شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كي لا تستمر

كي لا تستمر "معارك التحرير" في حصد رؤوسنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والخطاب الديني

الجمعة 30 أغسطس 202412:00 م

بين من يرى بأن المسائل الأخلاقية/ الجدلية فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي، يجب ألا تتجاوز أطر الصراع "الرسمية" التي تم تشكيلها على مدار سنوات الصراع، وبين من يؤمن بأن هناك حاجة دائمة للارتجال والخروج عن تلك الأطر الرسمية، أو الديباجة الجاهزة، انقسمت الآراء لدى الجمهور العربي والإسلامي بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وفي الوقت الذي تروج فيه حركات المقاومة الاسلامية في فلسطين وخارجها لخطاب التضحية والدماء التي تُعدّ "ضرورة لازمة" من أجل مستقبل "الأمة"، والتصدي "للمؤامرات" التي تحاك ضدها، يتبنى جمهور من المحافظين العرب؛ الإسلاميين والقوميين، هذا الخطاب بصرامة. إذ يمنحهم هذا بطولة غير مكلفة، ويزيح عنهم عناء التفكير الناقد، باعتبار أنهم يمتلكون الصواب المطلق، عوضاً عن أنه يصب لديهم في جوهر الفرض الديني الإسلامي.

مع ذلك فإن موجات قديمة/ جديدة بدأت تتخذ شكلاً أكثر تنظيماً داخلياً في فلسطين، وخارجياً في دول الجوار والعالم، في تأكيدها أن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين وحدهم "حين يتعلق الأمر بالتضحية" كشعب يطالب بدولة، وليست قضية دينية أو إنسانية أو حتى قومية.

وكانت تلك الموجات قد ظهرت في السابق خلال حراكات معارضة للتبعية الإيرانية وعسكرة المجتمع في المناطق العربية التي تنشط فيها سلطة الميليشيات، كحراك "بدنا نعيش"، الذي انطلق في قطاع غزة عام 2019، ومثيلاته من المواقف والحراكات المعارضة في المنطقة.

وقد يكون الفرق هو أن هذه الموجات، بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أخذت شكلاً أكثر تنظيماً ووضوحاً في أهدافها وتطلعاتها.

الحرب والتيه والسؤال عن الذات

في البدء تطرق الحرب رؤوس الشعب مستعرضة أسبابها. وفي بلاد لها تاريخ من عدم القدرة على الرفض والاعتراض، لا يكلف أرباب الخراب ومهندسو الموت أنفسهم الكثير من العناء لشرح الحرب؛ إنها مشيئة الله. اعترض لو استطعت.

يتمثل ذلك في تصريحات خالد مشعل، على سبيل المثال، التي جاءت كرد على الانتقادات الموجهة لحركته بعد السابع من أكتوبر، حين قال: "غزة تدمرت وهذا ثمن المقاومة".

أو في رسائل يحيى السنوار لقادة حماس في الخارج: "علينا أن نمضي قدماً على نفس المسار الذي بدأناه، أو فلتكن كربلاء جديدة".

والكثير من تلك التصريحات والرسائل التي ترد بين فينة وأخرى على لسان قادة حركة حماس، والتي يُشتقّ جوهرها من فكر مؤسسي الحركة الإسلامية في فلسطين، والذي يمكن إيجازه في العبارة المعروفة لمؤسس الحركة أحمد ياسين٬ "إننا طلاب شهادة. لسنا نحرص على هذه الحياة، هذه الحياة تافهة رخيصة، نحن نسعى إلى الحياة الأبدية".

أصبح السؤال عن جدوى الحرب حتمياً، كما السؤال عن الوجود، وعن الذي رسم للفلسطيني هذه الذات التي لا تتيح أكثر من خيارين: إما موتاً بطولياً، أو حياةً بطولية

وفي حين ليس هناك أي أسباب سماوية أو طروادية تقف خلف الحروب، لا سيما العقائدية، ولمّا كانت الخرافات والأوهام هي الدوافع الحقيقية للحرب، فإن الواجب الأول أمام الشعوب التي تعاني من أزمات في تحديد الذات، وفي قول "لا"، هو الانعتاق من الخرافات و"الفكر القائم على الأسطورة"، وتمجيد الموت على أنه القيمة العليا الأخيرة التي يجب أن يصل إليها الإنسان، دون إعطاء الفرد فرصةً للنجاة أو التفكير خارج أبوية النظام الديني.

