لا أذكر المرة الأخيرة التي حلّقتُ فيها مع أغنية وأنا أعمل، ولا حتى في أوقات فراغي القليلة، ولا المرة الأخيرة التي منحتُ فيها نفسي سعادةً صغيرة بشراء قطعة ملابس جديدة، ولا حتى المرة الأخيرة التي خرجت فيها وحدي.
نسمي أنفسنا "الأمهات الخارقات"، ونشعر بالإطراء، لا بل بالزهوّ، إذا ما قالوا "فلانة بيتها بيلمع متل الليرة"، ولا أعلم أي ليرة هذه التي ستلمع بعد اليوم، أو "فلانة لا تبرح جانب أولادها لتدريسهم ورعايتهم فلا تخرج ولا أصدقاء لها"، أو "فلانة سبعة (أنثى السبع أي الأسد) تقضي صيفها في صنع وتجهيز مؤونة الشتاء".
لكننا نقف أمام أنفسنا بعد كل إطراء نتحسّس الشقاء المرسوم على محيّانا، ونرى فينا ذلك الدوريّ الذي كنا نمسكه عندما كنا صغاراً، وننتف ريش جناحيه لنلعب به فلا يستطيع إلا أن يستسلم لموته ببطء.
أتكلم بلساني ولسانكن، أنتن أيتها الأمهات اللواتي تقرأن، فلستن بأفضل حال مني.
عزيزتي الأم الخارقة: هل فكرت يوماً ما الذي سيحدث لو أنك كويت نومك المجعّد قبل أن تكوي قمصانهم مثلاً؟ ما الذي سيحدث لو أنك شبعت من الرضا عن الذات قبل أن يأكلوا مثلاً؟ وما الذي سيحدث إذا رحلت لقضاء عطلة ليومين أو ثلاثة، بعيداً عن الهوس المستمرّ بالترتيب؟
العالم لن ينهار إذا ما أخذنا استراحة من أعمالنا المنزلية، ولن تحلّ الكوارث إذا ما خلدنا للنوم دون أن نساعد أطفالنا في واجباتهم المدرسية، ولن تنحرف الأرض عن محورها إذا ما حصلنا على القليل من الترفيه الذي نستحق.
أعلم تماماً أن بإمكاني الخروج إلى أي مقهى لأفرغ الكمّ الهائل من الضغط الذي يكاد ينفجر داخلي في فنجان قهوة، وأعلم أيضاً أن بإمكاني شراء أي شيء جديد لنفسي في أشهر البحبوحة، لكنني لا أفعل، وأفضّل الأولاد دائماً عليّ في صورة غبية للإيثار. هل تراني أستمتع بثقل المنزل، بمن وما فيه، على كتفي؟ هل أنا مازوشية لهذه الدرجة؟
عزيزتي الأم الخارقة: هل فكرت يوماً ما الذي سيحدث لو أنك كويت نومك المجعّد قبل أن تكوي قمصانهم مثلاً؟ ما الذي سيحدث لو أنك شبعت من الرضا عن الذات قبل أن يأكلوا مثلاً؟
غلطة وندمان عليها؟
في "بلاد الأشياء الأخيرة"، كتب بول أوستر على لسان بطلته آنا بلوم: "أجل هناك أشياء كثيرة أنا خجلة من قيامي بها في أوقات ما تبدو حياتي لا شيء سوى سلسلة من الندم، من الخيارات الخاطئة، من الأغلاط المتعذّرة الإلغاء، وهذه هي المشكلة حين تبدأ بالتأمل في الماضي ترى نفسك كما كنت وتنفر"
ما من واحدة منّا إلا وتمنّت يوماً أن يعود بها الزمن إلى الوراء، فتصحّح كتلة الأخطاء هذه، وما من واحدة منّا إلا ونظرت إلى أطفالها بعد هذه الأمنية فاستغفرت ربها وشكرته على نعمة العائلة، وبالتالي، ما من واحدة منا إلا وشعرت بحاجتها إلى طبيب نفسي يعالجها من الشيزوفرانيا.
عزيزتي الأم الخارقة: ماذا سيكون شعورك إذا ما طلب منك أحد أبنائك طلباً وقلت له للمرة الأولى "لا"؟
في الساعات القليلة التي أسرقها ليلاً بعد نومهم لأقرأ، لفتني قول لأوكتافيو باث، الشاعر المكسيكي، يصف فيه ما نشعر به تماماً، إذ يقول: "المرأة تجسّد إرادة الحياة التي هي جوهرها إرادة غير شخصية، ولمثل هذا السبب يغدو مستحيلاً أن تحيا حياة خاصة بها، إذ أن تكون ذاتها، سيدة رغباتها، وعواطفها، ونزواتها، هو خيانة لذاتها".
يا إله العرش، حتى فيما أقرأ تقفز معاناتي ولسانها خارج فمها باستهزاء ساخر.
قد يبدو لكم ذلك غبياً، لكنه صحيح. نعم يا سادة هذا ما يحدث معنا تماماً. نشعر أنها خيانة كبرى أن نحب ذواتنا.
حياتنا التي اعتقدنا أننا أنقذناها من خلال وضعها تحت مقصلة الزواج، لم نعلم أنه كان بإمكاننا إنقاذها بإدارتها بطريقة أخرى، ومن خلال الزواج أيضاً. مساحتنا الحرة ألغيناها بكامل رضانا. ما زلنا نستطيع استعادتها، لكننا في أعماقنا لا نريد، نستمتع بمازوشية بعذاباتنا، ونشعر باختلال توازن عوالمنا إن غيّرنا نمط حياتنا.
عزيزتي الأم الخارقة: كم مرة استيقظت شاعرة أنك لا تريدين النهوض من السرير، لا بل تتمنين أن تعودي إلى نوم أبدي؟ وكم مرة شعرتِ بالـ "كفى. لا أستطيع الاستمرار، أحتاج أن أستقيل من كل ذلك، أحتاج مارداً يرفع هذه الشاحنة المسماة (عائلة) والتي تدهس روحي ذهاباً وإياباً"؟ وكم من مرة نظرت لجارتك الخارجة من صالون الحلاقة بشعرٍ مرتب نظرة حسد، وهي تلقي عليك التحية أثناء نشرك الغسيل، بشعرك الأشعث وروب نوم رسمت عليه بقع الكلور ملامحك البائسة؟
حياتنا التي اعتقدنا أننا أنقذناها من خلال وضعها تحت مقصلة الزواج، لم نعلم أنه كان بإمكاننا إنقاذها بإدارتها بطريقة أخرى، ومن خلال الزواج أيضاً. مساحتنا الحرة ألغيناها بكامل رضانا
لاءات مريحة على مقاسات الجميع
في مجتمعاتنا العربية نرى معظم الأمهات يتذمّرن من واقعهن ومن مطالب عائلاتهن التي لا تنتهي، لكنهن لا يردن وضع حدّ لهذا، فهنّ، ولو لم تفصحن، يستمتعن بجعل أنفسهن ضحايا هذه الأمومة السامّة.
لست هنا لأنادي بتحرّرنا، ولا لادعاء أننا مظلومات فنحن من نظلم أنفسنا، ونحن من نجعل حياتنا مداساً لكل من حولنا، وبرضانا، ونحن من نطأطئ كواهلنا أمام تلك الأكياس الثقيلة، ليلقي عليها السير المتحرّك كيساً بعد كيس، ونحن من نستمتع بقرقرة معداتنا بينما "فلذات أكبادنا" يتمددون ببطون منتفخة من التخمة.
وسأقف، وستقفين، في لحظة من اللحظات أمام نفسك المشظاة، وصوتٌ من الماضي يدندن: "يا مايلة عالغصون عيني... سمرا سبيتينا"، وتقولين: ماذا فعلت بنفسي؟ لكني/لكننا سنستمرّ، سنستمر ناذرات أنفسنا لهم، لكن دعيني أخبرك شيئاً يراودني في لحظات الصحو: أنت التي نذرت نفسك لهم، ماذا سيكون شعورك إذا ما طلب منك أحد أبنائك طلباً وقلت له للمرة الأولى "لا"؟
سأخبرك: ستشعرين أنك مجرمة، لكن لا تقلقي، ففي المرة الثانية التي ستجرئين فيها على الـ "لا" ستشعرين فقط بالقليل من الذنب، أما في المرة الثالثة فستشعرين بالسوء فقط، ثم ستبدئين بالشعور أن ما فعلته شيء عادي، وفي النهاية سيتشكل لديك كامل الشعور بأحقيتك في الرفض متى أردت، فتوكّلي على الشياطين سيدتي، وابدئي بتحضير "لاءاتك" المريحة، علّك تحصدين راحةً لم أقو على نثر بذورها حتى الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...