شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
مساحة أفراد الميم-عين الآمنة في قبضة

مساحة أفراد الميم-عين الآمنة في قبضة "جنود الرب"... من يوقف هذا الإرهاب المنظم؟

Read in English:

LGBTQ+ sanctuary no more? The rise of 'Jnoud el Rab' in Lebanon

هربت ليا (25 عاماً)، إلى منطقة مار مخايل في بيروت، التي اختارتها لتكون ملجأها بعيداً من الخوف الذي كانت تعيشه، كونها تنتمي إلى مجتمع الميم-عين، في منطقة "متزمتة" يغلب عليها الطابع الإسلامي. لكن ما هربت منه ليا، لاحقها إلى منطقتي مار مخايل والجميزة في بيروت، اللتين كانتا تُعدّان المساحة الأكثر أماناً لأفراد مجتمع الميم-عين في لبنان. تروي لرصيف22: "لا يوجد حل آخر، إما أن أعيش كما أنا أو أموت. هربت إلى مار مخايل كي أعيش بسلام، وما كنت أخافه منذ سنين، ظهر ولكن بشكل آخر (تطرف مسيحي)، وبات يطاردني".

اختلفت اليوم أحياء مار مخايل والجميزة وغيرهما من المناطق التي تُعدّ مساحةً آمنةً نسبياً لتواجد وسكن أفراد مجتمع الميم-عين. باتت هناك فئة دينية متطرفة تُدعى "جنود الرب"، تهدد أمان هذه المساحة المتبقية لهم، إذ هاجمت المجموعة في 24 آب/ أغسطس الجاري، أحد المقاهي في مار مخايل، وكان ينظّم عرض "دراغ كوين"، بحجة أن العرض مخل بالآداب وفيه إيحاءات جنسية لفنانين وفنانات يعبّرون عن ميولهم الجنسية. أحد المارة صوّر العرض، وبدأ "جنود الرب" يأتون إلى المكان شاهرين الأسلحة، وحاصروا المقهى لمدة ثلاث ساعات قبل أن ينهالوا بالضرب على روّاده ومن في الخارج، مع تهديدهم/ نّ بالقتل في حال تجرأوا وأقاموا هكذا تجمعات وعروض في المستقبل.

كان أول ظهور لـ"جنود الرب" في العام 2019، في ساحة ساسين في منطقة الأشرفية، حين اعترضوا على تنظيم حفل لفرقة "مشروع ليلى" في جونية من ضمن مهرجانات بيبلوس، حيث تم وقف العرض بالقوة على خلفية ترويج هذه الفرقة "للشذوذ الجنسي" كما يُسمّونه. وتسوق هذه المجموعة لنفسها بأنها ضد مجتمع الميم-عين والإجهاض والزواج المدني، وضد كل "ما يحاول الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الترويج له، من ثقافة تتعارض مع الأديان السماوية وقيمها"، بحسب تعبيرهم.

لا يوجد حل آخر، إما أن أعيش كما أنا أو أموت. هربت إلى مار مخايل كي أعيش بسلام، وما كنت أخافه منذ سنين، ظهر ولكن بشكل آخر (تطرف مسيحي)، وبات يطاردني

بعد أول ظهور لهذه المجموعة، عزلت ليا نفسها في المنزل لمدة شهر. عن ذلك تقول: "كانت الحياة هادئةً جداً، الحي الذي أسكنه هادئ والجيران يحبونني جداً. بتنا أصدقاء مع الجميع، وكنت أعيش بشكل طبيعي. أستطيع التجول بحرية، دون أن أسمع تنمراً وخطاب كراهية. كنت أشعر بحرية بشكل من الأشكال قبل قدوم جنود الرب". وحين بدأ انتشارهم في الأشرفية، والجميزة، ومار مخايل، دخلت ليا في صدمة نفسية لمدة من الزمن، وصارت من بعدها تشعر بتقلص المساحة المخصصة لها. تضيف: "في حال كانت لدي القدرة على أن أتجول وحيدةً في الشارع، فالأمر اليوم بات مستحيلاً خصوصاً في الليل. أصبح جنود الرب بالقرب منا اليوم، يعيشون هنا. الرعب ذاته الذي عشته في منطقتي قبل الهروب منها، أعيشه اليوم".