ودون ذلك الانعتاق، والعودة إلى الواقعية، لا يمكن للمجتمعات إلا أن تتحول إلى بيئاتٍ منتجة لأمراء الفوضى، والحروب العبثية.

وعند الحديث عن الذات، فإن الحرب الأخيرة فرضت ضرورة السؤال عن الذات عند كثيرين من سكان قطاع غزة، بعد ما يزيد عن عشرة أشهر من المذبحة الإسرائيلية والموت المجاني- إذ يفترض بمن يتبنى خطاب التضحية، أن يمتلك رؤية واضحة لما سيجنيه بعد التضحية، لا أن تكون التضحية على سبيل التجربة.

أصبح السؤال عن جدوى الحرب حتمياً، كما السؤال عن الوجود، وعن الذي رسم للفلسطيني هذه الذات التي لا تتيح أكثر من خيارين: إما موتاً بطولياً، أو حياةً بطولية، وأي خروجٍ عن هذا "الخطاب" فهو خيانةٌ للذات قبل أي يكون خيانةً للدين والوطن، والأمة… والقائمة تطول.

نحو مقاومة لا تخوض صراع ديكة مع الاحتلال

في أرضِ صراعٍ كأرض فلسطين، من الصعب القول بأن طرفاً من طرفي الصراع، المقاومة والاحتلال، مرشح للتفوق على الآخر.

فالمقاومة، كمعسكر برز بوضوح بعد السابع من أكتوبر، كالبيدق الأخير الذي يحفظ ديمومة فكرة "الأمة الاسلامية الواحدة"، قادر على حشد التأييد من الجماهير والأنظمة التي تعرف كلٌ منهما كيف تجني الفوائد من التأييد المباشر وغير المباشر لدوغمائية المقاومة والأمة المتخيّلة، سواء بحسن نية كما تفعل الجماهير، أو بصورة منهجية/ سياسية كما تفعل الحكومات والأنظمة.

أما الاحتلال فيمتلك أدواته التي تقدم رواية مناقضة، وتُظهر أي فعل فلسطيني مناهض للاستعمار على أنه فعل تخريبي يهدد العالم الحر، وليس دولة إسرائيل فحسب.

وبين براغماتية المقاومة وتعدد وجهاتها وداعميها، وبين الابتزاز الذي تمارسه إسرائيل ضد العالم كحامية لقيم السلام والحرية، يظل سؤال مثل "أي المعسكرين سينتصر على الآخر؟"، متروكاً على الهامش دون إجابة.

وفي حفلة الاستقطاب، وتوظيف الصراعات والتضامن في رفع أسهم الحركات السياسية حول العالم، أو خفضها، يصير العدل مفهوماً هامشياً، والسؤال عن الحقيقة شيئاً ليس ضرورياً، طالما أن الأوهام والخرافات والمسوخ الأسطورية وآلهة الحرب، وصراعات الديكة "الاستعمار ضد الميليشيات التي يصنعها"، باستطاعتها أن تؤدي وظيفة خلق حقيقةٍ موازية، يستخدمها صناع القرار وأصحاب اليد العليا من أجل إسكات الأصوات الواقعية التي تدرك أن لا ضرورة للدموية والصراعات، طالما أن ذلك "الغول" الذي يمنع الشعوب من فرض إرادتها وتقرير مصيرها هو مجرد شخصية وهمية موجودة فقط في عقول الميليشيات والحركات التي تتخد من الأساطير والموروثات الدينية مرجعاً فكرياً لعملها السياسي والعسكري.

وربما تكون دولة مثل اليابان وتجربتها في التفوق على الموت مثالاً جيداً على وهمية ذلك "الغول".

