جون فيلبي، الجاسوس الذي صار شيخاً "عشان عيون" الملك عبد العزيز آل سعود

لعب المستعرب جون فيلبي، دوراً محورياً في إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وساهم هذا الجاسوس الذي صنع الملوك، في اكتشاف البترول السعودي. اعترف لزوجته فحسب، بسرّ اعتناقه الدين الإسلامي، حتى أنه أصبح شيخاً وخطب في الحرم المكي. لكن لماذا يُعدّ الحديث عنه أمراً يثير حساسيةً شديدةً في المملكة؟ وهل يُعدّ فيلبي، الوجه الحقيقي لحركة الاستشراق البريطانية؟ وما هي الأسباب الخفية وراء إرسال رجال من خلفيات عسكرية واستخباراتية إلى المنطقة العربية والشرق الأوسط لتنفيذ رحلات الاستشراق؟

هل عبد الله فيلبي رمز للاستشراق؟

يقول اللواء تامر الشهاوي، وكان في هيئة الاستخبارات العسكرية المصرية سابقاً، إن المستشرقين جاؤوا كمقدمات للجيوش، وكانوا بمثابة عناصر استطلاع متقدمة لجيوش الإمبراطوريات الكبيرة آنذاك، مشيراً إلى تحرك الجيوش الاستعمارية باتجاه الشرق بناءً على دراسات المستشرقين هؤلاء حول هذه البلاد من حيث نقاط قوتها وضعفها وأشكال السيطرة عليها.

جون فيلبي

ويضيف الشهاوي، خلال حديثه إلى رصيف22: "بريطانيا كانت في ذلك الوقت هي القوة العظمى التي فرضت سيطرتها دولياً وتغلغلت داخل شبه الجزيرة العربية، حتى أننا نقول إن البريطانيين هم الذين أوجدوا الحكومات العربية والأسر التي تحكم شبه الجزيرة العربية".

 هل يُعدّ فيلبي، الوجه الحقيقي لحركة الاستشراق البريطانية؟ وما هي الأسباب الخفية وراء إرسال رجال من خلفيات عسكرية واستخباراتية إلى المنطقة العربية والشرق الأوسط لتنفيذ رحلات الاستشراق؟

وبالعودة إلى كتاب "قالوا التاريخ مجرد قيل وقال"، لعبد الله أبو علم، الصادر عام 2014، فإن وجود فيلبي، في منطقة شبه الجزيرة العربية لم يكن عشوائياً، وإنما كان هدفه شرذمة المنطقة إلى ممالك وإمارات، موثّقاً ذلك بعبارة الشيخ فيلبي نفسه: "لقد كنّا قادرين على إنشاء 100 دولة في الجزيرة العربية".

هدف حركة الاستشراق في شبه الجزيرة العربية

وتعلّق الدكتورة هبة البشبيشي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة، على الموضوع بأن الدول الاستعمارية كانت ترسل رجال الاستخبارات إلى الزعماء العرب ورؤساء القبائل وتزعم بأنهم أكاديميون أو رحالة أو باحثون يعتنقون الإسلام ويتشبهون بالعرب، ومن ثم تستخدمهم في الدفع بشيوخ القبائل العربية إلى الاستقلال وتأسيس ممالك مستقلة كتأسيس آل سعود للمملكة السعودية، وتأسيس الهاشميين للمملكة الهاشمية في الأردن، ومن ثم ظهور دولتي قطر والإمارات.

جون فيلبي

كما تلفت البشبيشي، إلى المعسكر الاستعماري القديم "بريطانيا وفرنسا"، ودوره في تأسيس الحركة الاستشراقية، بهدف دراسة الدول التي يرغب في استعمارها من حيث الثقافة والعادات والتقاليد، والتأكد من وجود مواجهة عسكرية بين هذه الشعوب وبين قوى المستعمر أو عدمها، وتضيف خلال حديثها إلى رصيف22: "المستشرقون زرعوا الاستيطان تمهيداً لتأسيس دولة إسرائيل، بدليل أن فلسطين نفسها انقسمت إلى غزّة تحت حكم حماس والضفة الغربية تحت حكم محمود عباس، حتى أن قطاع غزّة نفسه قابل للتقسيم إلى أربع دول".

جون فيلبي في الدراسات البحثية السعودية

نشرت کلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية في جامعة القصيم في المملکة العربية السعودية، دراسةً بحثيةً حول ضابط الاستخبارات البريطانية عبد الله فيلبي، وصفته بأنه أحد أشهر الرحالة والمؤرخين الذين اجتازوا منطقة الشرق الأوسط في القرن العشرين. وقدّمته الدراسة في صورته الحقيقية التي عرفته بها المملكة كمستشار للملك عبد العزيز آل سعود، وبين علاقة التقابل التي شكلت من جون فليبي، مستكشفاً صحراء الربع الخالي وصديقاً مقرّباً للملك إلى جاسوس مغضوب عليه ومطرود من السعودية.

بدأت مهمة عبدالله فيلبي، في السعودية، بجولة من الرياض إلى جدّة، رافق فيها الملك عبد العزيز، ونُشرت هذه الرحلة في المطبوعات الأدبية الغربية كحدث فريد من نوعه. وبفضل مهاراته العقلية، استطاع فيلبي أن يحصل على ثقة الملك، بالرغم من كونه الضابط الرابع الذي أرسلته بريطانيا إلى الجزيرة العربية.

أُرسل فيلبي خصيصاً حتى يقنع الملك عبد العزيز، بشنّ الحرب على ابن رشيد، وكانت المملكة مؤهلةً لذلك بسبب اعتمادها على المساعدات المالية البريطانية، ثم عمل في التجارة، وساهم في جعل التنقيب عن النفط في منطقة الجزيرة من نصيب الأمريكيين، حتى أنه أصبح مستشاراً للملك في مفاوضات النفط، ثم مستشاراً له للشؤون الخارجية، بعد أن أعلن تبنّيه محاربة الإمبريالية البريطانية، وهذا الإعلان في مضمونه الظاهري لا يختلف عن سبب إعلانه رغبته في اعتناق الإسلام.

وثائق من أرشيف المخابرات البريطانية

وبحسب وثائق المخابرات البريطانية المذكورة في كتاب "قصة عبد الله فيلبي"، والتي عرضها المترجم حسن ساتي، فإن فيلبي، كان يؤمن بضرورة قيام سلطة واحدة من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، وبالفعل قدّم مشورةً سياسية للملك عبد العزيز حول كيفية مواصلة تحقيق حلم توحيد مملكته من دون إثارة حفيظة بريطانيا، التي كانت في تلك الفترة القوة المهيمنة على مقدرات الشرق الأوسط.

غلاف كتاب لجون فيلبي وصور منه

عاش الحاج فيلبي، المولود في سيريلانكا سنة 1883، في السعودية ينقّب عن البترول والآثار، واكتشف آثار عُبر "وبار" البركانية، في الربع الخالي، وسجل اكتشافاته ودراساته حول مجتمعات الجزيرة العربية وما حولها طوال أربعة عقود، في 16 كتاباً، وحينما انتدبته بريطانيا ليكون مستشاراً للملك عبد العزيز، انتدبت أيضاً لورانس العرب، ليكون بجانب الشريف حسين، شريف مكة الهاشمي، ليشعل فتيل الثورة العربية ضد العثمانيين، وكان السبب وراء خلع الأتراك من منطقة الشرق الأوسط.

أزاح جون فيلبي، لورانس العرب، الذي كانت مهمته بالتحديد هي مساعدة قوات الشريف حسين في الوصول إلى دمشق، إذ كانت بريطانيا تريد أن تنصّبه ملكاً على العرب، وأسقطه من فوق خشبة مسرح المنافسة، لقربه الشديد من صنّاع القرار خاصةً بعدما تمكّن من إقناع الحكومة البريطانية بأن آل سعود قادرون على فرض نفوذهم وسيطرتهم على منطقة الجزيرة العربية مقارنةً بالعائلة الهاشمية.

التنافس بين لورانس العرب وجون فيلبي

ويؤكد الباحث السياسي أحمد سلطان، أن الشيخ عبد الله فيلبي، كانت له نظرة مختلفة عن لورانس العرب، في إدارة الممالك التي تشكلت بعد الثورة العربية ضد الدولة العثمانية، خاصةً بعد حالة الاضطراب التي عاشتها الجزيرة العربية والتي نتج عنها تشكيل الدول الخليجية بشكلها الحالي.

ويضيف خلال حديثه إلى رصيف22: "عبد الله فيلبي شخصية مثيرة للجدل سواء في بلده الأصلي بريطانيا أو حتى في بلاد المشرق العربي خاصةً السعودية، نسبةً إلى علاقته الوطيدة بالملك المؤسس للسعودية".

غلاف لكتاب جون فيلبي وصور منه

دخل جون فيلبي، السعودية سنة 1917، وبحلول عام 1928، رغب في عبور صحراء الربع الخالي، لكنه كان بحاجة إلى الإمدادات والمساعدات المالية، فكتب لزوجته رسالةً سرّيةً، أخبرها فيها عن نيته اعتناق الإسلام حتى يحقق مبتغاه دون حواجز ويكسب ثقة أكبر عدد من قبائل العرب المسلمين، ومن جهة أخرى أرسل خطاباً إلى الملك عبد العزيز آل سعود، يطلب فيه اعتناق الإسلام، حسب ما يشير كتاب "المستكشف هاري سانت جون فيلبي ورحلته إلى حضرموت"، للدكتور مسعود عمشوش.

عندما تحوّل جون فيلبي إلى الحاج عبد الله فيلبي

أعلن الملك اعتناق جون فيلبي الدين الإسلامي وسط مجلس كبير من الحاضرين، وأطلق على نفسه اسم عبد الله، وأدى مناسك الحج من دون أن تسبقها تأدية الصلاة، وخطب في الحاضرين عن دوافع اعتناقه الإسلام، لكن هذا الخبر آثار ضده النقد اللاذع خاصةً من قبل زميليه بيرسي كوكس، وجيرتورد، اللذين اتهماه بالتخلي عن ديانته الأصلية لتحقيق دوافع شخصية.

