في مساء الثامن عشر من آب/ أغسطس الماضي، بدت الأجواء هادئة للغاية في شارع "ليحي" جنوبي تل أبيب. لكن فجأةً سُمع دوي انفجار هائل. انفجرت قنبلة بجانب شاحنة، ما أدى إلى وقوع قتيل وجريح. وتبيّن لاحقاً أنها لم تكن مجرد عبوة ناسفة بل "عملية استشهادية" نفذها القتيل. فيما أعلنت كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس)، وسرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) مسؤوليتهما عنها.
"ستعود العمليات الاستشهادية في داخل إسرائيل إلى الواجهة ما دامت المجازر وعمليات تهجير المدنيين متواصلة وسياسة الاغتيالات مستمرة"، هكذا قال الجناحان العسكريان بشأن عودة العمليات لأول مرة منذ نحو 18 عاماً إلى داخل إسرائيل. وهي العمليات التي طالما أثارت جدلاً واسعاً في الساحة السياسية الفلسطينية، وانقساماً بشأن جدواها من الناحيتين السياسية والعسكرية.
مع نهاية الشهر نفسه، نفذت كتائب القسام عمليتين نوعيتين مشابهتين، إذ انفجرت سيارتان مفخختان على نحو متزامن في منطقة الخليل، واحدة بالقرب من محطة وقود بمستوطنة "غوش عتصيون"، وأخرى قرب مستوطنة "كرمي تسور"، ما أسفر عن إصابة ثلاثة إسرائيليين من أفراد الشرطة والجيش، بينهم ضابط كبير.
"شكّلت العملية قفزة كبيرة وخطيرة إلى الأمام على مستوى الجرأة والتخطيط المسبق"، وفق تعبير "يديعوت أحرونوت"، ووسط تقديرات أمنية إسرائيلية عن وجود خلية في الخليل تسعى لتنفيذ عمليات بنفس النمط. وهو ما دفع الجيش الإسرائيلي بعد ذلك، لنقل قوات من غزة إلى ساحة الضفة المشتعلة.
"أعتقد أن العودة إلى هذه العمليات في ظل محاولة حركة حماس فتح آفاق دولية تشكّل ورقة من الأوراق الأخيرة لديها في ظل الانسداد السياسي"، يقول إبراهيم ربايعة، مدير تحرير دورية "شؤون فلسطينية" بمركز الأبحاث الفلسطيني، لرصيف22، مضيفاً أن حركة حماس "تعرف أثر هذه الورقة على مستوى الشارع والرأي العام والقرار السياسي الإسرائيلي. وبالتالي تحاول استثمارها لدفع العملية التفاوضية".
ظهور في التسعينيات وكثافة بانتفاضة الأقصى
ظهرت "العمليات الاستشهادية"، تحديداً عبر السيارات المفخّخة، لأول مرة عام 1986، لكنها لم تنفّذ لاكتشافها مسبقاً. لكن أول عملية ناجحة لتفجير سيارة مفخّخة في حافلتين عسكريتين إسرائيليتين نُفّذت عام 1993، بالتزامن مع نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى. تصاعدت هذه العمليات وامتدت إلى الداخل المحتل، ونُفّذ أول تفجير انتحاري ضد مدنيين إسرائيليين عقب مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994، التي نفّذها المستوطن الإسرائيلي باروخ غولدشتاين وراح ضحيتها 29 مُصلياً وعشرات الجرحى الفلسطينيين.
وبالإضافة إلى اعتبار هذا الهجوم رداً على مجزرة الحرم الإبراهيمي، تقول "هيومن رايتس ووتش" إنه قُصد من توقيت الهجوم، على ما يبدو، "إفشال المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية حول تطبيق إعلان المبادئ الصادر في أوسلو". وبحسب المنظمة الحقوقية، فبين عام 1994 وعام 1998، نفذت حماس مزيداً من الهجمات "من أجل تعزيز موقفها في مواجهة الفصائل الفلسطينية الأخرى، وتقويض السلطة الفلسطينية".
العمليات الاستشهادية لم تؤتِ ثمارها خلال الانتفاضات السابقة، فردّاً عليها، استخدمت إسرائيل العنف ضد الفلسطينيين وزادت نسبة الاستيطان في الضفة الغربية، وأُفشلت اتفاقية أوسلو
فيما اعتبرت السلطة الفلسطينية أن هجمات حماس منحت الإسرائيليين ذريعةً للنكوص عن تعهداته في مسار أوسلو. إلا أن قطاعاً من المعارضين للاتفاقية يعتبرونها "تصب في تعزيز الأمن الإسرائيلي ومنع الكفاح المسلح وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه كعودة اللاجئين وإقامة دولة وعاصمتها القدس".
لكن مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية انخرطت جميع الفصائل الفلسطينية في هذا النوع من العمليات بما فيها "كتائب شهداء الأقصى" الذراع العسكرية لحركة فتح"، وإن ظلت "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في واجهة هذه العمليات.
في دراسة بعنوان "الانتفاضة والمقاومة والعمليات الاستشهادية: التأثيرات والإشكاليات"، يقول الباحث ماجد كيالي إنه طوال فترة الانتفاضة "شهدت الساحة الفلسطينية تجاذباً نشطاً بين استراتيجيتين للمقاومة المسلحة، أولها تمثلت بتركيز المقاومة ضد التواجد الإسرائيلي العسكري والاستيطاني في الضفة وقطاع غزة، جسّدتها الأذرع العسكرية لحركة فتح على وجه الخصوص، والجبهتين الشعبية والديمقراطية. والثانية تمثلت بالعمليات الاستشهادية وراء الخط الأخضر، وجسدتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، باستهداف مقاهٍ ومطاعم وملاهٍ وحافلات عامة".
ويذكر كيالي أنه عقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وتداعياتها المتمثلة بالحرب ضد الإرهاب، بذلت قيادات فتح جهوداً لإقناع القيادات في حماس والجهاد بتركيز الجهود على استهداف الوجود الإسرائيلي في الضفة والقطاع. بل راحت "العديد من الشخصيات الوطنية العاملة في الحقلين السياسي والثقافي تطالب بوقف العمليات لما تسبّبه من ضرر على صورة الكفاح الفلسطيني".
بدا أن قيادتي حماس والجهاد قد اقتنعتا بالتوقف عن هذه العمليات. "لكن هذا لم يدم إلا شهراً واحداً. إذ استمرت إسرائيل خلاله بممارسة سياسة اقتحام المدن والمخيمات الفلسطينية، والإمعان فيها بأعمال التدمير والقتل والاعتقال. وكان معلوماً أن سياسة شارون الاستفزازية، رئيس الوزراء حينذاك، رمت إلى استدراج الفلسطينيين إلى المواجهة العسكرية"، يكتب كيالي.
ويستدرك: "لكن يبدو أن اقتناع الفلسطينيين بوقف العمليات التفجيرية "لم تكن كاملة أو ناضجة" إذ سرعان ما تم التراجع عن الخطوة السابقة بمبادرة من كتائب الأقصى التي استهدفت قاعة للأفراح في مدينة الخضيرة الإسرائيلية رداً على اغتيال قائدها رائد الكرمي".
أسئلة حول الجدوى
يرى كيالي أنّه على الرغم من أن "العمليات الاستشهادية" حمّلت إسرائيل تكلفة بشرية واقتصادية عالية، لكن كُلفتها على الفلسطينيين أيضاً كانت فادحة بشرياً واقتصادياً وسياسياً، على صعيد الرأي العام الدولي، وتقويض شرعية الكفاح الفلسطيني عبر آلة الدعاية الإسرائيلية التي استغلتها لوصم المقاومة بالإرهاب عالمياً، ووضعها ضمن سياق الحرب الأمريكيةوالدولية ضد الإرهاب.
"هناك شبه إجماع على مستوى الساحة الفلسطينية منذ النصف الثاني من الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000، بأن هذه العمليات ليست السلاح المناسب الذي يمكن أن يجلب نتائج سياسية. كذلك، فإن التكلفة على مستوى الرأي العام الدولي كانت كبيرة وباهظة جداً"، يقول ربايعة.
