شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أبي الذي خان

أبي الذي خان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

الخميس 29 أغسطس 202410:49 ص

كنت أظن أن الوقت الذي مرّ كافٍ لاعتياد غيابه، غريب أن أثر غيابه يظهر بشدّة بعد عشرين عاماً، وكأن ما حدث في الطفولة لم يكن سوى حلم، تدريب على موت سيعيش معي أبداً.

مؤخراً صرت أسمع مصطلحات مثل "الدادي إيشوز" و"التروما" من الجميع أكثر من المعتاد، كأنهم يتحدّثون عن نوع من القهوة أو الكيك سريع التحضير، صارت هذه الكلمات تطاردني. الجميع يعاني من مشاكل مع الأب، غياباً وحضوراً.

لطالما اعتبرت نفسي محظوظة، فأبي لم يخن أمي، بل كان أكثر الأزواج إخلاصاً ورومانسية، ولم يكن أباً شرقياً، متعصباً، ذكورياً، يورّث أبناءه مشاكل نفسية وعقداً متفاوتة الشدّة. ما فعله أنه رحل بهدوء وأنا في الخامسة من عمري. لم يترك لي مثل تلك المشاكل المتكرّرة لدى الجميع، فكان حنوناً، طيباً، حاضراً دوماً، لأنه غائب دوماً.

ولكن مع مرور العمر أصبحت أدرك أن أبي لم يترك لي أي شيء على الإطلاق، فقد سلب مني الأمان، وظللت طيلة عشرين عاماً تاليات أبحث عن معناه وعن مصدره، وما وجدته في المراهقة، ما كان إلا عقدة العشرينيات، وعدت لأبحث مجدداً ولا أجده.

كأي أسرة مصرية تفقد الأب، تسلم الأم الراية للأخ الأكبر، وإن كان في الثالثة عشر من عمره، فتكون النتيجة مراهقاً يريد أن يصبح رجلاً، فلا يدري ماذا يفعل، فيأخذ الرجولة عن النسخ التي رآها حوله في الحياة وفي التلفزيون ربما: إلقاء الأوامر فقط والوجه الساخط، وينسى أن يعطي ذاك الأمان الذي كنت أبحث عنه. نعم في بعض الأحيان أشعر بالخجل عندما أحضن أخي، ولم تتحسّن علاقتي به إلا عندما تزوج وأنجب ابنته الأولى، وربما تلك هي المرة الأولى التي يفهم فيها معنى الأبوّة ويشعر بأهمية الأمان.

في الإجازات، كنت أذهب لقضاء بعض الأيام عند خالي وأولاده، ممن هم في نفس سني، كنت أتخيل بأنني إحدى بناته وأنه أبي، وكأنني أعيش حياة أخرى مغايرة لحياتي، نسخة حالمة وأكثر ضوءاً، وما إن كبرت حتى أدركت بأن الخال لم يكن أباً يوماً إلا لأبنائه، وتلك حقيقة تأكدت منها بنفسي.

لطالما اعتبرت نفسي محظوظة، فأبي لم يخن أمي، بل كان أكثر الأزواج إخلاصاً ورومانسية، ولم يكن أباً شرقياً، متعصباً، ذكورياً، يورّث أبناءه مشاكل نفسية وعقداً متفاوتة الشدّة. ما فعله أنه رحل بهدوء وأنا في الخامسة من عمري

لم يدركني أبي إلا شهراً واحداً في السنة الأولى في رياض الأطفال "كي جي وان"، وبالرغم من تعبه وبالرغم من ضعف ذاكرتي –إذ كنت في الخامسة من عمري حينها- إلا أني أتذكر ذلك الموقف عندما جاء ليأخذني، ووجد المدرّسة تعاقب الفصل كله بالوقوف لمدة لا بأس بها، فجاء أبي وتحدّث معها بنبرة حادة. لا أتذكر أي كلمة، لكني أتذكر جيداً إحساس الانتصار والسعادة في ذلك اليوم، فقد أخذ أبي حقي من تلك المدرّسة بعدما أُنهكت قدماي الصغيرتان، ولكن يبدو أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي سأمتلك فيها هذا الإحساس.

"بابا من أحضرها لي"... لطالما شعرت بالغيرة عند سماعي تلك الجملة. تمنيت لو أنطقها لمرة واحدة فقط بين أصدقائي، لكني لا أجد من الذكريات ما يكفي حتى أرويه، لا يوجد ما يكفي من الذكريات حتى أتذكر حتى، ذلك أن أبي لم يحضر إلا غيابه.

لكني صمّمت على جعل كلمة "بابا" كلمة مقدسة، فإذا أردت أن أصدق القول أقسمت "ورحمة بابا"، وقتها يعلم محدّثي جيداً أني أقول الصدق حقاً. ربما تكون تلك العادة هي تأكيد على الصلة الممتدة بيني وبينه ما حييت، ربما تلك العادة هي ما أبقته حيّاً بذاكرتي.

ودّعت الطفولة، وتركت عرائسي الملونة ودماي، واستقبلت التغيرات الهرمونية والجسدية وأنا لا أفهم ما يحدث لي تحديداً، وكأي فتاة في هذا السن، تعطّشت لكلمات الثناء والمدح، وانتظرت كلمات الإعجاب واللمسات الحنونة من أسرتي، ولكنه كان انتظاراً مريراً بلا جدوى، هنا فقط قلت لأول مرة: "أين أبي؟"، فالعرف المصري "أن دلال الفتاة يفسدها"، ذلك أنه يخلق منها فتاة تعرف قيمة نفسها، وتلك في مجتمعاتنا الشرقية كارثة بكل المقاييس.

كحال الكثير من الفتيات، قابلت لأول مرة من يلبي احتياجات تلك المرحلة، ولكني لم أرد سماع كلمات معسولة، بل أردت إحساساً آخر، هو الأمان الذي حرمني منه أبي برحيله، فجاء الحب الأول الممزوج بالحماية والأمان بصبغة مراهقة ولكن كان كافياً لي وقتها. كنت أرى فيه أبي، تعلقت به تعلّقاً شديداً، حتى إنني حاولت إنهاء حياتي في السابعة عشر عندما علمت أسرتي بعلاقتنا.

كنت أرى من خلاله العالم، وبالطبع في سن العشرين أدركت الحقيقة القاسية، أنه مراهق أيضاً لم يكن أباً يوماً، وإنما أوهامي من نسجت هذا. تلك الصدمة حُفرت في قلبي إلى الأبد، فعندها أدركت أمراً كنت قد تغافلت عنه: أبي رحل، وسأظل أبحث عنه طيلة حياتي.

كنت أظن أنني تخطيت رحيل أبي، وأنه مضى من الوقت ما يكفي لشفاء تلك الندبة، ولكن الجروح جروح، نشفى منها ونظن أنها أصبحت مجرّد علامة فقط لم تعد تؤلمنا، ومع أول احتكاك سنشعر بالألم مرة أخرى، ويمكن أن يكون أقوى في الإعادة وأشد وقعاً

"ولكن لماذا تظنين دوما أنني سأرحل؟"... قالها لي أحدهم يوماً، ولم أكن أعلم الإجابة حقاً، وبعد تفكير قلت له: "ربما ينقصني الأمان، لا أعلم".

الحقيقة أنني أعلم، فمنذ إدراكي للحياة وأنا أشعر بالخوف من أن أتعلّق بأحد، فأجد الأمان الذي أبحث عنه، ثم يُسلب مني مرة أخرى فجأة.

"ليته يموت، بدلا من وجوده الذي بلا فائدة": قالتها لي صديقتي ذات مرة متحدثة عن أبيها الذي تركهم منذ انفصاله عن والدتها منذ زمن بعيد. صديقتي لا تكن لأبيها أي مشاعر حب وتقنعني دوماً أن وفاة أبي تاركاً لي أثراً طيباً أرحم لي، وأن حالي أحسن من حالها، فوجود أب مؤذ أبشع شعور ممكن يعيشه الإنسان، ولكني لم أفهمها يوماً، فما فائدة الأثر الطيب وهو أثر، مجرد أثر؟ ما فائدة حديثي أن أبي كان أعظم الآباء وهو "كان" فحسب؟

أتساءل دوماً لو كانت وفاة أبي وأنا في سن أكبر، مع ما يكفي الذكريات، أكنت سأعاني من عدم الشعور بالأمان الذي يلازمني طيلة الوقت؟ هل وقتها كنت سأرفض ما فعله بي حب المراهقة؟ هل كانت نظرتي للامور ستتغير حقاً، ولا أمضي حياتي أبحث عن ذلك الحضن الذي حُرمت منه مبكراً؟   

كنت أظن أنني تخطيت وأنه مضى من الوقت ما يكفي لشفاء تلك الندبة، ولكن الجروح جروح، نشفى منها ونظن أنها أصبحت مجرّد علامة فقط لم تعد تؤلمنا، ومع أول احتكاك سنشعر بالألم مرة أخرى، ويمكن أن يكون أقوى في الإعادة وأشد وقعاً.

اليوم، لأول مرة تختلط مشاعري تجاه أبي، فأصبحت أغضب منه بقدر اشتياقي إليه (ربما بدأت بالشفاء من صدمتي) وبقدر إدراكي أن "الدادي إيشوز" لا تأتي فقط من الأب الجاحد المؤذي، وإنما يمكن أن تأتي من أحنّ وأعظم الآباء، وبغير قصد منه، فقط كل ما عليه فعله أن يرحل ويترك ابنته تبحث عن معنى الأمان في كل شخص آخر ولا تجده، فقط عليه أن يغيب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image