شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
جان بودريار في جُحر الديك… إنها

جان بودريار في جُحر الديك… إنها "بورنوغرافيا الحرب" يا صديقي!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع نحن والحقيقة

الثلاثاء 2 يوليو 202412:50 م

أبحث عن كتب المفكر والفيلسوف الفرنسي الراحل جان بودريار (1929-2007)، على شبكة الإنترنت، فأعثر على بعضها، ويظلّ بعضها الآخر عصيّاً على الحيّز الافتراضي الذي أجول فيه منذ الليلة الماضية. لقد عثرت على ثلاثة من عناوينه المثيرة "المصطنع والاصطناع"، "روح الإرهاب"، و"عنف العالم"، وأرسلتها لصديقي بالبريد الإلكتروني، وهاتفته قلقاً، لأسأله إن كان قد استلمها، فأتأكد من حقيقة عثوري عليها بالفعل، فأنا منذ مدة أرتاب من كل شيء من حولي.

لأصحح فكرتي قليلاً، أنا في الواقع أبحث عن بودريار نفسه، وليس عن كتبه. قد تعينني صورته -وفي بعضها يبدو حائراً من "شدّة" تفكيره- على التخلص من صور تتدافع في رأسي منذ بدء الحرب على قطاع غزّة لزعماء وسياسيين ورؤساء وزراء ووزراء دفاع ومارشالات ومحللين إستراتيجيين وعسكريين عرب. ألاحظ أن هذا أيضاً يسهم في تعزيز فكرة "عنف العالم" عندي.

قد تعينني صورة بودريار -وفي بعضها يبدو حائراً من "شدّة" تفكيره- على التخلص من صور تتدافع في رأسي منذ بدء الحرب على قطاع غزّة لزعماء وسياسيين ورؤساء وزراء ووزراء دفاع ومارشالات ومحللين إستراتيجيين وعسكريين عرب

أصفّق لصاحبها "المجهول وغير المجهول"، وأبدأ بتجميع الأكفان التي أعثر عليها في طريقي. أريد أيضاً أن أبحث عن خيَّاط إضافي لهذه الأكفان. أدفع له راتباً شهرياً، طالما الحرب مستمرة. الأكفان (مجاز تكتيكي) لا تخصّ الشهداء هنا، فهم الذين يتناثرون في هواء بيت لاهيا، وبيت حانون، وتل الزعتر-جباليا، وجُحر الديك، ودير البلح ورفح، وخان يونس، والشجاعية، وحي الشيخ رضوان، وليسوا بحاجة إليها الآن.

ألاحظ من مكاني وأنا أتنقل بين المحطات التلفزيونية، أن مشاهد الجثث المرمية على طرقات تل الزعتر-جباليا 2023، لا تبتعد عن صور الجثث في تل الزعتر 1976 التي ما زالت تسكن ذاكرتي. الفارق طفيف، ويكمن في التنقل بين درجات الأسود والأبيض والملوَّن. هل هي "بورنوغرافيا الحرب" التي كتب عنها بودريار؟

ها هو يهزّ برأسه لي من فوق. ليس البورتريه "البودرياردي" الأزرق الذي أعلّقه على جدار في بيتي إلا تلك العلامة الدالّة على هذا الفارق في توصيف هذه الحصص البورنوغرافية الدموية التي تدور في قطاع غزّة، ويعيش العالم المعاصر على إيقاعها اليومي. إنه استمناء الإرهاب الذي يمارسه قوَّادون عالميون، وتجَّار أسلحة كبار، وأشباح عابرون للجنسيات والقوميات بزعم الرد على واقعة 7 تشرين الأول/أكتوبر.

يقول لي ساخراً، من فوق، من أعلى نقطة في الجدار: نعم إنها بورنوغرافيا الحرب. دروس متقنة في قصف العقول تفوق أي مخيال جمعي قد يجمع بيننا، وأرجوك ألا تتسلَّح بصورتي، فأنا نفسي حائر. يقتلني التفكير. بعبارة أدق تقتلني شدّته.

أنت لست حصيفاً كفايةً لأنك خائف وتحتمي بي، وأنا لم أعد واثقاً من قدرتي على حماية نفسي في هذه الغابة "الكونية". وإن تركت الأمر لي، فأنا أريد أن أنزل عن هذا الحائط. أريد أن أنزل عنه طوعاً، وبملء إرادتي، فلم أكن أتصور أن حصة كل فرد منّا من دروس هذه الـ"بورنوغرافيا الدموية"، تفوق طاقة أي واحد فينا على الاحتمال. أرجوك أن تعتقني، فأنت تصلبني على جدارك، وأنا لم أعد أحتمل المسامير التي تنبت في راحتي. إنها تزيحني من الواقع لحساب كل ما هو افتراضي. أمقت ذلك بشدة!

عندما بدأ القتل على سطح هذا الكوكب، بدأ عنف العالم، فهل سنكون دقيقين في توصيفنا العنف العالمي، أو العنف في العالم؟

لا تبحث عن كتبي على شبكة الإنترنت؛ ليس لأنها مسروقة، أو كما تقولون في بلدانكم مقرصنة. لا، ليس الأمر كذلك، فأنا أيضاً كنت محصّناً في الغرب ضد أي قرصنة من هذا النوع، بالرغم من دأبي في البحث عن جدائل عولمة بديلة في حدائق العالم. لكنني اكتشفت من خلال صورتي التي تعلّقها فوق رأسك أنه لا يوجد إلا عنف العولمة الذي يعاد تدويره بأشكال جديدة في كلّ حرب.

بديله مجرد أفكار عابرة لمحاضرة على مدرج جامعي في مدينة كبرى. في الواقع ليس هناك سوى عنف مدرسي موحد، يقوم به أساتذة مختصون، وإن كنت قد لاحظت، مثل سواك، تشابهاً في جثث القتلى المرميين على الطرقات في أزمنة مختلفة، فهذا هو الخيط الخفي الذي يمسك به تلامذة هذا العنف "المعولم" حين يخلون مقاعدهم لغيرهم من الأشرار، ويحصلون على مراتب أعلى في "الأستاذية".

الحيوانات تقتل من أجل أن تأكل، وحتى تحافظ على النوع، وهي غير معنية مثلنا بهذا العنف، وسلوكها لا يطرأ عليه أي تغيير، فهي لا تقوم بأي تحديث لمخالبها وأنيابها وغرائزها، وليس لديها أي هراء لتقوله للإعلام. إنها تقتل وتأكل وتنام.

عندما بدأ القتل على سطح هذا الكوكب بدأ عنف العالم، فهل سنكون دقيقين في توصيفنا العنف العالمي، أو العنف في العالم؟ لا أوافق على المعنيَين. العنف هو عنف العالم بأسره، وليس عنف فئة محدودة، وما تراه من عدوان وحشي على قطاع غزّة ليس إلا صورة عن هذا العنف المركّب الذي جرى تخزينه وشحنه في أعماق الإنسان عبر القرون. وأولئك الذين يتصدّون له الآن ببسالة في مدن مختلفة حول العالم، إنما وجدوا طريقهم إلى المجال العمومي لمناهضة العولمة. هذا هو الحيّز المتاح أمامنا الذي كنت أعتقد أنه ساحة مثلى للعولمة البديلة.

لاحظ معي أن جُحر الديك (تبلغ مساحتها العمرانية 100 دونم، ومساحة النفوذ فيها نحو 6،200 دونم)، تحوَّلت إلى ساحة عمومية لمناهضة عنف العالم. إنها جُحر كوني، مثلها مثل المحاور الأخرى التي كنا نبحث عنها بأفكارنا من أجل الطوفان: طوفان الوعي.

ليس أمامنا إلا وقت قصير للخروج من هذا الجُحر نحو عالم جديد، تتضاءل فيه أصوات "البلطجية" الذين يحتاجون إلى عولمة الشر والشر المضاد الذي ستمارسه -حتماً- جماعات من مختلف الأصوليات في شتى الاتجاهات، وليست "بورنوغرافيا" الدم سوى مظهر تحديثي من مظاهر بؤس هذا العالم وشقائه.

أعرف أنك تجازف بإصرارك على رفع صورتي فوق رأسك. أنا بالطبع لست مسؤولاً إلا في حدود معينة، ولكنني أحدس أن عنادك يدفعك للسؤال عن سبب التظاهر في مدن رئيسية حول العالم، فيما لا تعثر على تظاهرة واحدة في المدن العربية. دعك من بعض التظاهرات التي تنظمها فيها حكومات وأجهزة أمنية غالبيتها تحت السيطرة، وهدفها الأساسي بعث رسائل معنية بثمنٍ ما مطلوب على الطريق.

يقول لي بودريار: لا تصدق ما يُكتب على شبكة الإنترنت. حتى كتبي هناك تزاحم واقعي، وتزيحني لحساب كل ما هو مقيت وافتراضي. إنه نوع من عنف العالم، يُمارَس عليَّ أنا أيضاً

ليس هذا جوهر حديثنا، ولو افترضنا أن المجال العمومي لمناهضة العولمة فيه أسوار مثل المدن التي كانت تتحصَّن وراء الأسوار لتتخلص من تهديدات الأعداء واللصوص العابرين وقاطعي الطرق، فإن مخاض المرور عبر أسوار مناهضة العولمة يتطلب تجهيزات مكلفةً لم تستعد لها الشعوب العربية في القرن الماضي، وفي لحظة الالتحام الكونية ارتطمت بهذه الأسوار ولم تعبرها، وبقيت خارجها، في مواجهة تحديات تهدد وجودها بالكامل، ولا تبشر بالخير، ليس في ما يخص الحرب الحالية الآن، بل في ما يخص المستقبل برمّته، وهو طافح بالتحديات، وليس هناك وقت كافٍ أمام هذه الشعوب، لتتعلم من أخطائها.

كل ما حدث في القرن الماضي كان حواراً بأشكال متغيّرة مع هذا العالم، وما فعلتموه، وأنتم تنفضون الغبار عن أثوابكم خارج هذا المجال العمومي المتاح أمام أمم وقوميات أخرى نجحت في اختراقه، ولم ترتطم بجدرانه، ليس سوى مضيعة للوقت، وقطع للحوار. لا تزعل مني، فأنتم لا تتحاورون مع العالم أبداً، وإنما تحاورون أنفسكم.

لا تبتعد كثيراً بأفكارك! كل الذي أطلبه منك لا يتعدَّى إتلاف صورتي التي تعلّقها فوق رأسك، وتكتفي بهذا القدر من استجوابي: ضع في ذهنك أن جُحر الديك هي المجال العمومي الحقيقي لمناهضة العولمة، ولا تبحث عن سبب إطلاق هذا الاسم عليها. لا تصدق ما يُكتب على شبكة الإنترنت. حتى كتبي هناك تزاحم واقعي، وتزيحني لحساب كل ما هو مقيت وافتراضي. إنه نوع من عنف العالم، يُمارَس عليَّ أنا أيضاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image