وبدأت الأصوات الواقعية تلك في الظهور بصخبٍ أوضح في قطاع غزة، وغيرها من مناطق نشاط الميليشيات التابعة لمحور الممانعة، والتي تدعو إلى "مقاومة" موضوعها الإنسان كفرد في دولة، أي هوية مستقلة، وليس موضوعها "انتصار مفترض" ينزع من ذلك الفرد هويته، ويوظفه داخل مشروع ديموغرافي غير محدد بأهداف قابلة للقياس.

وترفض هذه الأصوات أن تصبح القضية الفلسطينية حاجزاً بين الفلسطيني والعربي أيضاً، وحقه في المواطنة والاختيار، إذا ما تم استخدام القضية في سياقات واسعة، كالسياق الديني، وسياق مشروع الأمة والنزعات القومية والإسلامية.

الواجب الأول أمام الشعوب التي تعاني من أزمات في تحديد الذات، وفي قول "لا"، هو الانعتاق من الخرافات و"الفكر القائم على الأسطورة"، وتمجيد الموت على أنه القيمة العليا الأخيرة التي يجب أن يصل إليها الإنسان

في زمن الحداثة والاستقطاب السياسي الشعبوي

"لقد صنعنا تنافراً رهيباً، أو خللاً في التوازن بين تطورنا المادي وتطورنا الروحي. صنعت الحداثة حاجزاً بين الإنسان وروحه، لو كان بإمكان شخص ما أن يتوقف عن الكلام ويحاول فعل شيءٍ ما".

كانت تلك كلمات أليكسندر العجوز لطفله، من فيلم "التضحية 1986" لأندري تاركوفسكي.

ذلك التنافر الرهيب، كما وصفه تاركوفسكي، أو الانفصال بين الإنسان المعاصر الذي يبني مواقفه وفقاً للاستقطاب الرقمي، وبين حقائق الأمور في الواقع المُعاش، جعل من السهل إعادة تدوير تضحيات البشر في أي سياق، ما يجعل من الأفكار الأخلاقية في مهب الاحتمالات والتأويل، ومشاعية الاستخدام.

ثمة خلل حقيقي في التوازن في عالم الاستقطاب المعاصر يحتم على الشعوب أن تعمل بصرامة من أجل حماية ذاتها العامة وذوات أفرادها من التشكيل الخارجي- أي خارج أطر قضاياها الخاصة- لئلا تصبح تلك الذات ملكية عامة متاحة للاستخدام "لكل من يهمه الأمر".

كالذات الفلسطينية الموزعة والمشتتة، بين التحالفات الدينية والإقليمية، وبين قضايا السكان الأصليين، وقضايا مناهضة الاستعمار، وقضايا الحريات والأقليات، دون أن يستطيع الفلسطيني نفسه أن ينتج خطابه الخاص، وأن يصل قضيته الخاصة من خلال إعادة إحياء مشروع وطني يمنح مساحة لكل الأصوات الفلسطينية باختلافها، والأهم، أن يضمن هذا المشروع الوطني والحل الوطني، قيمة الإنسان الفلسطيني.

الحزن الذي يبقى عالقاً بعد انتهاء حفلات الانتصار

كثيراً ما نسمع أن الحرب تضحية ضرورية من أجل الكرامة والعدالة، ومفاهيم طوباوية لا يمكن حصرها.

وهذا جدل خلاق. إذ لا يمكن إثبات ضرورة التضحية، كما لا يمكن نفي ضرورتها. فالعالم لم يكن يوماً فردوساً مُبهجاً. لكن السؤال الأدق هنا يجب أن يكون عن جدوى التضحية.

حيث أن لا حيلة أو مهرب من حتمية فشل التضحيات التي تقام قبل أن يتم تحديد أسباب التضحية، ومن أجل من تحدث، ومن هم الذين سيؤدون التضحية، وما هي الذات التي سيضحى بها، ولأي ذاتٍ سنعلو بعد أن ضحينا بذاتنا القديمة.

أما وقد تم سحق الوجود الفردي للفلسطيني واستبداله بذات عامة وجمعية "موزعة ومشتتة المقاصد"، تبدأ من المقاومة وتنتهي بالموت البطولي، الذي إن لم يتحقق فالفلسطيني عالة على ذاته، فلن يبقى لنا أي ذاتٍ سوى الحزن والمدن التي لا تعريف لها، وتعاسة ما بعد انتهاء رقصة الانتصار، وإسدال الستار على الدم الذي لم يجف بعد.