أزاح جون فيلبي، لورانس العرب، الذي كانت مهمته بالتحديد هي مساعدة قوات الشريف حسين في الوصول إلى دمشق، إذ كانت بريطانيا تريد أن تنصّبه ملكاً على العرب، وأسقطه من فوق خشبة مسرح المنافسة

من جانبه، يشير فؤاد زكريا، في كتابه "نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة"، إلى جون فيلبي، باعتباره أحد أعمدة الاستعمار البريطاني، لافتاً إلى اعتناقه الإسلام، الذي عدّه أسلوباً للحصول على قبول أفضل لدى المسلمين، حتى يتمكن من أداء مهمته الأصلية بمزيد من الفعالية. حسب تعبيره، فإنه يرى أن الدفاع عن الإسلام واعتناقه بالنسبة للاستعمار في بعض الأحيان، أفضل من مهاجمته، ودلّل بمثال على ذلك اعتناق نابليون، الإسلام، ويرى في ذلك طريقةً لكشف السذاجة الفكرية لمن يقيسون عمل المستشرقين بمدى دفاعهم عن الإسلام.

علاقة طردية بين الاستشراق والإسلام

في السياق نفسه، يلفت الدكتور محمد صبرى الدالي، رئيس قسم التاريخ في معهد البحوث والدراسات العربية، وأستاذ التاريخ المعاصر في جامعة حلوان، إلى تحوّل حركة الاستشراق وتوجهها ضد العالم الإسلامي، خاصةً بعد ضعف الدولة المملوكية، والنجاحات التي حققتها الدولة العثمانية، ووفق رأيه فإن برنامج الاستشراق تطور وأصبح موجوداً في دول أوروبية كثيرة، وتنوعت أدواته، لا سيما في ظل قوة بعض الجامعات الأوروبية (مثل كمبريدج وأكسفورد وغيرهما)، وهو ما نتجت عنه زيادة أهمية الاستشراق وقوته مع ضعف الدول الإسلامية (خاصةً الكبرى منها، مثل الدولة العثمانية والدولة المغولية في الهند)، وأصبح الاستشراق يخدم الاستعمار الحديث. ويضيف خلال حديثه إلى رصيف22: "هذا الأمر يتضح في احتلال الفرنسيين لمصر والجزائر، وفي احتلال الإنكليز للهند".

اكتشاف النفط السعودي

كانت مؤلفات جون فيلبي، مرجعاً للمنقّبين عن النفط السعودي، منذ عام 1931، وساهم بنصيب كبير في إفساح الطريق أمام الشركات الأمريكية مثل "ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا"، وكان يعمل كوسيط بين شركات النفط والملك. تمرّد فيلبي، على حكومة بلاده وخالف بأفعاله مصالحها في الجزيرة العربية، ما دفع جهاز الاستخبارات البريطاني إلى تكليف ابنه كيم فيلبي، وهو ابنه الوحيد من زوجته البريطانية بجانب ثلاث فتيات من زوجته السعودية، وكان يعمل في المخابرات البريطانية، بالتجسس على أبيه، وكان الأخير قد أحدث مهزلةً في تاريخ الجاسوسية، إذ كان يعمل جاسوساً لصالح المعسكر السوفياتي بقيادة روسيا، في الوقت الذي كان يؤدي فيه مهام رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية.

جون فيلبي

أتقن فيليبي، اللهجات المحلية في شبه الجزيرة، وكان ذراع الملك اليمنى. عرف السعودية واكتشفها أكثر ممن وُلدوا فيها، وهو الرجل الإنكليزي صاحب العيون الزرقاء الحديدية، الذي تنكر في شخصية شحاذ عربي، ليتمكن من شرذمة عصابة "واسماس"، التي تخصصت في الانقضاض على حقول النفط في بلاد فارس، وابن تاجر الشاي الثري الذي قدّم استقالته من ترقياته ومكاتبه ومنصبه شديد الحساسية من أجل عيون الملك عبد العزيز آل سعود، ليتحول بعدها إلى تاجر عادي يبيع البضائع، ثم يختفي في صحراء الربع الخالي التي كانت ملاذاً روحياً لصانع الدولة السعودية الثالثة. الحديث عن عبد الله فيلبي، كالحديث عن صانع أفلام سينمائية بدرجة تفوق تقلبات خيال الدراما، فهو يتحول من عسكرى إلى دبلوماسي وتاجر وجغرافي في غمضة عين، لكنه اسم بالكاد يثير الحساسية إن تم ذكره على موائد الأحاديث السعودية.

توفي الملك عبد العزيز آل سعود، عام 1953، وسقطت الشجرة التي كان يستظلها فيلبي، وفي إحدى محاضراته العلمية، قام بتوبيخ ولي العهد الجديد الملك سعود، الذي قرر طرده من السعودية، فغادرها إلى بيروت، لزيارة ابنه، وتوفي في منزله فيها ودُفن في لبنان عام 1960.