بدأت بارتداء "العباية" عندما كنت في الصف الثامن إعدادي، والتزمت بها بشكل كامل بعد ذلك بسنة أو سنتين. لم أكن حينها أشعر بالاستياء منها، فقد كانت شيئاً متعارفاً عليه، فقد أتيت من بيئة لا تعتبر العباية جزءاً من لباس المرأة اليومي. كنا نرتديها فقط عندما نذهب لمشوار طويل في السيارة، أما في منطقتنا فكنا نرتدي ملابس طويلة، كالمخور (زي تقليدي) والفساتين "المحتشمة" مع الحجاب، ولكن صارت العباية مؤخراً قاعدة واجبة وغير قابلة للكسر بسهولة، صارت سجناً ينبغي أن تحمله كل امرأة عمانية على كتفها أينما ذهبت.
منذ فترة غير قصيرة، كانت النساء العمانيات يرتدين لباسهن التقليدي، ثم التنانير الطويلة بعد ذلك، ولم يكن هناك وجود لذلك الرداء الأسود الكئيب، ليكون شكلاً مألوفاً وغير مستنكر، إلى أن أصبح هو الشكل الوحيد المألوف وما عداه مثير للجدل والاستنكار.
عندما ارتديت العباية كنت معجبة بها وبالتطريز الذي عليها، وكنت أرى عماتي وخالاتي وبنات أعمامي يرتدين العبايات المطرّزة بالألوان لتصبح مقبولة في نظرنا، وكبرت، وفصّلت عبايات أخرى، سوداء في الغالب بتطريزات ألوان مختلفة، ومن ثم بدأت بارتداء العبايات الملونة، وكان أول لون غير أسود أرتديه للجامعة هو الكحلي.
أما الآن فقد أصبح موضوع العباية الملوّنة في مجتمعنا مرفوضاً ومستنكراً، فانتشر حديث مطول بين الناس وفي مواقع التواصل عن كونها ملفتة وتهدف للإغراء، لدرجة أنني سمعت من زميلات يدرسن في كلية الحقوق، بجامعة السلطان قابوس، عن أستاذ يطرد أي فتاة ترتدي عباية ملوّنة في محاضرته، كأنه يريد أن يدهن الجامعة، والعالم، بالسواد فقط.
موضوع العباية الملوّنة في مجتمعنا مرفوض ومستنكر، وانتشر حديث مطول بين الناس وفي مواقع التواصل عن كونها ملفتة وتهدف للإغراء، لدرجة أنني سمعت من زميلات يدرسن في كلية الحقوق، بجامعة السلطان قابوس، عن أستاذ يطرد أي فتاة ترتدي عباية ملوّنة في محاضرته، كأنه يريد أن يدهن الجامعة، والعالم، بالسواد فقط
هذا هو نفس المجتمع الذي كانت نساؤه، قبل أقل من عشرين عاماً، لا يرتدين العبايات بكثرة؟ لم تكن عائلتي بذلك التعقيد وارتدينا عبايات ملونة مختلفة، مثل البني الفاتح، والأخضر، والرصاصي، وأحياناً البنفسجي، وألوان فاتحة مختلفة، لكن عائلتي كانت تستنكر العباية المفتوحة، فمن العيب أن يرى أحد ما ترتديه تحت العباية، وإن أردتِ غير ذلك فارتدي شيئاً طويلاً.
لم أكن لفترة غير بعيدة رافضة لارتداء العباية، ولم أكن في ذات الوقت محبّة لذلك، فقد كنت ارتديها مراعاة وخوفاً من أهلي، ومع الوقت بدأت الكراهية في داخلي تشتعل اتجاهها، فقد كان منظر النساء بعبايات سوداء خصوصاً يشعرني بالاكتئاب والاستياء. منظر غريب، يشبه تواجدنا في طائفة دينية متشدّدة في فيلم رعب أمريكي، ورغم وجود تنوع طفيف في الألوان، أو في طريقة ارتدائها إلا أنها تبعث على الأسى والغرابة فحسب. حيث أصبحت تلك القطعة السوداء مظهراً يعكس ثقافتنا، وبه تُعرف المرأة الخليجية.
أكثر ما يثير كراهيتي للعباية، تحوّلها لمشروع تجاري والتفنّن في خلق أشكال جميلة لها من خلال شكّ الخرز والخيوط الملونة، فأصبحت أكثر من مجرد أداة قمع، أصبحت أداة قمع مزخرفة، كمن يضع عطر شانيل على الوسادة قبل أن يخنق بها امرأة، أصبحت منتجاً غالياً تشتريه بعض النساء بأسعار عالية، ويتم استغلال هذه الأداة القمعية للمصلحة المادية.
هذه الموجة منتشرة في الخليج عموماً، فغالباً ما تقوم الفتيات بفتح علامات تجارية لبيع العبايات، وفي أغلب الأحوال تكون أسعارها غير معقولة ومبالغ بها، كأنه ثمن الحرية لبلد محتلّ، والمثير للاشمئزاز في بعض هذه المشاريع، هو الترويج لارتداء العباية للطفلات الصغيرات، فيقمن بعرض بنات في عمر ست سنوات يرتدين عبايات، كأن العباية زي لطيف يشبه أزياء الدمى.
أصبحت العباية أكثر من مجرد أداة قمع، أصبحت أداة قمع مزخرفة كمن يضع عطر شانيل على الوسادة قبل أن يخنق بها امرأة
رغم أن العباية لا تُفرض بالقانون، كأكثر الأمور في عُمان، ولكن تُفرض من خلال المجتمع، وهذا شيء مثير للاستياء، ومؤثر في كثير من المؤسسات، فكثيراً ما يكون للمتديّنين، والذكور عموماً، الكلمة النهائية في واقع النساء في عُمان، فمثلاً بعض الجامعات والكليات تفرض العباية كزي رسمي للنساء العمانيات فقط، وبعض المؤسسات، مثل المكتبة الرئيسية بجامعة السلطان قابوس، تمنع البنات غير المحجبات، وأحياناً غير مرتديات العباية، من دخول المكتبة، كما أخبرتني صديقة بأن سكن البنات في نفس الجامعة منع طالبة من الخروج من السكن بسبب عدم ارتدائها للعباية.
لست الوحيدة التي تكره العباية أظنّ، فأغلب من أعرفهن من النساء يرتدينها مجبرات، سواء كان هذا الإجبار داخلياً ونفسياً أو خارجياً ومجتمعياً، ولا ألوم النساء على محاولة تحسين شكل العباية وهذا يعد تغييراً إيجابياً من ناحية فرض أشكال جديدة على مجتمع يرفض هذه الأشكال، وهذا التغيير يمنحني أملاً بأننا سنتخلّص من فرضها علينا يوماً ما، ولكن ألومهن على إساءتهن لغيرهن من اللواتي لا يرتدين العباية، وهذا يوضّح مستوى الاختراق النفسي الذي تتعرّض له النساء في مجتمعاتنا الخليجية، وهذا ما يدفع بعضهنّ لممارسة النفاق لإرضاء المجتمع، وأحياناً الله الذي أخبرهن رجال الدين بأنه قد أنزل العباية لترتديها المرأة.
في مذهب الإباضية (مذهب الأكثرية في عُمان) لا يعدّ النقاب واجباً، ولم تكن العباية معروفة في الأعراف العمانية، ولم تكن جدتي ووالدتي على سبيل المثال ترتديان عبايات، ولكن مع دخول أمي للجامعة بدأت العباية في الدخول للمجتمع العماني، لكن ليس بتلك الكثرة التي نراها اليوم، فكانت بعض السيدات يرتدين عباية كتف فوق ملابسهن بدون أن تتغطى تلك الملابس بالكامل، أو يرتدين لباساً محتشماً في العرف، كالتنانير واللبس الطويل، ومع دخول عام 2000، أصبحت العباية جزءاً لا يتجزّأ من لباس الشابات العمانيات، ولكن النساء الكبيرات في السن لم يلتزمن بها، وسمعت عدداً كبيراً منهن يُبدي استياءه اليوم من ارتداء العباية، فهي من وجهة نظرهن خانقة وغير عملية، لكنها الآن أصبحت الزي الرسمي Uniform للمرأة العمانية، كبيرة، صغيرة، متوسطة العمر، إلا في بعض المناطق الأكثر انفتاحاً.
ليس بوسعي خلع العباية، فخلعها يوازي خلع الحجاب، وهو أمرٌ مرفوض تماماً في محيطي، ويماثل حكماً بالسجن. كل شيء يوحي بخطورة ارتكاب تلك المعصية، ولست من الذين يستطيعون التضحية بمساحة الحرية البسيطة والمحدودة التي تحقّقها العباية والحجاب من قبل أهلي
دخلت العباية لعُمان وخصوصاً لمناطق الشمال التي لم تعترف بالعباية مسبقاً - إلا عند نساء رجال الدين في الغالب- مع اجتياح موجة الصحوة الدينية للعالم العربي، الأمر الذي عزّزه الخطاب الديني غير المعتدل الذي كان يخلق صوراً عن الحشمة والدين والمرأة، وغالباً ما يدور خطابهم عن المرأة ولباسها كالعادة، ومع تكاثف هذه الموجة الدينية ترسّخت العباية وترسخ الخطاب، وهذا ما ساعد بشكل مباشر على خلق بيئة دينية، خصبة وسامة في الوقت ذاته، حيث أصبح العرف الاجتماعي الجديد هو الدين، والدين هو العرف الاجتماعي الجديد، وتفنن المجتمع في عقاب المرأة التي لا ترتدي العباية، عبر التشكيك في أخلاقها وإيمانها، والاعتداء عليها، أقلّه بالنظر، لأنها خارجة عن عرف مديد لا يخرج عنه إلا المارقات.
ليس بوسعي خلع العباية، فخلعها يوازي خلع الحجاب، وهو أمرٌ مرفوض تماماً في محيطي، ويماثل حكماً بالسجن. لازلت أرتدي الاثنين رغم عدم اقتناعي بهما، وتصنيفي لنفسي كغير محجبة منذ سنوات، إلا أن كل شيء يوحي بخطورة ارتكاب تلك المعصية، ولست من الذين يستطيعون التضحية بمساحة الحرية البسيطة والمحدودة التي تحقّقها العباية والحجاب من قبل أهلي، ولست مستعدّة للتعرّض لأي ضغط نفسي أو اجتماعي، أو عقاب أسري قد يتضمّن عنفاً جسدياً، لذلك أرتدي الاثنين، وأشعر بالأسى على نفسي، وأتمنى أن أمتلك تلك الشجاعة يوماً ما للتخلي عن ذلك اللباس الذي يشعرني بالتقزّز من ذاتي، ومن محيطي، الشجاعة التي تجعلني أمتلك زمام حياتي وتفاصيل جسدي، وبأمل أن نتجاوز حقبة السواد التي نعيش فيها، لنعيش في بيئة ترتدي فيها المرأة ما تريد دون قسر، وتحضر فيها الألوان المبهجة أكثر من السواد المسيطر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...