في صيغة عجائبية، تشكلت سيرة النبي محمد، بدايةً من نبوءة ميلاده، ثم ظهور نجمه في السماء كعلامة على مولده، وأحجار مكة التي تستقبله بالتحية، ونزول جبريل عليه في الغار، ثم رحلة الإسراء إلى القدس راكباً دابةً خرافيةً تُسمّى البراق، في عام حزنه على رحيل عمه أبي طالب وزوجته خديجة، والتي أعقبها صعوده إلى السماء في رحلة المعراج، ثم مع شدّة إيذاء المكّيين له وهجرته إلى يثرب، حيث في الطريق حدثت له معجزات عدة منها تخييم العنكبوت وتعشيشه على باب غار اختبأ فيه، دلالةً على وحشية المكان، وفي مواجهته الحربية مع المكيين شاركته الملائكة في القتال، وصولاً إلى انتشار دعوته واستقرار المسلمين، وحجّه حجّته الأخيرة، قبل أن يرحل عام 11هـ.
قبل جمعها وتدوينها، ظلّت مرويات السيرة النبوية متداولةً شفهياً لعقود طويلة. كان الرواة والقصاصون الشعبيون يحكونها مغرمين بالعديد من الجوانب فيها، التي منها أن النبي نموذج للبطل الذي يتجاوز عالم البشر إلى عالم الجن والملائكة، والبطل المنتصر على أعدائه باقتدار، والقدوة الذي ينحاز إلى المبادئ والمثل العليا، أي أن سيرة النبي باتت منطقةً ثريةً للقصاصين والرواة، وجدوا فيها تعبيراً مناسباً عن حاجات نفسية واجتماعية وسياسية للإنسان العربي.
قبل دخولها في أحضان التاريخ الرسمي، يبدو أن تباعد زمن جمع مرويات السيرة مع راويها الأول محمد بن إسحاق (ت 151هـ تقريباً) في سيرته التي اعتمد عليها الراوي الأشهر عبد الملك بن هشام (ت 213هـ)، لوضع السيرة النبوية المعروفة بـ"سيرة ابن هشام"، جعلها تختمر شعبياً وتنضج وتصبح نموذجاً تتّبعه السيَرُ الشعبية العربية.
قبل جمعها وتدوينها، ظلّت مرويات السيرة النبوية متداولةً شفهياً لعقود طويلة. كان الرواة والقصاصون الشعبيون يحكونها مغرمين بالعديد من الجوانب فيها
وبحسب الناقد المغربي سعيد يقطين، في كتابه "قال الراوي: البنيات الحكائية في السيرة الشعبية"، فإن الراوي الشعبي لاحقاً استفاد من السيرة النبوية بوصفها نموذجاً له في صياغة عوالمه التخييلية "على كافة الأصعدة، وحاول تجليتها من خلال انتخاب شخصيات تاريخية، أو شبه تاريخية، ويبدو لنا هذا في كون هذه الشخصيات تكلؤها العناية الإلهية التي هي نظير الوحي بالنسبة للرسول".
النبي... البطل الشعبي
خلافاً للمؤرخ الذي يدقّق في مرويات السيرة على حدة بحثاً عن الوقائع الحقيقية، فإن دارس الأدب الشعبي يتعامل مع السيرة كوحدة كلية، وهو ما انتهجه المفكر المصري نصر حامد أبو زيد في دراسته التي عنونها بـ"السيرة النبوية سيرة شعبية"، وتعامل فيها مع السيرة "ليس بوصفها نصاً دينياً بل بوصفها سيرةً لأهم بطل في تراثنا الديني، البطل النبي، وذلك من خلال الجزء الأول من سيرة ابن هشام"، وفقاً لما ذكره جمال عمر، على لسان نصر، في كتاب "أنا نصر أبو زيد".
وبحسب فاروق خورشيد، في كتابه "أدب السيرة الشعبية"، فإن "البطل في الأدب الشعبي يحمل ملامح النبل، كما يمثل جميع الصفات الراقية التي يطمح الإنسان إلى أن تكون موجودةً فيه، وجوداً حيّاً درامياً متحركاً لأحلام الشعب في المثل العليا لبطله وإنسانه الأعلى"؛ وهذه نظرة أساسية للتعامل مع النبي، فهو الممثل الحي والدرامي للقيم الروحية التي طرحها الإسلام.
اخترق النبي عوالم الميتافيزيقا، وتجاوز عجز الإنسان ومحدوديته، وتحدث إلى الجن والملائكة وصعد إلى السماء، فـ"البطل هنا يمثّل لقاء الإنسان بعوالم الآلهة التي عبدها، وعوالم الملائكة والجن التي أدرك وجودها في عالمه"؛ وفقاً لكتاب فاروق خورشيد سابق الذكر.
ليست البطولة وحدها التي أشار إليها نصر أبو زيد، بوصفها سمةً مشتركةً بين السيرة النبوية والحكاية الشعبية، بل هناك "المزاوجة في القص بين الشعر والنثر"، و"ذِكر نسب كل شخصية بغضِّ النظر عن أهميتها في الأحداث"، و"لاحظت دور الحلم، الرؤيا، وتفسيره في السيرة"، كما التفت إلى دور ابن هشام في أنه "لخَّص وركَّز في الروايات التي أخذها عن الراوي الأصلي ابن إسحاق"، بحسب ما ذكره لجمال عمر في كتاب "أنا نصر أبو زيد".
الراوي... جامع القصص المتداولة
جامعاً للروايات الشفهية، وضع ابن إسحاق حداً للتنامي التلقائي للسيرة النبوية بجمع مرويات الذاكرة الشعبية وتثبيت شكلها في كتابته للسيرة.
هذه الذاكرة لجأ إليها المؤرخون والمفسرون أيضاً لاستكمال القصص الناقصة، وذكر فاروق خورشيد في كتابه المشار إليه أن المفسرين كانوا "في حيرة أمام الكثير من الحقائق الواردة في القرآن الكريم، إذ لم تسعفهم جهود المؤرخين بما يمكن لهم أن يوثقوا هذه الحقائق توثيقاً علمياً معترفاً به، فكان لا بد من اللجوء إلى الذاكرة الشعبية الحافظة لما تبقّى في أذهان الرواة والحفظة ليسهل تفسير الكثير من هذه الحقائق للخروج بمغزاها القرآني ومعناها عند الحكمة الإلهية".
سيرة النبي باتت منطقةً ثريةً للقصاصين والرواة، وجدوا فيها تعبيراً مناسباً عن حاجات نفسية واجتماعية وسياسية للإنسان العربي.
عدَّد خورشيد ملاحظات حول راوي السيرة النبوية، منها أنه لجأ إلى الذاكرة الشعبية لجمع سيرة النبي، وأنه أسهم في انتقال المرويات إلى مرحلة الصناعة في الصياغة والأداء، أي مرحلة الشكل الفني، وفرّق خورشيد بين ابن إسحاق الذي توسع في جمع قصص النبي وبين ابن هشام الذي تدخل فيها بالحذف والإضافة.
ذكر خورشيد أن السيرة عُرفت باسم سيرة ابن هشام، "لاقتناع العلماء بأن جهد ابن هشام هو الذي خلّصها من الكثير مما يتعارض مع الرؤية الإسلامية والفكر الإسلامي"؛ في إشارة إلى الانتقاء الذي مارسه ابن هشام على سيرة ابن إسحاق، مصدره الأساسي، وإلى أن هذه الانتقائية كان هدفها التخلص من زيادات القصاصين الشعبيين.
هذه العملية التي مارسها ابن هشام يبدو أنها كانت ملازمةً له، فهو الذي قدّم سيرة ابن إسحاق "كما قدّم لنا ابن هشام تأليفه لكتب عديدة من كتب عصر التجميع منها ‘أخبار ملوك اليمن’ لعبيد بن شريه، و’التيجان’ لوهب بن منبه". واعتبر فاروق خورشيد أن ابن هشام هو رائد مرحلة التأليف التي اعتمدت على مرحلة سبقته وهي التجميع من القصاصين الشعبيين.
استثمار "على هامش السيرة"
"على هامش السيرة"، كتاب للدكتور طه حسين، يُعدّ أبرز مثال على أن القصص الشعبي تسرب إلى المصادر التاريخية العربية الأولى، وفيه فضَّل عميد الأدب العودة إلى ثلاثة مصادر، هي "سيرة ابن هشام"، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (ت 230هـ)، و"تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري (ت 310هـ)، لاستخلاص قصص عدة كانت متداولةً زمن البعثة وما بعده، واستثمارها أدبياً.
مخالفاً لبقية كتب السيرة، اتجه طه حسين إلى القصّ المتداول بوصفه أدباً قديماً ممتعاً، وبهدف مخاطبة الوجدان، وبحسب مقدمته شرح عميد الأدب العربي أن "أحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تُكتب مرةً واحدةً، ولم تُحفظ في صورة بعينها، وإنما قصّها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف، وقُلْ مثل ذلك في السيرة نفسها، فقد ألهمت الكتاب والشعراء في أكثر العصور الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية أيضاً، فصوّروها صوراً مختلفةً تتفاوت حظوظها من القوة والضعف، والجمال الفني". بما يعني أنه أدرك تدخّل الرواة في تصوير السيرة النبوية، وأحب أن يتعامل مع هذه الروايات بمنطق الأدب الذي يغني الوجدان والإلهام، وليس بمنطق العقل والحقيقة.
مُدركاً أسباب تدخّل الرواة، أوضح طه حسين أن السيرة تجاوزت الشعراء والكتاب إلى "جماعة من القصاص الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس في صور مختلفة، وأشكال متباينة، بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، وبما أصاب آباءهم من محن مظلمة، وفتن مدلهمة، عرفوا كيف يثبتون لها، ويصبرون عليها، ويخرجون منها كراماً ظافرين"، وفي هذا إشارة إلى الحاجة النفسية والاجتماعية والسياسية التي انتبه إليها الرواة الشعبيون عند جمهورهم آنذاك، فوجدوا في رواية هذه القصص من سيرة العرب وسيرة النبي إجابات مغنيةً عما يشغلهم في وقت المحن والفتن من أسئلة.
التقرير والسرد... صياغة السيرة النبوية
الرسم البياني الممثل لجوهر بناء الحكايات الشعبية بحسب كتاب سعيد يقطين "قال الراوي"، يتمثل في: دعوى مركزية، أوان، قرار، نفاذ. وهذا المخطط ينطبق على السيرة النبوية تماماً هكذا؛ دعوى مركزية: نبوءة ظهور نبي آخر الزمان. أوان: ميلاده وتسميته وتربيته. قرار: الجهر بالدعوة والهجرة. نفاذ: سيادة الإسلام ووفاة النبي.
رأى يقطين أن سيرة النبي تشبه الحكاية الشعبية في البناء، بل عدّها نموذجاً للسير الشعبية بعدها، وبالرغم من رأيه هذا فإنه أصرّ على أنها ليست سيرةً شعبيةً معتمداً على شكل صياغتها، فالحكاية الشعبية يقدّمها الراوي وتتحدد من خلال السرد والخيال، أما الجانب التقريري فيكون نادراً ويأتي لتأكيد السرد، خلافاً لذلك، تتّحد السيرة النبوية من خلال التقرير، بينما السرد يكون قليلاً.
الفروقات الجوهرية التي حددها يقطين مرتبطة بالشكل والصياغة، فمقدّم الحكاية الشعبية هو الراوي، أما صاحب السيرة النبوية فهو المصنف (المؤلف) وبدوره يقدّم "أخباراً يستقلّ بعضها عن بعضها، وما يجمعها هو الموضوع"، وأيضاً هو "المتكلف بالخطاب يوجهه ويفسره ويعلق عليه أو يقارن بين الروايات، بينما الراوي يأتي في المرتبة الثانية عكس ما نجد في السيرة الشعبية"، أي أن الراوي هو صاحب المرتبة الأولى في الحكاية الشعبية.
تنفرد السيرة بالسند أي مجموعة الرواة المعروفين، ويمكن التأكد من مرجعيات العديد من الأقوال والأخبار، أما الحكاية الشعبية فالرواة مجهولون أو وهميون، والبعد الخيالي هو الأساس.
بعيداً عن الشكل، يضيف يقطين سبباً خارجياً متعلقاً بالرواة، وهو أن النبي "شخصية مقدسة لا يمكن التزيد أو الكذب عليها، وهذه الصورة لا يمكن للراوي الشعبي أن يغفل عنها أو يتناساها".
تشكلت سيرة النبي محمد، بدايةً من نبوءة ميلاده، ثم ظهور نجمه في السماء كعلامة على مولده، وأحجار مكة التي تستقبله بالتحية، ونزول جبريل عليه في الغار، ثم رحلة الإسراء إلى القدس
الفروق الشكلية منعت يقطين من الإقرار بأن السيرة حكاية شعبية في ذاتها، لذا كانت إشارة نصر حامد أبو زيد إلى أن التعامل مع سيرة النبي بوصفها سيرةً شعبيةً "يحتاج إلى مهارات، بألا نُجزِّئ النص ولا نستبعد منه شيئاً، فنتعامل معه في كليته بخلاف تَعامُل المؤرخ أو عالم الدين"؛ كما يذكر جمال عمر في كتابه "أنا نصر أبو زيد".
أما ملاحظته حول امتناع الرواة عن الزيادة والإضافات لمكانة النبي، فهي ملاحظة عجيبة، ولا يمكن الأخذ بها، إذ إن كتب السيرة والمصادر التاريخية الأولى تحفل بالروايات المكذوبة، وفي أشد العصور قرباً إلى النبي، إلا إذا كان يقطين يقصد الرواة الشعبيين المتأخرين لزمن قريب من زمننا الآن.
الخرافة والعقل
متخوفاً من سيادة الخرافة على العقل، تجاهل المفكر المصري سيد القمني، الجانب الشعبي الكامن في السيرة أو المرويات الدينية عموماً، مركّزاً على أثر معالجة الدين بأنه سلسلة من المعجزات والخوارق، واعتمادها حقيقةً جرى ترويجها وتثبيتها، فينتج عنه "انتظار راكد بليد وسقيم لخلاص سماوي، وإعجاز علوي يتدخل مباشرةً؛ ليحلّ لنا أزمتنا ويعيدنا إلى عصر الفتوحات؛ فنحمل السيوف، تتقدمنا جيوش الملائكة، فقط على الجميع أن يلتزم الفروض والسنن بكافة دقائقها من الصلاة حتى المسواك، وبدءاً بطاعة الله وانتهاءً بطاعة أولي الأمر منّا"، وفقاً لما أورده في كتابه "الأسطورة والتراث".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...