بعد موجة تهديدات واسعة شارك فيها، مباشرةً أو مواربةً، سياسيون ورجال دين ومؤثرون، تحولت إلى دعوات لتحركات عنفية مقابلة، ألغيت أمس الأحد تظاهرة رافضة لطلب وزير الداخلية اللبناني بسام مولولي من القوى الأمنية منع تجمعات ثقافية ومؤتمرات توعوية داعمة لحقوق مجتمع الميم-عين في لبنان.
وكانت جمعيات حقوقية وتنظيمات سياسية قد دعت للتظاهرة المنددة بقرار وزير الداخلية مساء الجمعة الماضي، بعد إصداره كتاباً يهدد من خلاله باتخاذ تدابير فورية تمنع ما أسماه "حفلات وأمسيات للترويج للشذوذ الجنسي في لبنان"، وكرر الوزير وصفه للمثليين/ات بـ"الشواذ" مرات عدة في الكتاب، مستنداً بقراره إلى "تلقي اتصالات من المراجع الدينية الرافضة لانتشار هذه الظاهرة"، وأنه "لا يمكن التذرع بالحرية الشخصية... والأمر مخالف للعادات والتقاليد في مجتمعنا ويتناقض مع مبادئ الأديان السماوية".
وأعلن منظمو التظاهرة الاحتجاجية "تأجيل المسيرة المقررة يوم الأحد إلى يوم آخر يُحدد في الأيام القليلة المقبلة، بعد تفاقم وتيرة التهديدات بالقتل والدعوات لاحتجاجات مضادة"، وعدم توقع الحماية من قوى الأمن التي لديها أمر مسبق بقمع أي تجمع للداعمين لحقوق المثليين/ات. وعزز كتاب الوزير، مدعوماً بمواقف لرجال دين كان أبرزهم مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، موجة كراهية وتحريض ضد أفراد مجتمع الميم-عين، بلغت ذروتها مع انتشار دعوات واسعة لتنظيم اعتداءات على المشاركين في مسيرة الأحد.
أعلن منظمو التظاهرة الاحتجاجية "تأجيل المسيرة المقررة يوم الأحد إلى يوم آخر يُحدد في الأيام القليلة المقبلة، بعد تفاقم وتيرة التهديدات بالقتل والدعوات لاحتجاجات مضادة"
كتاب غير قانوني
يستغرب المحامي فاروق المغربي، السند الذي أورده الوزير لكتابه، مؤكداً أن "لا شيء في القانون يمنع مخالفة التقاليد أو مبادئ الأديان"، مشيراً إلى أنه حتى المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني، والتي تُستعمل لتجريم المثليين/ات واضطهادهم/نّ باستمرار، هي "تجرم الجماع وليس عقد الاجتماع، ولا يمكن تطبيقها على تجمعات ثقافية أو حقوقية داعمة لهم"، كما أن "القضاء اللبناني هو في الأساس غير موحد في تفسير المادة "لأن العلاقات الجنسية للمثليين/ات لا يمكن عدّها مخالفةً للطبيعة"، وهو ما أكدته اجتهادات قضائية عدة.
وكان القاضي المنفرد الجزائيّ في المتن ربيع معلوف، قد أصدر حكماً في كانون الثاني/ يناير 2017، قضى فيه بإبطال التعقّبات بحقّ مثليين/ات والعابرين/ات جنسياً ادُّعي عليهم سنداً إلى المادة 534 من قانون العقوبات، وهي المادة التي تُستخدم عادةً لملاحقة المثليين/ات جزائياً.
وبرأي المغربي، فإن "كتاب الوزير واللغة المستعملة فيه يصبان في تغذية الهوموفوبيا والكراهية، ويقوّيان التحريض والتمييز ضد فئة من الناس على أساس التوجه الجنسي، وهو بهذا يخالف اتفاقية مناهضة العنصرية، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي وقّع عليها لبنان سابقاً، وباتت ملزمةً بحكم الدستور، فهل أن الدولة تبيع مواقف للخارج بتوقيعها على الاتفاقيات ثم تخالفها بسياساتها وقوانينها؟".
كتاب الوزير جاء بعد تصريح من مفتي الجمهورية يوم الجمعة الماضي، قال فيه إن دار الفتوى "لن تسمح بتشريع المثلية الجنسية"، وأيده لاحقاً عدد من ممثلي الطوائف، أبرزهم شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المنى، الذي رأى أنه "لا يجوز السماح بها (التجمعات الداعمة لحقوق المثليين) مهما علت الأصوات"، فيما قال المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان إن "الشذوذ مرفوض بشدة ولن يتحقق في لبنان"، متحدثاً عمن يريد "تغيير هوية لبنان الأخلاقية"، وأيّد هذه المواقف متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، الذي رأى بدوره أن "ما يسمونه حرية عيش المثلية الجنسية هو اتجاه مريض ومستورد".
حماية المنظومة
تؤكد ديالا عبد الصمد، الناشطة السياسية في تنظيم "لحقي"، أحد التنظيمات المشاركة في الدعوة إلى تظاهرة الأحد، أن هذه الحملة "لن تكون فخاً لقوى المعارضة، بل مواجهة يجب خوضها"، مؤكدةً أن "موقفنا واضح لجهة التضامن والوقوف إلى جانب مجتمع الميم-عين وكل الأفراد المناضلين في سبيل حقوقهم الفردية"، منتقدةً بشدة "الدور الرقابي الذي تلعبه السلطات على تنوعها، لجهة محاولة قمع حتى حرية الفرد في من يريد أن يحب".
ألغى مجتمع الميم-عين مظاهرته في بيروت بعد سيل التهديدات التي وصلت إلى المشاركين. لماذا؟ لأن السلطة الدينية أوعزت إلى السلطة السياسية كي تتصدى لهم، بل كفّرتهم كما سبق وفعلت مع نواب تغييريين لأهداف سياسية أكثر من أي شيء آخر
ويمكن رصد بداية تصاعد الموجة الحالية في الخطاب المعادي لحقوق المثليين/ات مع اشتداد التجاذب السياسي في فترة الانتخابات النيابية، ومع وجود قوى معارضة للسلطة السياسية تتبنى هذه الحقوق، والحملات ضدها من رجال دين في هذا الشأن. تقول عبد الصمد إن "السلطتين الدينية والسياسية مرتبطتان ببعضهما، وتالياً لم يكن مفاجئاً تكفير مشايخ من دار الفتوى للنواب السنة المرشحين عن قوى التغيير، قبل انتخابهم وبعده، لمجرد أنهم ليسوا تحت عباءتها، مستعملين حجة تأييدهم للزواج المدني وحقوق المثليين/ات لتقليب الرأي العام ضدهم، ولوضعهم تحت ضغط لاتخاذ مواقف قريبة من دار الفتوى".
بحسب رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان وديع الأسمر، فإن كتاب الوزير ليس الأول من نوعه، لكن الجديد فيه هو "غياب الحياء وتضمينه الأسباب الحقيقية التي تقف خلف إصداره، من ناحية إسناده إلى وجود تحريض من رجال الدين، مع تغييب أي سند قانوني"، مشيراً إلى أن المؤسسة الدينية في لبنان "تلعب أسوأ الأدوار في مواجهة الحريات الشخصية، إذ يعدّ رجال الدين أنفسهم فوق القانون والدستور".
ويتفق الأسمر مع عبد الصمد في وضع "الهجمة" الأخيرة على مجتمع الميم-عين في إطار رغبة السلطة في تحويل الخطاب العام عن المشكلات الاقتصادية التي تعصف بالبلد، "بما يفضح مرةً جديدةً دور رجال الدين في حماية المنظومة الفاسدة، واستعمال السلطة السياسية لهم لحماية مصالحها".
المخاطر تتصاعد
واتخذت الحملة على مجتمع الميم-عين منحى خطيراً يدفع ثمنه أفراد هذا المجتمع، فبالإضافة إلى إطلاق حملة أمنية لمنع تجمعاتهم الثقافية، أدى الخطاب التحريضي الصادر عن السلطات السياسية والدينية، إلى بروز نبرة عنفية وتجمعات تحضّر لأعمال عنفية ضد المثليين/ات، منها ظهور مجموعة مسيحية متطرفة تطلق على نفسها "جنود الرب"، عمدت إلى تحطيم زهور وُضعت بألوان علم قوس قزح في الأشرفية، ذات الأغلبية المسيحية، موثقةً عملها بفيديو قصير ضمّنته الكثير من التهديد للمثليين والمثليات. وبالتزامن انتشرت تسجيلات صوتية تكفّر المثليين والمشاركين في دعمهم، وتتوعدهم بالقتل والضرب في حال ظهورهم في الشارع.
حاولت "بيروت برايد، وبالتعاون مع ليو برنيت وبيغ كاهونا فيلمز، أن تظهر رمزاً رقيقاً هو رمز الزهرة، تعبيراً عن قوّة الجماعة، قبل أن يُدمرها "جنود الرب" في الأشرفية
وانتشرت عشرات آلاف التغريدات المحرضة، والتي استعملت خطاب كراهية واضح، وحددت أماكن وأوقات للتجمع من أجل مهاجمة مسيرة دعم حقوق المثليين/ات أو أي نشاط داعم لهم/نّ.
ويتعرّض المحامي والناشط خالد مرعب، إلى حملة تحريض وشتم وتهديد مباشر بالقتل على خلفية منشور على فيسبوك انتقد فيه موقف المفتي دريان من حقوق المثليّين/ات، وأعلن مرعب، الذي اضطر إلى مغادرة منزله في طرابلس، عن أن تهديداً مباشراً وصله من عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الشيخ أمير رعد "الذي قال لي حرفياً: أنت هدف لنا".
بالتزامن، حكمت المحكمة العسكرية على الكوميدية شادن الفقيه، وهي ناشطة بارزة من مجتمع الميم-عين، بالسجن ستة أشهر، يعوَّض عنها بدفع غرامة قدرها 10 آلاف ليرة عن كل يوم سجن، ويقول المحامي أيمن رعد إن الحكم على شادن هو حكم قمعي وعقابي، كاشفاً خلال حديث إلى رصيف22، أنه "كان هناك توجه خلال محاكمتها لمحاسبتها على كل المواقف التي سبق أن اتخذتها، فحكمت بالعقوبة الأقصى الممكن اتخاذها في الجرم المدَّعى عليها فيه".
يعاني مجتمع الميم-عين في لبنان من التمييز في فرص التعليم والعمل باستمرار، ما انعكس مباشرةً على فرصهنّ/ م لكسب العيش ويدفعهنّ/ م للعمل في وظائف متدنية الدخل
واقع مجتمع الميم-عين
تزداد خطورة هذه التطورات السريعة التي تأتي ضمن حملة التهديدات الآنفة الذكر، والتي أدت إلى إلغاء تظاهرة الأحد، مع معرفة مدى أثر الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يعيشها لبنان منذ سنتين على المجموعات الأكثر تهميشاً، لا سيما مجتمع الميم-عين، إذ أظهر تقرير لمنظمة أوكسفام أن 70% من المستطلعات/ ين المثليات/ ين والعابرات/ ين، قد فقدوا وظائفهم خلال السنة الماضية، مقارنةً مع نسبة بطالة وصلت إلى 40% بين القوى العاملة في البلاد.
وفيما يشهد لبنان أزمةً اقتصاديةً من بين الأشد في العالم منذ القرن الثامن عشر، تضاعف خلالها الفقر المتعدد الأبعاد، مما أثر على 82 في المئة من السكان العام الماضي، بحسب آخر تقرير أممي، فقد ضربت الأزمة بحسب أوكسفام بشكل أخص مجتمع الميم-عين كونها مجموعةً تعاني باستمرار من التمييز المنهجي والافتقار إلى الحماية وعدم المساواة الاقتصادية.
ويواجه أفراد الميم-عين، بحسب التقرير عينه، التمييز في فرص التعليم والعمل باستمرار، ما انعكس مباشرةً على فرصهنّ/ م لكسب العيش ويدفعهنّ/ م للعمل في وظائف متدنية الدخل في القطاع غير الرسمي. كما يتعرض الأفراد الكوير في لبنان إلى تمييز ممنهج وتم حرمانهم من الوصول العادل إلى خدمات الصحة العامة والصحة النفسية لوقت طويل.
ويرى المدير التنفيذي لجمعية حلم، طارق زيدان، لرصيف22، أن "التهديدات التي يعيشها الميم-عين اليوم شاملة، وتتعدى التهديدات الاقتصادية، إذ تحاول السلطة والمراجع الدينية، من خلال حملتها الممنهجة اليوم، خلق حالة ذعر أخلاقي في المجتمع لإلهاء الناس عن مشكلاتهم الاقتصادية، بالاستناد إلى الخرافات المنتشرة عن المثلية والمثليين/ات"، مؤكداً أن هذه الحملة "تزيد المخاطر وتجعلها أكثر جديةً من خلال تحريض عامة الشعب على الفئات الأكثر تهميشاً في المجتمع".
يوم الجمعة، وقبل ساعات من كتاب الوزير، طرد دركي من قوى الأمن مجموعةً من الشبان والشابات يعزفون الموسيقى في مكان عام في شارع مار مخايل، في بيروت، وحين حاولوا الاستفسار عن السبب، خصوصاً أنه في مكان عام، أجابهم: "عم يصير في شذوذ".
لم يبقَ لمجتمع الميم-عين إلا القليل من المساحات الآمنة، بعدما كانوا من بين الأكثر تضرراً أيضاً من تداعيات انفجار بيروت، الذي دمّر المقاهي والحانات الصديقة لهم، في أحياء مار مخايل والجميزة والجعيتاوي، وأقفلها، فضلاً عن جائحة كوفيد19 والأزمة الاقتصادية المستمرة، ما دفع بعدد من الأماكن الصديقة لهم التي لم يطَلها الانفجار إلى الإقفال، لعلّ أبرزها مطعم وبار باردو في الحمرا، فإن المساحات الآمنة القليلة الباقية، يطالها كتاب الوزير اليوم، لأسباب سياسية وهوموفوبية، محرضاً الأجهزة الأمنية على مداهمتها واتخاذ "التدابير اللازمة"، لمنع تجمع المثليين/ات فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم