في قلب ليبيا، يخوض أفراد مجتمع الميم-عين معركةً شرسةً من أجل البقاء.
يكشف تقرير "ما وراء القضبان، داخل الروح"، الذي تم نشره حديثاً، الانتهاكات الجسيمة التي يعاني منها هؤلاء الأفراد.
ففي ظل تجذّر المعايير الأبوية والذكورية المهيمنة والسلطات المتنازعة، تستخدم الميليشيات المسلحة المدعومة من الدولة العنف كأداة لقمع أي محاولات للتحرر والاعتراف بحقوق الأفراد المختلفين عن النمط التقليدي.
لفهم مدى عمق الأزمة التي يواجهها أفراد مجتمع الميم-عين في ليبيا، يجب النظر إلى السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يؤطر هذه الانتهاكات، إذ إن ليبيا، بعد عقود من الحكم الديكتاتوري والفوضى السياسية، تحولت إلى مسرح للصراعات المسلحة والنزاعات الداخلية.
في هذا السياق، أصبحت حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق مجتمع الميم-عين بشكل خاص، ضحيةً للصراعات الأيديولوجية والسياسية، كما أن الهيمنة الذكورية والقبلية المتجذرة في المجتمع الليبي تعزز التمييز والاضطهاد ضد أي فرد يتحدى الأدوار التقليدية.
الحكومة والهروب من المسؤولية
بدلاً من تحمّل المسؤولية وحماية حقوق جميع المواطنين/ ات، يتعرض أفراد مجتمع الميم-عين في ليبيا للاضطهاد ويصبح البعض منهم "كبش فداء" يُستخدم لتبرير فشل السلطات المعنية في مواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه البلاد، كالبطالة والأزمات الاقتصادية والانقسامات السياسية، ويتم استهداف الأفراد الأكثر ضعفاً واستخدامهم كأداة لتشتيت الانتباه عن القضايا الأساسية.
في الواقع، تقوم السلطات الليبية باستخدام قوانين قمعية مثل مواد قانون العقوبات 407 و408، لاعتقال بعض الأفراد بشكل تعسفي، ويتم توقيف الناس بناءً على شبهات واهية، وغالباً ما تتم مصادرة هواتفهم وأغراضهم الشخصية للبحث عن أدلة على هويتهم الجنسية والجندرية.
أصبحت حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق مجتمع الميم-عين بشكل خاص، ضحيةً للصراعات الأيديولوجية والسياسية، كما أن الهيمنة الذكورية والقبلية المتجذرة في المجتمع الليبي تعزز التمييز والاضطهاد ضد أي فرد يتحدى الأدوار التقليدية
هذه الحالة تشبه ما يحدث في أفغانستان، وفق ما يؤكد الصحافي الليبي خليل الحاسي، في مقاله "هل يمكن أن تصبح ليبيا أفغانستان إفريقيا؟"، حيث يشير إلى أن حكم الميليشيات وإهمال الحكومة يهيئان بيئات خصبةً لانتهاكات حقوق الإنسان والنشاطات المتطرفة، كما أبرزت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات دولية في بيانات متعددة، من بينها منظمة العفو الدولية، دور "حرّاس الفضيلة" في ليبيا، وكيف يتم استخدامهم كأداة سياسية للحفاظ على النظام الاجتماعي والسيطرة على السكان.
ويكشف الحاسي أن السلطات الليبية تستخدم مفهوم "حراسة الفضيلة"، لتبرير القمع والتضييق على الحريات الفردية، خاصةً ضد مجتمع الميم-عين والناشطين، كما يناقش المقال تأثير هذه السياسات على السلام الاجتماعي في ليبيا.
العنف المشرعن والعنف المجتمعي
يحتوي التقرير الصادر مؤخراً عن منظمة "كُن"، وهي منظمة ليبية تعمل على حماية وتمكين مجتمع الميم-عين، على شهادات مروعة عن الاعتقالات التعسفية والتعذيب.
واللافت أن تلك الشهادات ليست إلا غيضاً من فيض، حيث تعكس القصص الأخرى معاناةً أكبر وأعمق.
في مقابلة لرصيف22، مع نسيم (اسم مستعار)، يقدّم شهادةً عن تجربته داخل سجون الأمن الداخلي، ونظراً إلى المخاطر الشديدة التي يواجهها، فقد اختار البقاء مجهول الهوية. تقدّم شهادته نظرةً مفصّلةً عن الرعب اليومي الذي يعانيه أفراد مجتمع الميم-عين في ليبيا.
"كانت المعاملة قاسيةً جداً. تعرّضنا للضرب والشتائم والإهانة. كانوا يسألوننا أسئلةً لا تنتهي عن حياتنا الشخصية وعن أصدقائنا وأقاربنا. لم يكن لديهم أي اهتمام بإنسانيتنا، بل كانوا ينظرون إلينا كأعداء للدين والمجتمع. كان الهدف من كل ذلك هو كسر إرادتنا وإذلالنا"
يقول نسيم: "كان يوماً عادياً بالنسبة لي. كنت في بيتي. لم أكن أفعل شيئاً خارجاً عن المألوف. فجأةً، دخلت مجموعة من الرجال المسلحين البيت بحثاً عني. أخذوني إلى مقرّهم وأخذوا مني هاتفي بعد أن أرغموني على فتحه بضربي وشتمي، وفحصوه بدقة بحثاً عن أي دليل على ‘الشذوذ’ أو ‘الفجور’، على حدّ قولهم. كانت تلك اللحظات مخيفةً، حيث تم اعتقالي دون أي سبب حقيقي. اقتادوني إلى مكان غير معلوم، وتم احتجازي في غرفة صغيرة وضيقة".
يتأثر نسيم ثم يكمل حديثه: "كانت المعاملة قاسيةً جداً. تعرّضنا للضرب والشتائم والإهانة. كانوا يسألوننا أسئلةً لا تنتهي عن حياتنا الشخصية وعن أصدقائنا وأقاربنا. لم يكن لديهم أي اهتمام بإنسانيتنا، بل كانوا ينظرون إلينا كأعداء للدين والمجتمع. كان الهدف من كل ذلك هو كسر إرادتنا وإذلالنا. أذكر أنهم هددونا بالتعذيب إذا لم نعترف بمزيد من الأسماء، لكنني لم أكن أعرف كيف أردّ أو كيف أتصرف. كان الخوف يسيطر عليّ بشكل كامل".
ويضيف: "حياتي لم تعد كما كانت. بعد الإفراج عني، شعرت بأنني لم أعد آمناً في أي مكان. كما أنهم قاموا بنشر فيديو اعتراف عقّد علاقتي مع أهلي. لم أعد أخرج من المنزل إلا للضرورة القصوى، وحتى في هذه الحالات، أشعر بالخوف والتوتر. لقد دمّر الاعتقال كل ثقتي بنفسي وأصبحت أخشى التفاعل مع الآخرين. حتى الآن، أعاني من الكوابيس ولا أستطيع النوم جيداً. هناك دائماً هذا الشعور بالتهديد وبأنهم قد يعودون ليأخذوني مرةً أخرى".
يخاطب نسيم المجتمع الدولي قائلاً: "رسالتي واضحة: نحن بحاجة إلى المساعدة. الوضع هنا في ليبيا لا يطاق، ونحن كأفراد من مجتمع الميم-عين نعيش في خوف مستمر. لا يمكننا الاعتماد على أي حماية من السلطات المحلية، بل على العكس، هم مصدر الخطر الرئيسي علينا. أرجو من المجتمع الدولي أن يتّخذ خطوات ملموسةً لحمايتنا، وأن يضغط على الحكومة الليبية لإنهاء هذه الانتهاكات. لا يمكننا الاستمرار في العيش بهذه الطريقة، نحتاج إلى دعم حقيقي وضمانات لحماية حقوقنا الأساسية".
ويختم: "بصراحة، من الصعب أن أكون متفائلاً. كل يوم هنا هو معركة من أجل البقاء. أعلم أن هناك جهوداً دوليةً لرفع الوعي بوضعنا، لكن على الأرض، لا نشعر بأي تغيير. الأمل الوحيد هو أن تتغير الأمور وأن يصبح لنا يوماً ما الحق في العيش بحرية وأمان في بلدنا. حتى ذلك الحين، سنظل نعيش في الظل، نحاول النجاة بأرواحنا".
بث الرعب
في حديثه إلى رصيف22، يقول إبراهيم فركاش، وهو مدير التواصل في منظمة "كُن": "يواجه أفراد مجتمع الميم-عين في ليبيا تهديدات مستمرةً بالعنف والتمييز ويتعرضون للاعتقالات التعسفية والتعذيب والمضايقات، غالباً على أيدي الميليشيات أو الجماعات المرتبطة بالدولة، فيتم احتجاز الأفراد بناءً على مظهرهم أو ميولهم الجنسية المفترضة، مما يؤدي إلى دورة من الخوف والاضطهاد".
ويسلّط إبراهيم، الضوء على كيف يتم استخدام الأجهزة الأمنية مثل "حراس الفضيلة"، لبث الرعب في صفوف أفراد مجتمع الميم-عين: "تقوم هذه الجماعات بمداهمات وتفتيش الهواتف بحثاً عن أدلة واحتجاز الأشخاص بناءً على اتهامات غامضة. تؤدي هذه الإجراءات إلى خلق بيئة من الخوف المستمر، مما يجبر الناس على الاختباء لتجنب الاضطهاد".
ويوضح أن "كُن"، تواجه تحديات هائلةً في الدفاع عن حقوق مجتمع الميم-عين بسبب الوصم الاجتماعي والعوائق القانونية: "إن العمل في بيئة معادية يعني تهديدات دائمةً لأمان المؤسسة وأعضائها والمستفيدين منها، ولكن برغم هذه التحديات، تستمر ‘كُن’ في خلق مساحات آمنةً وزيادة الوعي من خلال المناصرة والتواصل المجتمعي".
في الواقع، إن المشهد السياسي في ليبيا غير مستقر، إذ تمتلك الجماعات المسلحة سلطةً كبيرةً.
من هنا، يوضح إبراهيم كيف يؤثر عدم الاستقرار مباشرةً على سلامة أفراد مجتمع الميم-عين: "غالباً ما يكون هؤلاء هدفاً للدولة والجهات الفاعلة غير الحكومية ويزيد نقص الحماية القانونية والتمييز الواسع من ضعفهم".
ويشير إلى أن زيادة الوعي تتطلب التعليم والحوار على جميع المستويات الاجتماعية: "يمكن أن تساعد حملات التوعية وورش العمل المجتمعية والشراكات مع المنظمات الدولية في تفكيك الصور النمطية، كما يجب معالجة التهميش النظامي والضغط من أجل إصلاحات قانونية وضمان المحاسبة على الانتهاكات المرتكبة في ليبيا"، شارحاً أن الأعراف الأبوية والذكورية المهيمنة تعزز ثقافة العنف ضد أفراد مجتمع الميم-عين: "يُعدّ تحدّي هذه الأعراف أمراً أساسياً لتفكيك الهياكل التي تبرر التمييز والعنف. لا تقتصر الانتهاكات على الجانب الجسدي والنفسي فحسب، بل تمتد إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، مما يزيد من معاناة هؤلاء الأفراد في جميع مناحي الحياة".
"الأمل الوحيد هو أن تتغير الأمور وأن يصبح لنا يوماً ما الحق في العيش بحرية وأمان في بلدنا. حتى ذلك الحين، سنظل نعيش في الظل، نحاول النجاة بأرواحنا"
ويضيف إبراهيم: "برغم التحديات الكبيرة، هناك أمل في التقدم. يمكن أن تؤدي زيادة الاهتمام العالمي بمعاناة هؤلاء الأفراد والدعم إلى دفع عجلة التغيير، مما قد يغيّر المواقف الاجتماعية. كلما انضمّ المزيد من الأصوات إلى النضال من أجل المساواة، اقتربنا من مستقبل يتم فيه الاعتراف بحقوق جميع الليبيين".
ويختم: "من الضروري أن نتذكر أن الأمل يتجسد في الجهود المستمرة والنضال الجماعي الذي يقوده أفراد مجتمع الميم-عين والناشطون/ ات معهم، حيث يعملون/ ن بلا كلل على تغيير واقعهم/ نّ وتحقيق العدالة الاجتماعية".
في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أن الحلول ليست قريبة المنال، ولكن الأمل في تحقيق التغيير يبقى دائماً ممكناً من خلال الدعم الدولي والتضامن المستمر.
تتطلب القضية تكاتف الجهود والعمل المشترك من قبل جميع الأطراف المعنية، سواء كانت محليةً أو دوليةً، لخلق بيئة آمنة تحترم حقوق جميع الأفراد بغض النظر عن ميولهم أو هويتهم الجنسية أو الجندرية.
الطريق نحو التغيير طويل وشاقّ، ولكن من خلال المثابرة والتعاون بين المجتمع الدولي والمنظمات المحلية، يمكن أن نحقق مستقبلاً أفضل وأكثر عدالةً لجميع أفراد مجتمع الميم-عين في ليبيا والعالم، ومن خلال التعليم والتوعية والمناصرة يمكننا بناء مجتمعات تحترم التنوع وتكرس حقوق الإنسان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...