمليات الترجمة الدؤوبة، تعرفتُ على باحث أمريكي مهتم بالشأن العربي ويسعى إلى التواصل مع الناطقين باللغة العربية، خاصة المشتغلين بالشأن الثقافي. كان وسيماً وهادئاً وصبوراً، علمتُ بديانته صدفًة حينما وجدت التهاني تنهال على صفحته بيوم كيبور، "عيد الغفران اليهودي" والمتمّم لأيام التوبة العشرة. شعرتُ وكأن الكون يريد أن يبلغني رسالة عن طريق هذا التنوّع الهائل لمعتقدات الرجال الذين دخلوا حياتي.

تقاربنا في وقت قياسي واكتسب زماني في صحبته صفة الصديق مأمون الجانب. كنا نقضي الصباح في العمل البحثي المشترك، نتبادل الآراء حول الترجمة، نتشارك الدوريات الثقافية، ثم نستمع بنهم إلى بعضنا البعض لنخرج بأفضل النتائج الممكنة، وحينما يحل الليل يقضي الشوق منا وطراً، فنصرف الساعات ونحن نتحدّث عبر مكالمات فيديو مطولة. نأكل سوياً ونضحك سوياً، ونتشارك الملحوظات حول أطعمتنا المفضلة وقطع الأثاث الأنتيكا التي أهواها، وملابسي التي يراها تحمل كل جماليات التراث العربي، ثم نستمع إلى قصائد محي الدين ابن عربي التي كان يبرع في المجيء بتفسيرات جديد لمعانيها.

مرت السنين ونحن مخدّران بفعل العشق الصوفي الذي بذلناه، إلى أن جاء اليوم الذي توقعته وقد تأخر نوعاً ما، بيد أنه عوّض غيابه بضراوة أحداثه. توفيت شقيقة إبرام التؤام في حادث سير مروع، الأمر الذي جعل شخصيته تتبدّل بنسق أفزعني. تحول ذلك الرجل الهادئ إلى مخلوق حاد المزاج، سريع الغضب، شديد العصبية.

حاولتُ لشهور المكوث بجانبه وإحاطته بشتى وسائل الدعم التي أعرفها والأخرى التي سألتُ عنها المختصين النفسيين، إلى أن طالبني ذات يوم بأن أعفي نفسي من هذه المسؤولية. عملتُ على إثنائه عن قراره لكن بلا فائدة، فلقد نفّذ قرار الفراق الأحادي بشكل فوري. انقطع عن الرد على مكالماتي ورسائلي، وأنهى الجزء المتبقي من آخر مشروع ترجمة جمعنا بمفرده، ثم عندما تأكد أنني برأتُ من تعلقي، عاد بعد عامين إلى السؤال عني بشكل رسمي. أعادني غريبة وكأنني لم أكن نور الروح  الكسيرة ومهجة القلب العليل، كما كان يطلق عليَّ. تفهمتُ موقفه ولم أره مخطئاً لأسامحه، امتننتُ له على نفحة المحبة الربانية التي عشتها معه، ومضيتُ كعادتي في طريقي وحدي.

علمتُ بديانته صدفًة حينما وجدت التهاني تنهال على صفحته بيوم كيبور، "عيد الغفران اليهودي" والمتمّم لأيام التوبة العشرة. شعرتُ وكأن الكون يريد أن يبلغني رسالة عن طريق هذا التنوّع الهائل لمعتقدات الرجال الذين دخلوا حياتي

سبات عشق عميق

بعد تعييني في أحد أكبر الاتحادات الرياضية الدولية، وذات محفل رياضي هام تم اختياري لتنسيقه، قابلتُ رجلاً يعمل كمترجم فوري، ويشترك في التنسيق للفعاليات الرياضية من باب تزجية الوقت. مضينا أكثر من عشرين يوماً نعمل بشكل متواصل، وكنا نجد أوقاتا معقولة لتبادل أطراف الحديث حول حياتنا. أخبرني أنه عائد لتوه من تونس بعد فترة عمل زادت عن الخمسة أعوام، كما استنبطتُ من خلال تعاملاتنا أنه "لا أدري"، وبمرور الأيام تأكدتُ من صحة الأمر.

كان لا يمتلك يقيناً محدداً تجاه أي أمر من أمور حياته أو العالم من حوله، فعندما تجيء سيرة أبيه؛ الشخص الوحيد الذي لا يغادر ذاكرته وأدعو له أنا بالرحمة، لا ينطق سوى عبارة واحدة: "مش متأكد إذا كان ربنا حيرحمه أو لا، مش متأكد أصلاً من وجود الرحمة من عدمه!". وكعادتي في الانجذاب لرجال لا يتشابهون في معتقداتهم مع السواد الأعظم من بني جلدتي، أكملتُ بتصميم ما قد ابتدأته.

أحببتُ كونه رحّالة حقيقياً دونما أن يعي بواقع أنه سندباد، لا يمر يوم عليه إلا وهو يذرع أحياء القاهرة القديمة علّه يحظى بشارع لم يكتشفه بعد. لم يفت عليَّ أسبوع وأنا في حياته إلا وأنا عابرة بمدينة جديدة لم أزرها إلا معه. كان طائراً يسافر أكثر مما يحط على شجرته. ذهلت عندما عرفت ُمن جواز سفره بأنه زار أكثر من ثمانين دولة خلال أقل من خمسة عشر عاماً، ولم أتعجّب حين اعترف لي بأنه قضى مع أهل بيته أقل من عُشر ما يقضيه الإنسان الطبيعي، الأمر الذي عوّده على الاستقلالية حتى في الوحدة، كان وجوده غامضاً ولذيذاً في الوقت نفسه، حتى عندما طلب مني الزواج وطالبته بتأجيل الأمر قليلاً ريثما أنتهي من بعض المسؤوليات، لم يكلف نفسه عناء السؤال عن ماهية هذه المسؤوليات أو توقيت انتهائها. أعجبني فيه أنه رجل لين المعشر وخفيف الوجود، حتى وقع ما تطلب وجوده المكثف وحضوره الدائم.

أصيبت أمي بسرطان متقدم في الثدي، ما شغلني عنه لأكثر من أسبوعين لم أتمكن خلالهما من رفاهية تصفح المكالمات والرسائل الواردة. بعد عشرين يوماً  انقضوا في المستشفيات ومراكز الأشعة ومعامل التحاليل، تمكنتُ من الإمساك بهاتفي قبيل النوم، لأجده عامراً برسائل ومكالمات من الجميع إلاه. جاءني خاطر ضعيف بأنه قد يكون عنده ما يمنعه من السؤال عني، لأكتشف من خلال حسابه على فيسبوك بأنه يمارس حياته اليومية بكامل عنفوانها من رحلات ومغامرات وأسفار. أغلقتُ الهاتف لأخلو بنفسي وأحاسبها على العيش في كنف رجل منفصل عن العالم ومتقوقع في ذاته. اكتشفتُ بعد ثلاث سنوات أنني كنتُ بصحبة شخص "لا أدري" بالمعني الحرفي لا المجازي. هذا الإنسان لا يدري بأي شيء خارج عوالم ذاته المنغلقة بإرادة منه. بلغت يقين أنه تعمّد تجاهلي حتى لا يعرف أخباراً قد تغير من روتين حياته اليومية، فيصبح مضطراً أن يكدّس ذاكرته بأنباء هو في غنى عنها وعني وعن الجميع. طرحتُ هاتفي أرضاً ورحتُ في نوم مُغرق، صحوتُ من بعده إنسانة أبعد ما تكون عن التي راحت في سبات عميق قبل نصف يوم.

ما إن تركته حتى انطلقتُ نحو بيتي، أغلقتُ بابي عليَّ، ثم قرّرتُ البدء في مشاريع ترجمة كانت مؤجلة، أخرجتُ كل طاقتي في الشيء الوحيد الذي لم يخذلني قط وأظنه لن يفعلها أبداً

أينما تكونوا يدرككم العشق

بعد انتقالي إلى الإسكندرية بخمسة أعوام، أعجبتُ بشاب يصغرني بقليل، وكان كما يحب أن يعرف نفسه "ملحد تمام الإلحاد"، ويحترم جميع العقائد وهو ما جعلني أستبشر كوني قد صرتُ "لا اكتراثية" منذ زمن. في البدء قاومتُ شعوري ناحيته بشتى الطرق بعدما أثبتت لي التجارب أن قلبي لا يصلح سوى للزيارات القصيرة، وأنني يجب أن أتقبّل فكرة انقضاء بقية العمر بمفردي تماماً. حاولتُ وسعيتُ وقاومتُ، وخارت دفاعاتي، تسلّل ذاك الرجل إلى قلبي عبر حلم الأمومة، أشعرني بأنني أمه التي ظل يبحث عنها منذ أن ولد.

كان يأتي إلىَّ كل ليلة لنلعب الشطرنج ثم يلقي بأجولة همومه في حجري، تاركاً لي حرية التصرف بها وبه، لم يعبر عن إعجابه ولكنه فعل ما هو أكبر، إذ إنه وضعني في الدور الذي أحبه، دور "حلالة عقد الرجالة"؛ فكنتُ أستمع وأحلّل وأناقش وأفنّد وأقدم حلولاً جادة.

ذات نهار بينما كنا نتجول قرب الكورنيش صرح لي بأنه جاء إلى هنا من قبل بصحبة حبيبته الصينية الحالية. كنتُ واقفة فجلستُ أرضاً. استشعر إعيائي فناولني زجاجة مياه ووعدني بأنه سيعرفني عليها عندما تجيء لزيارته خلال شهور. أكملتُ اليوم بصحبته بمنتهى العادية، ثم ما إن تركته حتى انطلقتُ نحو بيتي، أغلقتُ بابي عليَّ، ثم قرّرتُ البدء في مشاريع ترجمة كانت مؤجلة، أخرجتُ كل طاقتي في الشيء الوحيد الذي لم يخذلني قط وأظنه لن يفعلها أبداً. 

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard