يخوض الكاتب حسين عبد الجواد في مجموعته القصصية "يوميات ليلية" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب غمارَ كتابة الأحلام التي كان لنجيب محفوظ -الذي كان كاتبنا حسين عبد الجواد صديقاً ورفيقاً له في مجلسه في العقد الأخير من عمره- الريادة النوعية في تأسيسها في أدبنا العربي، بدءاً من أحلام "رأيت فيما يرى النائم" (1982)، وحتى "أحلام فترة النقاهة" التي بدأ في كتابتها في منتصف التسعينيات ونشرها في كتاب عام 2004، ثم نُشرِ الجزء الثاني منها في 2015.
تقوم سردية الحلم على مسرحة اللاوعي بجموحه وشطحاته واجترارته لمشاعر الذات الدفينة ورغباتها المقموعة وأحلامها المنسية أو بالأحرى المتناساة لعدم استطاعة الذات تحقيقها، ليكون للحلم منطقه الخاص المتعالي على منطق الواقع، فتمسي المشاهدات الحلمية رموزاً وإحالات لمشاعر قابعة في لاشعور الشخصية، واستعادات لتاريخها بأحداثه التي حصلت أو الأماني التي لم تبلغها الذات أو المخاوف المحلِّقة في أفق اللاوعي، فالحلم هو إعادة تشكيل الوقائع من منظور نفسي أو هو بناء حكائي لأحداث من تأليف اللاشعور، نتيجة إلحاح مواقف وذكريات ومشاعر مختزنة في باطن الشخصية يتم التنفيس عنها عبر الحلم.
الكاتب حسين عبد الجواد
تعثُّر التوافق مع الآخر/الأنثى
تُمثِّل علاقة الذات بالآخر/الأنثى في النصوص الحلمية لحسين عبد الجواد إشكالية حاضرة، لما يمثِّله الآخر/الأنثى من قطب وجودي مكمِّل للذات؛ حيث تحتاج إليه لتشعر بالتحقق وتشبع رغباتها في الحب والاتزان النفسي، فغالباً ما تتعثَّر علاقة الذات بآخرها، كإحدى صور الأحلام المُجهَضة، فتبدو العلاقة مع ابنة الجيران التي تشكِّل بدايةَ تفتحِ أعين الذات ووعيها على الآخر الأنثى هي بداية تشكل عواطف الحب وتعقُّدها أيضاً، ما ينتج عنه ترسُّبات نفسية في اللاوعي تبقى عالقة حتى تعاود الظهور على مسرح الحلم الذي هو مجال نشاط اللاوعي، كما في قصة بعنوان "منزلنا القديم":
يخوض حسين عبد الجواد في مجموعته القصصية "يوميات ليلية" غمار كتابة الأحلام التي كان لنجيب محفوظ الريادة النوعية في تأسيسها في أدبنا العربي بدءاً من أحلام "رأيت فيما يرى النائم" (1982)، وحتى "أحلام فترة النقاهة" (2004)
"رأيتني في شرفة منزلنا القديم، وأنا أنظر إلى ابنة الجيران الجميلة، وهي واقفة في الشباك المواجه، وأقول لها إنني راغب في لقاء أبيها لأطلب يدها. تضحك وتقول إنني طلبت لقاءه عدة مرات، ولم أفاتحه في الموضوع. أؤكد لها أنني جاد جدًّا في هذه المرة. وأسمع صوت أمها تنادي عليها فتدخل إليها... وأعاود الجلوس على المقعد الوحيد الموجود في الشرفة، وبعد دقائق قليلة أسمع صوت زغاريد صادرة عن الأم السعيدة بقبول ابنتها لخطبة زميلها في الدراسة. فأندم على أنني ترددت إلى هذا الحد".
الكاتب حسين عبد الجواد مع نجيب محفوظ
تحضر تيمة "الفقد" في رؤى عبد الجواد الحلمية. وبالفعل فإنَّ الفقد يبدو قاراً في اللاشعور الإنساني، إما كتجربة أليمة عاشتها الذات الإنسانية أو كمخاوف تراود الذات من فقدان عزيز عليها
تكشف هذه الرؤية الحلمية عما يشوب علاقة الذات بالآخر/الأنثى من تردد، في تمثيل لبواكير تعرُّف الذات على الأنثى من خلال وسيلة التعرُّف التقليدية (بنت الجيران)، وتنتهي نهاية تقليدية شأن قصص الحب الأولى بالإخفاق، فتتبدد أحلام الحب الأولى.
لكن لما للحلم من نسق شفرات رمزية قد يكون لعناصره ومكوناته، أشياؤه وأحداثه وشخوصه إشارات إلى معان ودلالات أخرى مستترة أو غير مباشرة، فالمنزل القديم قد يرمز إلى الذات نفسها في حداثتها العمرية، والشرفة هي وسيط مكاني دال على انفتاح الداخل على الخارج، وإطلالة الذات على العالم، أما ابنة الجيران التي تُمثِّل حضور الآخر/الأنثى، فقد ترمز إلى الحياة الجميلة التي تتطلع إليها الذات، لكنَّ آفة التردد تضيع فُرصها، وقد يرمز تردد الذات/الشاب أو الفتى في لقاء والد بنت الجيران التي يحبها ترمز إلى تهيب ما من السلطة البطريركية المُمَثَلة في والد المحبوبة.
وإذا كان مصير علاقة الذات بالأنثى/الآخر التي تعلقت بها عن حب واختيار حتى ولو بحكم القرب المكاني منها/بنت الجيران هو الفشل فإنَّ نفس المصير تلاقيه في لقائها بالأنثى العابرة، كما في قصة "الترام":
"في مرحلة الصبا أعمل كمحصل تذاكر في الترام، وأبدو سعيدًا للغاية لأنَّ السائق يمتثل لأمري عندما أنفخ في الصفارة، فينطلق بالترام إلى الأمام. وأرى فتاة جميلة ترقص بالقرب من إحدى المحطات، فأنزل إليها، وأنفخ في الصفارة، فينطلق السائق دون أن أركب معه بينما الفتاة تبتسم لي وهي سعيدة.
أذهب معها لنتجول في الحدائق القريبة، ويبدو الترام على البعد، وهو يبتعد عنا... ونقضي لحظات سعيدة.
ثم أجد نفسي وحيدًا، ومعي الصفارة، وأنا في طريقي إلى المنزل بعد أن فاتني موعد المدرسة".
بقدر سعادة الذات في صباها بلعبها دوراً مؤثراً وتأديتها فعلاً موجِّهاً في حركة الآخرين/الترام وركَّابه، بإعطاء الإشارة للسائق بالتحرُك، فإنَّها تبدو أكثر سعادة بتخليها عن هذا العمل الروتيني الذي اعتادت عليه من أجل اللحاق بفتاةٍ جميلة رآها ترقص بالقرب من إحدى المحطات. وهذه الفتاة لا تمثل فقط الأنثى، ولكنَّها قد ترمز أيضاً إلى الحياة التي يشتهيها ويفوته الترام بينما هو يمضي وقتاً سعيداً معها. ثم لا تلبث أن تختفي فجأةً فيما يُشبه انقلابَ وتبدلَ أقدارِ الحياة ووعودها الجميلة للذات الإنسانيَّة مع فوات موعد المدرسة، أي أنَّ الذات تحس بصدمة الفقد والشعور بالوحدة بعد أن تكون فاتتها فرصتها في التعلُّم ودراسة الحياة في الأوان المناسب والذي تحتاج التعلُّم فيه.
أحلام الفقد
تحضر تيمة "الفقد" في رؤى عبد الجواد الحلمية. وبالفعل فإنَّ الفقد يبدو قاراً في اللاشعور الإنساني، إما كتجربة أليمة عاشتها الذات الإنسانية أو كمخاوف تراود الذاتَ من فقدان عزيز عليها، ومن القصص التي تُمثِّل لموضوعة الفقد نصٌّ بعنوان "النسر":
تشكل أحلام "الصراع" خيطاً رئيسيّاً في نسيج الرؤى الحلمية في مجموعة "يوميات ليلية" لحسين عبد الجواد، حيث تتصارع الذات مع آخر منافس لها أو صاحب سلطة عليها، كالمدير أو الرئيس في العمل، من أجل إثبات وجودها وتأكيد جدارتها وتحقيق مجدها الخاص
"اعتدنا أن نذهب لنصطاد اليمام، في الحديقة التي تقع على مشارف الحيّ الذي نسكن فيه، والتي يتوسطها الجامع العريق الشهير.
وكان من ضمن ما اصطدناه نسرٌ صغير الحجم، وقام صديقي بدفنه في الحديقة نظراً إلى أنَّه غير صالح للأكل.
وسرعان ما تطوع للخدمة العسكرية، ثم سافر بعد ذلك ضمن القوات المحاربة في اليمن، والأمر المؤلم أنه قد استشهد في تلك الحرب الدامية.
وكنت كلما ذهبت لصلاة الجمعة في ذلك الجامع العريق، وأشاهد أحد النسور الصغيرة يحلق في الجوّ، أتذكر صديقي العزيز، أترحم عليه، وأقرأ له فاتحة الكتاب".
إذا كانت ممارسة الصيد، صيد اليمام، كفعل يعني تعوُّد الجماعة/الصديقين على تحقيق أهداف بعيدة، فإنَّ اصطياد النسر الصغير، بدلاً من اليمام، يبدو صيداً خطأً أو بالأحرى ليس في نطاق الهدف المقصود، ما أدى إلى دفن النسر الصغير لعدم جدواه، فإنَّ ذهاب الصديق إلى حرب اليمن التي دارت رحاها في ستينيات القرن العشرين -عندما دفع الرئيس المصري بالجيش المصري في هذه الحرب- قد نتج عنه فقده في هذه الحرب التي كانت لها تبعات بالغة السلبية على الجيش المصري، حيث خرج منها مستنزفاً ليعود إلى مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل في حرب حزيران/يونيو 1967، ما أفضى إلى هزيمته فيما عُرِف بحرب الأيام الستة، فقد يرمز النسر، الذي هو رمز إلى العسكرية المصرية باصطياده خطأً إلى إقحام الجيش المصري في حرب غير مدروسة في اليمن، ما أدى إلى دفنه بعدها في حرب أمام إسرائيل.
أحلام الصراع
تشكّل أحلام "الصراع" خيطاً رئيسيّاً في نسيج الرؤى الحلمية في مجموعة "يوميات ليلية"، لحسين عبد الجواد، حيث تتصارع الذات مع آخر منافسٍ لها أو صاحب سلطة عليها، كالمدير أو الرئيس في العمل، من أجل إثبات وجودها، وتأكيد جدارتها، وتحقيق مجدها الخاص، في قصة بعنوان "المسرحية الجديدة":
تُمثِّل علاقة الذات بالآخر/الأنثى في النصوص الحلمية لحسين عبد الجواد إشكالية حاضرة، لما يمثِّله الآخر/الأنثى من قطب وجودي مكمِّل للذات؛ حيث تحتاج إليه لتشعر بالتحقق وتشبع رغباتها في الحب والاتزان النفسي
"غادر صديقي المخرج خشبة المسرح، وراح يراقبنا من خلف الكواليس. وتقترب مني عروس من عرائس الاحتفالات، مصنوعة من الحلوى الخالصة، ومزينة بالأوراق الملونة. أقترب منها، فتقول إنها ستحبني إذا ما امتثلتُ لأوامرها. أقترب منها أكثر فأكثر، ونتعانق، ثم أحتضنها بقوة، فأفاجأ بأنها قد تكسرت تمامًا بين ذراعيَّ، وسقطت على الأرض في أجزاء صغيرة.
يدخل المخرج، وعندما يراني حائرًاً ينظر إلى بقايا العروس المهشمة، ثم يناديها باسمها الحقيقي، فتقوم من مكانها، وقد تحولت إلى امرأة شابة حقيقية. ويقدمها لي على أنَّها الممثلة التي ستلعب دور البطولة في المسرحية الجديدة. ويروح يذكرني بأنني مؤلف هذه المسرحية".
يسفر هذا الحلم عن حالة صراع تحسه الذات/الكاتب المسرحي مع المخرج من أجل التحقُّق ونيل التقدير المنشود من الممثلة/مؤدية النص/العرض المسرحي، فيكشف فعل احتضان الكاتب للعروس/الممثلة عن رغبة في الحصول على تقديرها العاطفي من ناحية، كما يكشف فعل تَمثُّلها على أنَّها عروس من الحلوى تهشمت وسقطت أجزاءً بعد احتضانه لها عن شعوره بوهمِ احتمالية أن تمنحه تقديراً عاطفيّاً منتظراً من ناحية ثانية، كما أنَّها تمثِّل فعلاً انتقاميّاً من قِبَل اللاوعي الحلمي من تلك الممثلة التي لا تبادل الذات/الكاتب المسرحي عواطفه ناحيتها، كما تكشف هذه الرؤية الحلمية عن شعور الذات/الكاتب المسرحي بهيمنة المخرج/المنافس الذي يدور صراع خفيّ معه على مقاليد اللعبة أو العملية المسرحية، إذ إنَّه الذي يحيي الممثلة بكلمة منه، حتى إنَّ الكاتب نفسه قد نسى هويته أنَّه كاتب في شعورٍ بعدم استطاعتِه القيامَ بدورٍ، حتى يذكِّره المخرج بكونه كاتباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...