حماس تعرف التكلفة السياسية الباهظة لمثل هذه العمليات ولكنها أرادت إرسال رسالة فحواها أن هذا الخيار متاح، وربما يهدف إلى تحويل تحويل المجتمع الإسرائيلي للضغط على قيادته السياسية لاتخاذ القرارات
ويضيف: "في تاريخ الحركة الفلسطينية لم تكن هناك مراجعة ذاتية للأساليب والأدوات والإستراتيجيات سواء كانت سياسية أو عسكرية. ثمة حالة من الرهاب من المراجعة التي لم تحدث في الانتفاضة الأولى أو الثانية أو مسار أوسلو أو في أي من المراحل الأخرى".
تعتبر الباحثة رهام عودة من غزة أن "العمليات الاستشهادية لم تؤتِ ثمارها خلال الانتفاضات السابقة، فرداً عليها، استخدمت إسرائيل العنف ضد الفلسطينيين وزادت نسبة الاستيطان في الضفة الغربية، وأُفشلت اتفاقية أوسلو". وتقول لرصيف22: "أعتقد أن على جميع الفصائل الفلسطينية أن تلتزم باتفاقيات جنيف الرابعة وألا تستخدم العنف ضد المدنيين بغض النظر عن جنسيتهم وموقف دولتهم المعادي للفلسطينيين".
وترى أن"إسرائيل انتهكت القانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني. لكن القضية الفلسطينية عادلة وأصبحت قضية دولية تدعمها شعوب العالم الحرة. لذا يجب استغلال هذا الدعم في محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها بدلاً من إعطائها ذريعة لاستخدام العنف، كما يحدث الآن في حرب غزة".
لكن ساري عرابي، الباحث في شؤون الحركة الوطنية الفلسطينية والحركات الإسلامية، يرى أنه كان هناك مراجعات لهذا النمط من العمل، حينما أعلن الفلسطينيون استعدادهم لوقف العمليات مقابل توقف إسرائيل عن استهداف المدنيين.
"وربما يمكن القول إنه حصل اتفاق ضمني على ذلك. لكن إسرائيل لم يلتزم واغتال مدنيين وقيادات تابعة للمقاومة، لكن بنحو أقل بكثير مما كان عليه من قبل. وبالتالي ربما خلقت هذه العمليات نوعاً من التوازن النسبي حينها"، يقول عرابي لرصيف22.
ويردف: "لكن بالتأكيد هذا النمط بحاجة لإعادة مراجعة، وتثبيت موقعه من النضال الفلسطيني على المستوى القانوني والدعائي، وكيف يمكن أن يستثمره إسرائيل. وكذلك أثره في استهلاك قدرات وقوى المقاومة".
ويدلل الباحث الفلسطيني على هذه الحقيقة بذكره استنزاف قدرات فصائل المقاومة. فردودها على اغتيال الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة، القيادات المهمة في حماس، كانت أقل من مستوى العمليات التي نُفّذت في بداية الانتفاضة".
"وبالتالي فإن هذه العمليات بحاجة لمراجعة على المستوى القانوني والسياسي والأمني، ومدى قدرة الفصائل على الاستمرار في ظل واقع معقد أمنياً داخل الضفة الغربية"، يضيف عرابي.
السياق الحالي والآثار المحتملة
لا يعتقد ربايعة أن ثمة قراراً بالعودة الفعلية إلى العمليات "الاستشهادية" بقدر ما هو تلويح بالعمليات من قبل حماس. "بمعنى أنها عملية تحذيرية واستعراض يقول إنّ هذا الخيار على الطاولة. ولكن هذا لا يعني أنع سيستخدم. إلا إذا تعقدت الأمور بشكل أكبر".
ويضيف: "حماس تعرف التكلفة السياسية الباهظة لمثل هذه العمليات ولكنها أرادت إرسال رسالة فحواها أن هذا الخيار متاح، وربما يهدف إلى تحويل تحويل المجتمع الإسرائيلي للضغط على قيادته السياسية لاتخاذ القرارات".
"هناك حالة من الاستعصاء الميداني والضغط الإسرائيلي بعملية الضرب المفتوح على القطاع. وهذا يرتبط بامتناع حماس عن الذهاب لطاولة المفاوضات الأخيرة. هناك إحباط من المسار السياسي ومحاولة لتحريك المياه الراكدة"، يقول ربايعة.
يرى كيالي أنّه على الرغم من أن "العمليات الاستشهادية" حمّلت إسرائيل تكلفة بشرية واقتصادية عالية، لكن كُلفتها على الفلسطينيين أيضاً كانت فادحة بشرياً واقتصادياً وسياسياً
تتفق الباحثة رهام عودة مع ربايعة على أن "عملية تل أبيب تهدف بشكل من الأشكال لتكون ورقة ضغط أخيرة على حكومة بنيامين نتنياهو. "وتم تأجيل استخدام هذه الورقة على أمل أن ينجح الوسطاء في إيقاف النار في غزة وحرصاً من حماس على ألا يتم اتهامها بإفشال المفاوضات".
"لكن عندما اغتيل رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، وصلت رسالة لحماس مفادها أن حكومة نتنياهو غير معنية بإيقاف النار وأن نتنياهو لن يتنازل عن أهداف الحرب المتمثلة بالقضاء على وجود حماس المدني والعسكري في غزة"، تؤكد رهام.
وفي حين أن عملية تل أبيب تزامنت مع اختيار يحيى السنوار رئيساً للمكتب السياسي لحماس، إلا أن عرابي لا يعتقد أن عودة هذه العمليات منوطة بقرار سياسي راجع لاختيار قائد جديد.
"لأن وقف هذه العمليات خلال المراحل الماضية، ربما كان مرتبطاً بقرار سياسي بعد انتهاء انتفاضة الأقصى في محاولة حماس إحراج إسرائيل وتجنيب استهداف المدنيين الفلسطينيين. لكن هذه المعادلة لم تعد قائمة حينما شرعت إسرائيل في الإبادة الجماعية في غزة"، يؤكد عرابي.
ويشير إلى أن "فصائل المقاومة تعرضت لعمليات تفكيك واستنزاف منذ عام 2002، ثم لوحقت عام 2007 من قبل السلطة الفلسطينية لتفكيكها. لم يكن هناك بنية تنظيمية لترتيب عمليات من هذا النوع. لكن البيئة التنظيمية في الضفة في الآونة الأخيرة ربما وفّر الإمكانية لتنفيذ عمليات من هذا النوع".
"لا أفق إلا بالمصالحة الفلسطينية"
يتفق المحللون الفلسطينيون الثلاثة على أن ما ينقص الفلسطينيون هو رؤية وطنية جامعة وبرنامج سياسي متفق عليه. "حال الوصول إليه، فإن كل هذه الأسئلة (حول جدوى العمليات أو عدم جدواها) سيجاب عليها. إذ سيتفق الفلسطينيون على الأدوات والأهداف، وبالتالي لا يصبح من حق أي طرف أن يستخدم أدواته بشكل منفرد سواء على صعيد السياسي أو العسكري"، يقول ربايعة.
أما عرابي فيعتبر أن فصائل المقاومة لا تجد مشكلة في المصالحة والاتفاق مع قيادة منظمة التحرير على برنامج وطني ونضالي وأن تقود منظمة التحرير المشهد السياسي بما فيه قطاع غزة".
ويستدرك: "كلنا شاهدنا التفاهمات العديدة الأخيرة ومحاولات المصالحة التي لم يُطبّق منها شيء. بل تزايد التناحر كأن تُحمّل السلطة حماس مسؤولية الإبادة، أو كأن تسعى إلى ضبط السلاح في الضفة وملاحقة المقاومين، وتفكيك المظاهرات السلمية".
"دون أفق سياسي لا يمكن أن تحقق القضية الفلسطينية أي انتصار"، تقول عودة.
وتختم: "يجب أولاً ترتيب البيت الفلسطيني وحل الخلافات الداخلية من أجل البدء بعملية التفاوض حول استقلال الدولة الفلسطينية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي