من يغوص في تاريخ الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي، في النصف الأول من القرن المنصرم، يجد أنها تنوس بحدة بين راديكالية متطرفة ترفع شعار "طبقة ضد طبقة"، ولا تجد غضاضةً في تخوين حتى الرفاق في الخندق نفسه بتهم محاباة القومية والبرجوازية، وبين براغماتية مفرطة تسيل معها حتى أقدس المبادئ.
تعود أسباب هذا الركام من التنافر وعدم الاتّساق، إلى أسباب عدة أولها طبيعة المجتمع العربي في بدايات القرن العشرين، الذي كان يخلو من أي تقاليد نقابية عمالية فعالة، وهو ريفي في أغلبه، مع ورش صغيرة ومتوسطة متناثرة حول المدن، فلم تنشأ تلك الأحزاب تالياً من تطور ذاتي وشعور بالحاجة إلى تلك الأفكار، إلى درجة بدت فيها الأفكار الشيوعية واليسارية عموماً دخيلةً، خاصةً أن الشيوعيين الأوائل كانوا في الغالب من الأقليات أو من العناصر المهاجرة إلى الشرق. وهؤلاء المثقفون غالباً ما كانوا يقفزون فوق الحقائق الحسية للجماهير نحو تجريد ذاتي لا يخلو من طوباوية فاقعة، غالباً ما كانت تستسهل الوصول إلى نتائج محببة، مستخدمين عبارات قطعيةً مثل "الحتميات التاريخية".
يضاف إلى ذلك أن روافد الشيوعية الأولى في فترة ما بين الحربين، لم تكن فقط في قلعة الشيوعية في موسكو، وإن كانت الأقوى، بل شاركتها الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية القوية والمؤثرة حينها في صياغاتها وانتشارها، وبقي هناك نقاش حقيقي ومعارك فكرية وأيديولوجية، برغم أنّ الأحزاب الشيوعية العربية كانت تتبع للأممية الشيوعية في موسكو "الكومنترون"، منذ العام 1919 تاريخ تأسيسها وحتى تاريخ حلّها سنة 1943، وتتبع أوامرها بنوع كبير من العمى.
الواقع يقول إن الحركات الشيوعية في أوروبا الغربية كانت قويةً وراسخةً إلى درجة أن شيوعيين سوريين منّوا أنفسهم بأن تصل إلى الحكم كما في روسيا البلشفية، وهذا ما سيفسر الموقف المحيّر لهؤلاء الشيوعيين من سلخ لواء الإسكندرون السوري، والرخاوة غير المبررة مع الانتداب الفرنسي بدءاً من عام 1936.
الحركات الشيوعية في أوروبا الغربية كانت قويةً وراسخةً إلى درجة أن شيوعيين سوريين منّوا أنفسهم بأن تصل إلى الحكم كما في روسيا البلشفية، وهذا ما سيفسر الموقف المحيّر لهؤلاء الشيوعيين من سلخ لواء الإسكندرون السوري، والرخاوة غير المبررة مع الانتداب الفرنسي بدءاً من عام 1936
يضاف إلى ذلك أن أسماء لامعةً تلقّت جرعات اليسار وهي تدرس في باريس وبرلين وروما وغيرها من جامعات الغرب، بعيداً عن الكتلة الشرقية الشيوعية التي ظهرت ليس لإيمان سكان شرق أوروبا بالشيوعية وكفر سكان غرب أوروبا بها، بل كنتيجة تقاسم نفوذ فجة بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
مشاهدات مفاجئة
أولى تلك المشاهدات أن أوّل أمين عام لحزب شيوعي في بيروت العام 1925، كان يهودياً روسياً مهاجراً إلى فلسطين يُدعى "ياكوب تيبر"، ومنها انتقل إلى بيروت، حيث لُقّب بـ"الرفيق شامي"، وللأمانة التاريخية ربما يكون "تيبر" القيادي الشيوعي اليهودي الوحيد من ذلك الجيل غير الصهيوني، ولطالما نادى بضرورة الأخوّة اليهودية العربية. هذا الحزب دعم الثورة السورية الكبرى عام 1925، حتى تم حلّه وملاحقة أعضائه، حيث فرّ "تيبر" إلى فلسطين ومنها عاد إلى روسيا، حيث اعتُقل ورُحّل إلى سيبيريا، ولم أجد معلومات عن مصيره: هل مات خلال الاعتقال الطويل، أو خرج وكُرّم بعيد وفاة ستالين؟
شيوعي لكن فرنسي الهوى
ثاني المفارقات الصادمة، دعم الشيوعيين في سوريا قرار فرنسا سلخ اللواء السوري، وقد كان السبب المباشر لهذا الدعم هو تشكل الجبهة الشعبية الفرنسية، من الشيوعيين والاشتراكيين والراديكاليين ضد اليمينيين والفاشيست، حيث حققت الجبهة نصراً عظيماً في انتخابات أيار/ مايو 1936، وشكلت حكومةً بقيادة الاشتراكي "ليون بلوم".
في النتيجة، أضحت باريس الأم الثانية لشيوعيي شرق المتوسط، وأحياناً نافست موسكو، وهو ما بدا جلياً بعد معاهدة عدم الاعتداء بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي في 23 آب/ أغسطس 1939، التي بقيت سارية المفعول حتى 22 حزيران/ يونيو 1941. تلك المعاهدة لم تخفف عداء الشيوعيين في سوريا والمشرق عموماً للفاشيست والنازية، مما يشير إلى قوة تأثير السلطات في باريس حينها.
ما ميّز تلك الفترة (أواسط ثلاثينيات القرن الماضي)، اختفاء الجيل الأول من الشيوعيين السوريين الأوائل، خاصةً المهاجرين الذين حملوا وزر الأخطاء السابقة والسياسة الراديكالية ودعوا بـ"العناصر المنحرفة"، فالحزب خرج للعلن بفضل قوة العلاقة مع الأخ الأكبر الشيوعي الفرنسي، وأصدر جريدة صوت الشعب، ثم تمت الاستعانة بجيل جديد شاب من أبناء البلد، وأكثر من برز خالد بكداش وفرج الله الحلو ونقولا شاوي ورفيق رضا، وقد كان خالد بكداش براغماتياً إلى درجة المزايدة على "البرجوازية الوطنية" ممثلةً في حزب الكتلة الوطنية، بالتطنيب المستمر للمعاهدة السورية الفرنسية (معاهدة الاستقلال)، والتأكيد الدائم على أن فرنسا الاشتراكية ستنفّذها: "إن المعاهدة ستصدَّق رغم أنف الفاشيست وطغاة المال الفرنسيين، لأن الجبهة الشعبية هي فرنسا"، جريدة صوت الشعب.
فقد وصل حرص الشيوعيين في سوريا على معاهدة الاستقلال، إلى أن طلب بكداش في مقالَين، وعلى مدى عامي 1937 و1938، الانضمام إلى الكتلة الوطنية كي يتحقق "اتحاد الأمة السورية"! والغريب هنا أمران؛ الأول أن المعاهدة لم تصدَّق أبداً، والثاني الإصرار على التأكيدات نفسها برغم تغيّر الحكومة إلى حكومة دالادييه اليمينية وغير الصدامية مع هتلر.
كل ما سبق يمكن تبريره كنوع من الحذلقة السياسية، لشباب يريد أن يثبت حنكةً سياسيةً. لكن الموقف من اللواء، وهنا لا بد من سرد كل الروايات المهمة بالأسماء والتواريخ والمقاطعة بينها، تشير إلى سلسلة تنازلات غريبة وارتهان للخارج.
قصة اللواء
تبدأ القصة عندما أقام الحزب الشيوعي السوري مهرجاناً ضخماً في مدينة اسكندرونة رفضاً لسلخ اللواء العام 1937، فقد حضر الحفل بكداش شخصياً، وقد نشر بكداش مقالة مطولة في جريدة الإنشاء 1 حزيران/ يونيو 1937 أعيد نشرها في صوت الشعب بعد أربع أيام يتذكر تلك الزيارة، ويؤكد على عروبة اللواء ورفض تتريكه ويحذر من الجيوش التركية الضخمة التي تهدد أهل اللواء مطالباً فرنسا المنتدبة بالدفاع، وفق "موقع الحزب الشيوعي السوري". وقد حضر المهرجان الروائي حنا مينه يافعاً حيث تم توزيع منشورات للحزب دعماً لسورية اللواء، وأشار لكاريزمة بكداش الخطابية، بحسب الصحافي والقاص محمود وهب.