إن البدء بالحديث عن بناء الذات الفلسطينية، لا "الرواية الفلسطينية"، هو المطلب الأساس، الذي ربما يكون قد تأخر لعقود من الحرب والدم والتضحية المجانية التي خدمت جهات كثيرة غير الفلسطينيين، بل أقامت مؤسسات وأنظمة كاملة

مرة أخرى بعد بيروت، نصل مجدداً من غزة إلى سؤال محمود درويش: "ماذا تريد، سيادةً فوق الرماد؟".

ومرةً أخرى يذهب حنظلة "فقيراً كالصلاة"، و"حافياً كالنهر في درب الحصى"، و"مؤجلاً كقرنفلة"، إلى اللامكان.

ليس له من تضحيته سوى الريح، مع ضرورة الإشارة إلى فارق الاستجابة إلى سؤال درويش، إذ أدرك ياسر عرفات في نهاية الأمر أن الدول لا تقام فوق الرماد.

هذا ما لا يمكن لحماس الإقرار به، إذ يتنافى مع عقيدتها كحركة إسلامية تنظر إلى فلسطين كمرحلة في مشروعها الكبير "لاستعادة أمجاد المسلمين".

هذا ما جاء على لسان محمود الزهار أحد أبرز قادة حركة حماس، في كلمته الشهيرة "فلسطين مش مبينة على الخريطة"، التي قالها في تسجيلٍ مصور.

وأضاف: "إن علم فلسطين مجرد خِرقة بالية، وإنّ فلسطين كلها أقل من نكاشة أسنان، لأن مشروعنا أكبر من فلسطين".

إن البدء بالحديث عن بناء الذات الفلسطينية، لا "الرواية الفلسطينية"، هو المطلب الأساس، الذي ربما يكون قد تأخر لعقود من الحرب والدم والتضحية المجانية التي خدمت جهات كثيرة غير الفلسطينيين، بل أقامت مؤسسات وأنظمة كاملة.

وهو المطلب الذي يؤدي إلى ذات فلسطينية تعلو فوق "الدعائية المقاوماتية"، وتعرّف الوجود الفلسطيني الذي يبحث عن حل/ تسوية على أساس وجود راسخ ومستقل للذات الفلسطينية، وليس عن الخوض في معارك عشوائية قد تؤدي "مستقبلاً" إلى إيجاد تعريف للفلسطيني، على طريقة حركات المقاومة.

بدون تلك الذات الواضحة، والخطاب المنتج محلياً، غير المستورد من منظمات وحركات إعادة تدوير الشقاء الفلسطيني، ستستمر حروب التحرير في الدوران وحصد رؤوس الفلسطينيين للأبد، دون جدوى، تحت شعار "مراكمة القوة، والحرب المفتوحة".

وستظل الحياة مطفأةً في مدن رمادية، رغم وفرة الشمس في هذا العالم الرحب.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لا سلطان على الإنسان إلّا عقله

أُنزِلت الأديان رحمةً للعالمين، لكن هل كنّا نعلم أنّها ستُستعمل لمآرب متطرّفة لا تُشبه غايتها السامية؟ هل كنّا نعلم أنّها ستُستخدم ضدّنا، وعلينا، لتصبح خنجراً في الخاصرة، ليس بإمكاننا انتشاله كي لا يتفاقم نزفنا؟

بالإيمان الصوري، والتدين وجاهيّاً، والذكورية الصفيقة، والقداسة الموزعة "غبّ الطلب"؛ استعملت السلطات الدين، وسلّحته ضدّنا في العالم العربي، لتفريقنا، والسيطرة علينا وقمعنا.

"هذا ممنوعٌ وهذا مسموحٌ وذاك مرغوب، هذا حرامٌ وهذا حلال". لكن في رصيف22، شعارنا الوحيد هو "لا للعيش وفق تفسيرات الآخرين". 

Website by WhiteBeard