بداية تقلص المساحة

المجموعة تُعرّف عن نفسها بأنها "أبناء الرب يسوع، أولاد الكنيسة". كلّ شخص معمّد باسم الأب والابن والروح القدس، هو تلميذ الرب يسوع حسب الكتاب المقدس، وكل كلمة ينطقون بها مصدرها الكتاب المقدس. في كانون الأول/ ديسمبر 2022، عاد اسم المجموعة إلى الواجهة بعد خلاف وقع في ساحة ساسين في منطقة الأشرفية، خلال احتفال لبنانيين من منطقة أخرى (مسلمة)، بفوز منتخب المغرب وتأهله إلى الدور نصف النهائي من كأس العالم في منطقتهم، أي الأشرفية، لتثير قلقاً وجدلاً في لبنان، لا سيما مع انتشار صور ومقاطع لأفرادها على مواقع التواصل الاجتماعي وهم يحملون سيوفاً وصلباناً مسننةً، ويرتدون لباساً أسود موحَّداً، خلال سيرهم في شوارع منطقة الأشرفية في بيروت على وقع التراتيل الدينية.

"سلطانة" (28 عاماً)، من أفراد مجتمع الميم-عين، وتقدّم عروض "دراغ كوين"، ترى أن هذا الفن يعبّر عن هويتها، وهي تسكن في منطقة مار مخايل منذ سنوات. تقول لرصيف22: "منذ أيام الجامعة كنت أرتاد المنطقة، كي أشعر بأمان وأكون كما أنا. في مار مخايل أخرج بحريتي وشكلي، المنطقة كانت مساحتنا. منذ انفجار المرفأ (2020) تغيّرت مار مخايل، ثم أتى جنود الرب وانتشروا في المنطقة. لم تعد كما كانت. المساحة ضاقت أكثر. ما فعلوه لا يخيفني. هذا المجتمع موجود وقديم، لا يمكن إلغاؤه ولكن اليوم بات الحذر أكبر".

الحيان المشهوران بتواجد أفراد مجتمع الميم-عين فيهما، ضاقت مساحتهما أكثر، وبات الخوف يهدد فئةً كبيرةً من سكانهما. تتابع سلطانة حديثها: "في نظري نحن ذاهبون إلى أمور سيئة أكثر من قبل، وأكثر من التي عشناها، وفي الوقت نفسه الأمر مخيف، نتمنى ألا يحدث ما هو أسوأ، ولكن للأسف هو يحدث ويجب أن نواجهه بطرائق عدة، كي نحافظ على هذه المساحة المتبقية. لا أعتقد أن الحادثة الأخيرة بالاعتداء علينا من قبل جنود الرب ستخيفنا، هناك تضامن بين أفراد هذه الفئة وأعتقد أننا مجتمع قوي".

تضيف: "أنا أعبّر عن نفسي، لكن لكل واحد منا حياةً سيئةً عاشها من قبل، لذلك كل ما حدث لن يغير الكثير مما كنا عليه، ويجب أن نكون حذرين، ونحافظ على أماننا. جميع المثليين خصوصاً في أوروبا لم يأخذوا حقوقهم على طبق من فضة، بل بعد معاناة كبيرة وصراع، إذ لا توجد توعية بالمثلية الجنسية، بل يوجد خطاب كراهية وعنصرية، هناك فئة متخوفة وأخرى ستواجه، وتعود إلى مار مخايل".

في مار مخايل أخرج بحريتي وشكلي، المنطقة كانت مساحتنا. منذ انفجار المرفأ (2020) تغيّرت مار مخايل، ثم أتى جنود الرب وانتشروا في المنطقة. لم تعد كما كانت. المساحة ضاقت أكثر

وتؤكد "سلطانة" أن "جنود الرب" لا يخيفونها كما تفعل عناصر قوى الأمن التي تقف وتشاهد اعتداءاتهم على أفراد الميم-عين، والأخيرون يتلقون الضرب والتهديد، من دون أن يحرّكوا ساكناً، علماً بأنهم المفوضون بحماية أمن البلد.

التنوع يهدد المنظومة

"فعلياً، الجميزة ومار مخايل حيّان في بيروت فيهما نسبة من الأمان لمجتمع الميم-عين دون أي مناطق أخرى من العاصمة اللبنانية، وأماكن للسهر وتجمعات وأجواء صديقة لهم"؛ يقول الناشط السياسي والمدافع عن قضايا مجتمع الميم-عين في لبنان ضومط قزي الدريبي، لرصيف22.

ويضيف: "في تلك الليلة التي أثارت الرعب في منطقة مار مخايل، بسبب عرض 'دراغ كوين' لأفراد الميم-عين في أحد الكافيهات، وهجوم جنود الرب بالضرب والتهديد بالسلاح ضد المتواجدين، كانت القوى الأمنية فقط تشاهد ما يحصل، وعند انتهاء الاعتداء، دخلت القوى الأمنية إلى المقهى كي تجد دليلاً ضدنا، ولكنها لم تجده، العرض لم يكن مخلّاً بالآداب ولم يكن هناك أطفال، وهناك الكثير من العروض الكوميدية التي تحمل معاني جنسيةً وإيحاءات، مثل 'ماريوكا' أشهرها".

ويرى قزي الدريبي أنه "بعد ظهور جنود الرب الأمور تغيرت في المنطقة، وكل سنة تزداد الأمور سوءاً عن سابقتها بسبب هذا الترهيب الذي يُمارس من قبلهم، حيت تُعدّ الجميزة، ومار مخايل، ما تبقى لمجتمع الميم-عين، وهذا التدقيق خطير، بل يهدد هذه المساحة، إذ اختلفت حياة هذا المجتمع بشكل جذري في المنطقتين، وباتت أكثر الأماكن لتجمعات أفراد الميم-عين مهددةً".

ويشير إلى أن "جنود الرب هم أنفسهم الذين وقفوا مع السلطة اللبنانية لإلغاء فيلم باربي، وهم أنفسهم الذين وقفوا مع رجال الدين الذين منعوا المرأة من النزول إلى شاطئ صيدا بالبكيني، واليوم عندما ينتهون من حربهم ضد المثليين سيبدؤون بجماعات أخرى، كالنساء، ويفرضون ثقافتهم الرجعية والظلامية، على المجتمع بأكمله وعلى المنطقة التي يتواجدون فيها، وهذا الأمر خطير جداً، إذ يُعدّ جرس إنذار للمجتمع بأكمله".

ويضيف قزي الدريبي: "نحن مجتمع الميم-عين الخط الأول للدفاع عن الحريات في لبنان، وفي حال سقطت المساحات الخاصة بهذا المجتمع، سنكون قد انتقلنا إلى بلد آخر وتغيّر لبنان بالمطلق".

أفراد الميم-عين حجة لا أكثر

في تلك المنطقة، خصوصاً مار مخايل، الروّاد ليسوا فقط أفراداً من مجتمع الميم-عين، بل هناك أناس عاديون يدعمون مجتمع الميم-عين عبر حضور عروض أفراده في مقاهي مار مخايل والجميزة، ودعمهم في اختياراتهم وحريتهم. جورج (اسم مستعار)، يحضر عروض "دراغ كوين"، كداعم لأفراد هذا المجتمع، يقول لرصيف22: "اليوم بات هناك أناس عاديون يدعمون هذا المجتمع ويحضرون عروض أفراده في مار مخايل، والجميزة، لكن للأسف بعد الحادثة الأخيرة يتخوفون من التجول في هذه المنطقة".

ويرى أن "جنود الرب باتوا يتمادون كثيراً، لكن ما حصل قبل أيام (الاعتداء على المقهى)، يوحي بأن هناك خطاً أحمر قطعوه، وهم يتماشون حسب الرأي العام الموجود وليست لديهم قضية، ولأن مار مخايل والجميزة منفتحتان وتضمان جميع الناس، بات العدو اللدود بالنسبة لهم مجتمع الميم-عين، فهم يحتاجون حجةً لتبرير وجودهم بين الناس".

يضيف: "اليوم ندعم أفراد الميم-عين، وغيرهم من الفئات المتنوعة في المجتمع، ونشجعهم على العودة إلى مار مخايل وحضور العروض، هذه المنطقة هي مساحة للجميع. لم يكن هناك أي فعل مخلّ بالآداب داخل هذه الكافيهات، لأنه عندما تريد أن تطالب بحقوقك يجب أن تعرف واجباتك. هذه المساحة مجرد دعم لأفراد الميم-عين".

لا توجد مساحة آمنة

يشهد لبنان في الآونة الأخيرة خطاباً معادياً لمجتمع الميم-عين، من سياسيين ورجال دين، لكن في 12 تموز/ يوليو الماضي، وقّع تسعة نواب من كتل نيابية عدة على اقتراح قانون لإلغاء "المادة 534" من قانون العقوبات التي تنص على أن "كل مجامعة على خلاف الطبيعة يعاقَب عليها بالحبس سنة واحدة"، وهي المادة التي يستند إليها بعض القضاة لتجريم المثليين، برغم أنها فضفاضة ولا تحدد مفهوم "الطبيعة" وما يُعدّ مخالفاً لها.

يأتي ذلك عقب اللقاء التشاوري الذي عُقد في المقر البطريركي في الديمان، وشاركت فيه مجموعة من السياسيين والوزراء والنواب والأحزاب، وطرح فيه وزير الثقافة محمد وسام مرتضى أهمية وقف عرض فيلم "باربي"، "حفاظاً على الأخلاق العامة ورفضاً لترويج المثلية والتحول الجنسي"، لتزيد من بعده حملات مناهضة مجتمع الميم-عين، ورفض أي رموز تشير أو تعبّر عنهم حتى على وسائل التواصل الاجتماعي.

عندما ينتهون من حربهم ضد المثليين سيبدؤون بجماعات أخرى، ويفرضون ثقافتهم الرجعية والظلامية، على المجتمع بأكمله وعلى المنطقة التي يتواجدون فيها، فهل نقف مكتوفي الأيدي؟

وتتوحد المرجعيات الدينية من جميع الطوائف في الهجوم على أفراد مجتمع الميم-عين، ومحاربتهم، وسبق أن أطلق زعيم حزب الله، حسن نصر الله، في تموز/ يوليو الماضي، خلال مجلس عاشورائي، معركةً اجتماعيةً وثقافيةً وفكريةً على مجتمع الميم-عين في لبنان، داعياً إلى قتلهم وتنفيذ الأحكام الشرعية بحقهم وعادّاً أن ما أسماه "الشذوذ" معركة تتخطى "حزباً أو طائفةً"، فهي "معركة كل المجتمع بمسلميه ومسيحيّيه". الحملة لاقت تأييداً كبيراً من مختلف الانتماءات السياسية والمذهبية في لبنان، وإن كانت لا تتفق مع حزب الله، وصولاً إلى اعتداء جنود الرب قبل أيام عدة بالضرب على أفراد الميم-عين وتمددهم في هذه المساحة المتبقية لهم.

وكان وزير الداخلية اللبناني في حكومة تصريف أعمال بسام مولوي، قد وجّه كتاباً في 24 حزيران/ يونيو 2022، إلى مديريتي الأمن الداخلي والأمن العام طالباً منهما اتخاذ الإجراءات اللازمة على الفور لمنع أي نوع من الاحتفالات أو الاجتماعات أو التجمعات التي تروّج لـ"الشذوذ الجنسي" كما وصفها.

يقول المدير التنفيذي لمؤسسة "حلم"، طارق زيدان، في معرض حديثه إلى رصيف22: "لقد تم تقييد مساحة مجتمع الميم-عين في لبنان بالتأكيد. الهجوم على الأبرياء المسالمين غير المسلحين من قبل المتطرفين الدينيين المسلحين مع الإفلات التام من العقاب ودون مساءلة، يجعل المدينة أقل أماناً للجميع. لا يتعرض أفراد مجتمع الميم-عين للتهديد فقط، بل جميع الأشخاص الذين لا ينتمون إلى هذه الجماعة الدينية المتطرفة في خطر الآن".

ويرى أنه "لا توجد أماكن آمنة للمثليين في لبنان، فالهجمات والأكاذيب التي قام بها أفراد الطبقة السياسية والدينية حول المجتمع جعلت جميع الأماكن غير آمنة. الناس ليسوا بأمان في منازلهم إذا صدّقت عائلاتهم الأكاذيب التي تُقال عنهم".

ويختم: "لا أعرف ما سيحصل في المستقبل بالنظر إلى الوضع في لبنان، حيث لا يتعرض أفراد مجتمع الميم-عين للهجوم فحسب، بل جميع الأشخاص الذين يمارسون حريتهم في التعبير وحرية المعتقد. وبدلاً من حل المشكلات الاقتصادية والسياسية في لبنان، قرر النظام السياسي استخدام الأبرياء لإعادة تحويل الانتباه عن إخفاقاتهم. وهذا يغير الطبيعة الأساسية للبنان كمكان للحرية والتسامح".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image