أوّل أمين عام لحزب شيوعي في بيروت العام 1925، كان يهودياً روسياً مهاجراً إلى فلسطين يُدعى "ياكوب تيبر"، ومنها انتقل إلى بيروت، حيث لُقّب بـ"الرفيق شامي"، وللأمانة التاريخية ربما يكون "تيبر" القيادي الشيوعي اليهودي الوحيد من ذلك الجيل غير الصهيوني، ولطالما نادى بضرورة الأخوّة اليهودية العربية
ليعود الحزب ويتراجع في أيلول/ سبتمبر 1937 ويوافق على تعديل المعاهدة السورية ـ الفرنسية بما يتفق مع" حلول اسكندورنة بعد أن صدقتها عصبة الأمم" (صوت الشعب 17 أيلول/ سبتمبر 1937)، وهي اتفاقية نقلت السلطة في اللواء كاملة إلى مندوب فرنسا، ومهدت لاستيلاء تركيا بعدئذ على اللواء، حيث أشادت صوت الشعب بالأواصر الوثيقة بين فرنسا وتركيا وباتفاقية لواء الاسكندرون "القاضية بالدفاع عن سورية وفق معاهدة ثلاثية تعقد بين الدول الثلاث" كما ورد في كتاب "تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية للكاتب الياس مرقص، الطبعة الأولى، دار الطليعة بيروت 1964، ص39".
شرح القيادي "رفيق رضا" في مؤتمر صحافي وكان في فرنسا وقتها "اتصلت بي قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي وبسّطت لي الموقف وذكرت أن فرنسا غير مستعدة لإغضاب تركيا..." والشهادة كاملة موجودة في" كتاب تاريخ الحزب الشيوعي في سورية ولبنان (1922_1958)، للكاتب س أيوب، دار الحرية للطباعة والنشر بيروت، ص 83".
ثم يعود بكداش في7 حزيران/ يونيو 1938 ليقول في صحيفة صوت الشعب: "إن فرنسا لم تفعل ذلك بل الذي فعل ذلك هو بعض الدبلوماسيين في وزارة الخارجية الفرنسية"، نقلاً عن الصحافي يعقوب قريو، مبرئاً فرنسا الدولة، ومتهماً عناصر اليمين الفرنسي بالغدر. وكأن الضجيج الأيديولوجي لعدو مفترض يقبع في برلين النازية، سيغطي جريمة شعب سينزع من أرضه.
حتى وصلت المزايدة مبلغ دعوة السوريين واللبنانيين للاحتياط في جيش فرنسا لحرب ألمانيا (صوت الشعب 11 أيلول/ سبتمبر 1939)؛ وهذا أمر نأى عنه حتى الحزب الشيوعي الفرنسي، في وقت كان الاتحاد السوفيتي قد نأى بنفسه عن الحرب أيضاً، وكانت وقتها فرنسا محكومة من اليمين.
وما يثير الحنق هنا أن تركيا نفسها حتى بدايات 1937 لم تكن تنوي أو على الأقل تعلن أن اللواء أرض تركية يجب ضمه لتركيا، بل طالما طالبت أن يكون منطقة مستقلة ذات حكم ذاتي، يحصل فيه المواطنون الأتراك على كامل حقوقهم السياسية والثقافية. لكن عشية الحرب العالمية الثانية شعرت بحاجة فرنسا الماسة للتحالف معها، وهنا لابد من جائزة كبرى ثمن هذا التحالف، وكانت فعلاً فرنسا كريمة بإعطائها ما لا تملك.
عصر ذهبي ضائع
عاشت الأحزاب الشيوعية العربية عموماً بعيد نصر الحلفاء وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتي فترة ذهبية، مستفيدة أولاً من زخم انتصارات العملاق الشيوعي، الذي أكد أنه كيان صلب هزم أعتى قوة في العالم، ومن أجواء الديمقراطية والانفتاح السائدة، معطوفة على جو عام كاره لبقايا المستعمر القديم، غالباً الإنجليزي، الذي كان التحرر منه أهم شعارات شيوعيي تلك اللحظة مسنودة بدعم من الجبار الروسي.
إلى أن أتت لحظة تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947 التي مثلت ضربة قاسية للعمل الشيوعي في المنطقة، وأسباب هذا الموقف تعود إلى أيديولوجيا حالمة أن اليهود المهجرين من أوربا بفعل القمع النازي سيقفون مع الدولة التي تحملت العبء الأكبر في القضاء عليه، وسيشكلون دولة اشتراكية، خاصة أن حزب "ماباي" اليساري ذو النزعة الصهيونية الاشتراكية كان هو المتصدر، كذلك الأحزاب الشيوعية الأوربية كانت متعاطفة جداً مع اليهود في فلسطين، إضافة لعدم فهم موقف الشعوب العربية وربما قلة اهتمام من هذه الأحزاب، وهنا قد تفوح رائحة عنصرية.
تقسيم فلسطين والانهيار
بالنتيجة أكمل الاتحاد السوفيتي طريقه وبتاريخ 15 أيار/ مايو 1948 أعلن اعترافه التام والفوري بدولة إسرائيل، أما الأحزاب الشيوعية العربية فقد دخلت جميعاً في حيص بيص، فبعد أن أنهت حملاتها الطويلة على التقسيم وإنشاء كيان صهيوني، عادت إلى أسلوب الضجيج الأيديولوجي، وهنا لابد من استعمال (قنابل) دخانية عملاقة لتمييع الموقف حيث استبق الشيوعي السوري اللبناني موافقة روسيا على التقسيم "أن قضية فلسطين قضية استقلال وجلاء" ثم كال الاتهامات للاستعمار والصهيونية والرجعية العربية كنوع من ذر الرماد في العيون.
لا يجوز أبداً اتهام كامل حزبيي ذاك الجيل بالخيانة، فرغم دعم قيادات الشيوعي الجلي للتقسيم، تطوع شباب شيوعي لحرب 48، بل وسقط ضحايا هم شهداء يفخر بهم شيوعيو اليوم والأمس وغداً، مثل صلاح أمجوق وعبد المجيد طش، بحسب "جريدة قاسيون". بالنتيجة تم حظر الشيوعي في سوريا، وفقد الكثير من مناصريه، وانسحب القيادي رشاد عيسى احتجاجاً، وقد تعرض مكتب الحزب في دمشق لهجوم من الساخطين (إخوان مسلمون، قوميون، أنصار صبري العسلي..) قتل خلال الاشتباك أحد كوادر الشيوعي حسين عاقو في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، ونجا بأعجوبة القيادي يوسف فيصل، بينما فر خالد بكداش. وهكذا عاد الحزب للعمل السري في سوريا، ثم أعيد توحيد الحزبين في لبنان وسوريا بقيادة بكداش في بيروت.
عاشت الأحزاب الشيوعية العربية عموماً بعيد نصر الحلفاء وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتي فترة ذهبية، مستفيدة أولاً من زخم انتصارات العملاق الشيوعي. إلى أن أتت لحظة تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين التي مثلت ضربة قاسية للعمل الشيوعي في المنطقة
حاول الحزب الالتفاف على الحظر، بإنشاء فرع لما دعي "حركة أنصار السلم العالمي" وهي حركة يسارية أنشأت في وارسو سنة 1950، تشكل لها فرع في سوريا، بقيادة الشيوعي الدكتور مصطفى أمين، نظمت مظاهرات فترة حكم الشيشكلي، واعتقل لها أنصار مثل الشاب وقتها دانيال نعمة، حسبما أشار د. عبد الله حنا حول قصة الاعتقال ولقاء نعمة مع الشيشكلي.
أما قمة الصفاقة فكانت من أقوى أحزاب مصر الشيوعية، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) الذي دعت صراحة للوقوف مع إسرائيل بحجة أنها تمثل مرحلة اجتماعية أرقى هي المرحلة الرأسمالية ـ البرجوازية ـ الاشتراكية، في مقابل الدول العربية التي ما تزال في مرحلة العلاقات الإقطاعية. ثم حصل أمر مشابه تقريباً لما حصل في سوريا، انقسامات داخل (حدتو) والحزب الشيوعي المصري ثم اعتقال عدد من القيادات عام 1948 أفرج عنهم بعد عام، وأبعد هنري كوريل أحد مؤسسي (حدتو) المتمسك بصوابية قرار التقسيم إلى فرنسا.
أما في فلسطين نفسها، فقد انقسم الحزب الشيوعي الفلسطيني 1943 على خلفية الموقف من ثورة 1936، إلى "الحزب الشيوعي في أرض إسرائيل" يضم فقط أعضاء يهوداً، وإلى "عصبة التحرر الوطني" التي ضمت أعضاء شيوعيين فلسطينيين فقط في العام 1944. يسجل أن معظم أعضاء العصبة رفضوا قرار التقسيم، لكن بعد النكبة 1948 عادت العصبة لمفاوضات دمج مع الشيوعي الإسرائيلي، حيث حلت العصبة نفسها، وأصدرت مذكّرة تنتقد مواقفها السياسية السابقة، ولا سيما رفضها قرار التقسيم، وتبنت مواقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
وهنا بدأت تسجل سلسلة خطايا مشينة، كما يسجل الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، إذ اتهم الشاعر "سميح القاسم" في مقال منشور الكاتب الشيوعي إميل حبيبي، أنه سافر مع شموئيل ميكونيس (أمين عام الشيوعي الإسرائيلي) إلى تشيكوسلوفاكيا، وغيرها من الدول الشيوعية في تموز/ يوليو 1948 لشراء الأسلحة لمصلحة الهاغاناه، والتفاصيل موجودة في "مذكرات ميكونيس"، وبعد ذلك صوت "توفيق طوبي"، عضو الكنيست، في تموز/ يوليو 1950 بالموافقة على قانون عودة اليهود، ولم يطالب البتة بعودة اللاجئين الفلسطينيين، بحسب "كتاب الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنكبة؛ الموقف والدور لمحمود محارب، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية 2022، ص 160 وص 176".
وهذا يشير إلى شيئين؛ الجهل بأهمية قضية فلسطين لدى الجماهير العربية من قادة الحزب أنفسهم، ومدى الضعف أمام الأخ أو الأب الأكبر.
بالنتيجة كانت الأحزاب الشيوعية العربية ثاني ضحايا النكبة بعد الشعب الفلسطيني، تلاها النظام الرسمي العربي ذو المسحة البرجوازية الديمقراطية في بلدان الطوق، والذي وإن أعلن رفضه التقسيم ثم دخل حرب 1948، لكن بالمحصلة تعامل بخفة مع الموضوع، مصدقاً شعارات من يوجد في فلسطين عصابات صهونية، وليس جيش منظم مدرب، بالنتيجة تساقطت أنظمته تباعاً لصالح حكم العسكر، بدل الأحزاب التي تدعي تمثيل طبقات العمال والفلاحين، لأنه أظهر "عريها" بصورة فجة.
طبعاً من نافل القول، إن سلخ اللواء وتقسيم فلسطين كانا سيمران بغض النظر عن مواقف الشيوعيين. فتغيير الخرائط، وإنشاء دول جديدة، أمر يصعب حتى على الدول العظمى. غالباً يأتي بعد تحولات كبرى، وتقاطعات مصالح لأعظم القوى. ولن يقف عند حزب أو أحزاب هي أساساً خارج السلطة، في دول صغيرة تحت الاحتلال.
أخيراً؛ حتماً ليس من واجب أي حزب سياسي المشي دوماً وراء رأي الجماهير، بل شجاعة تحسب له معارضة التيار السائد، لكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال ضم مواقف شيوعيي الشرق السابقة إلى هذه المواقف الشجاعة الحصيفة، فهي سرعان ما تبرأت منها، وعملت مراجعات مطولة؛ وهذا يحسب لها، لكن حصل هذا بعد أن تغير موقف الأب الأكبر في موسكو، أو موت الأخ الأكبر في باريس.
كذلك لا يجوز أبداً رد هذا الخطأ إلى الرومانسية أو الأحلام الرومنطيقية التي لطالما اتهم بها الشيوعيون، وغيرهم من الأحزاب المؤدلجة، فبالعودة إلى منهج ماركس نجده أسس لتحول نوعي، إذ أصبحت طريقة التفكير تنطلق من وضع ملموس (بشر، علاقات، إنتاج...) وهذا فحوى مقولة ماركس العميقة: "ليس وعي الناس من يحدد وجودهم، بل وجودهم هو الذي يحدد وعيهم". فالصيرورة الواقعية عند ماركس هي الواقع الحقيقي، أما الصيرورة الذهنية فهي في الواقع المفترض المتصور. ولا شك في أن المطلوب هو وعي الصيرورة الواقعية لتكون الصيرورة الذهنية مؤثراً فقط.
سمحت هذه الخطايا لطبيعة الحزب الشمولية، لبكداش وكوريل وحبيبي بهكذا تجاوزات وربما أجبرت طوبي على التصويت المشين. إضافة إلى أن سلخ اللواء وتقسيم فلسطين، نتج عنهما جريمة بحق الإنسانية وهي تهجير سكان من أرضهم وهو ما بات اليوم يدعى "تطهيراً عرقياً"، فكيف لحزب إحدى أعظم أولوياته العدالة الاجتماعية القبول بهكذا قرارات؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 15 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت