شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
يوميات من غزّة (31)... حين اعترف هارئيل بخطف رضيعة فلسطينية إلى إسرائيل

يوميات من غزّة (31)... حين اعترف هارئيل بخطف رضيعة فلسطينية إلى إسرائيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الأحد 11 أغسطس 202409:49 ص

مرحباً دافيد!

مرحباً دوف!

مرحباً أيتها الأسماء المخفية التي لم نصل إليها بعد!!

أو هل يجب أن نلقي التحية عليهم بأسمائهم الفلسطينية، الأسماء الأولى التي حصلوا عليها ولم يكونوا يعون أنهم يحملونها عندما تم اختطافهم؟!

مثلاً:

مرحباً إسماعيل!

مرحباً خلدون!

مرحباً… !

إن مقولة "يخلق من الشبه أربعين" التي تستخدمها شبه يومياً في حياتك لن تكون عادية عندما يكون الوجه واحداً بين جندي إسرائيلي وشاب فلسطيني على الحاجز، فكيف يمكن أن يكون هناك وجه واحد لشخصين لا علاقة دم تربطهما؟

وجه واحد كان لإسماعيل ويوسف في رواية "بينما ينام العالم" لولا الندبة الحمراء التي تميز أحدهما عن الآخر، كما كان الوجه ذاته لسعيد وخلدون في رواية "عائد إلى حيفا"، وجه واحد لأب فلسطيني وجندي إسرائيلي، وشاب فلسطيني وأخيه في الجهة المقابلة، وجه واحد لا تعلم إن كنت تستطيع تلخيص الحكاية من خلاله أو تعميقها، لكنك متأكد بينك وبين نفسك أنك تقرأ رواية واضحة، حقيقية في مكانٍ ما، حتى لو باستعارات معينة إلا أنها شفافة وواقعية إلى حدّ لا يصدق. 

إن مقولة "يخلق من الشبه أربعين" لن تكون عادية عندما يكون الوجه واحداً بين جندي إسرائيلي وشاب فلسطيني على الحاجز، فكيف يمكن أن يكون هناك وجه واحد لشخصين لا علاقة دم تربطهما؟

لماذا أعود الآن إلى "خلدون وإسماعيل" وأنا في عزّ انشغالي في البحث من مكانٍ لآخر لأجد مكاناً قد يكون آمناً ليومٍ أو يومين؟! أنتقل بين أماكن النزوح من ملاجئ ركيكة أو أخرى هشة ثم أعود لأقرأ سوزان وغسان بحثاً عن الأطفال الذين اختفوا من غزّة، خاصة الطفلة التي انتشر الخبر عنها " اعتراف جندي إسرائيلي يدعى هارئيل غيتاح قتل لاحقاً في خانيونس لصديقه أنه خطف رضيعة فلسطينية من داخل منزلها المهدوم وأخذها معه إلى إسرائيل".

وأتساءل: أي وجه ستتعرف عليه هذه الطفلة إذا كبر الوقت دون إيجادها وعرفت أنها اختطفت من بيتها المهدوم، البيت الذي بالتأكيد سيكون تحت ركامه جثث أمها وأبيها وأخوتها؟

أعود للروايات، في رواية " بينما ينام العالم" لسوزان أبو الهوى، جاءت قصة إسماعيل/دافيد، الذي سرقه ضابط يهودي يدعى موشيه في لحظة سقوطه من حضن أمه داليا وهو ابن الستة أشهر، ورباه مع زوجته العاقر يولانتا، كما أطلقا عليه اسم دافيد.

عرف إسماعيل أصله الفلسطيني وعاد يبحث عن عائلته الضائعة بعد موت والديه، فوجد أخته آمال بعد بحثٍ كبير، لكنه "لم يكن إسماعيل طوال ثلاثة وخمسين عاماً، الطفل صاحب الشهور الستة".

في رواية "عائد إلى حيفا" عندما عاد سعيد وزوجته صفية إلى حيفا بعد غياب عشرين عاماً على أمل العثور على طفلها "خلدون" الذي تركاه قسراً في مهده داخل البيت، فوجداه جنديًا في جيش الاحتلال باسم ملازم له لعشرين عاماً "دوف"، أهدته الحركة الصهيونية لامرأة يهودية مع منزله.

أمّا هنّا، أخذ الأب يبحث عن الابن والمدينة معاً بحسرة كاملة، وعاد خائبًا، تائهًا، لا يعرف المدينة ولم يجد الابن، لقد ضاع الابن والمدينة معاً.

وأنا أحاول أن أجد الأطفال المختطفين بين غسان وسوزان، فاجأتني صديقتي وأنا أحدثها عن خلدون وإسماعيل والأطفال الذين لا نعرف أسماءهم بعد، وربما لن نعرفها، قالت وقتذاك:

- وسرقوا أخي.

نظرت إليها بتشكك، كيف؟!

كانت والدتها تجهض كل جنين تحمل به، حتى اضطرت للذهاب إلى المشافي الإسرائيلية في الأراضي المحتلة لتأخذ إبر تثبيت للحمل، وتتابع حملها وميلاده في الأراضي المحتلة هناك، وفي عام 1983، عندما جاء موعد الميلاد أخبروها أن طفلها ولد ميتاً، حملت طفلاً ميتاً وعادت مع حسرتها به إلى غزّة، ثم صار بإمكان المشافي في غزّة أن تعدّ إجراءات التثبيت بنفسها وصار بإمكان أمها أن تعود بأطفال ملأى بالأصوات. 

أنتقل بين أماكن النزوح ثم أعود لأقرأ سوزان وغسان بحثاً عن الأطفال الذين اختفوا من غزّة، خاصة الطفلة التي انتشر الخبر عنها "اعتراف جندي إسرائيلي يدعى هارئيل غيتاح قتل لاحقاً في خانيونس لصديقه أنه خطف رضيعة فلسطينية من داخل منزلها المهدوم وأخذها معه إلى إسرائيل"

عام 2012، جاء اتصال لوالديها يقول إنه من طرف القابلة التي ولدتها، كانت القابلة على وشك الموت فاتصلت بأفراد عائلة الطفل المسروق وأخبرتهم الحقيقة، وأنها باعته لسيدة سويدية لم تنجب آنذاك، اشترت طفلاً فلسطينياً وطفلة سورية، وربتهما لكنها اعترفت لهما أنهما بالتبني.. وعندما صار عمر الطفل 18 عاماً صار يبحث عن عائلته دون أن يجد شيئاً.

كان الطرف الذي يتصل بهما على غزّة جهاز الشاباك الذي أخبرهم أنهم إن كانوا يرغبون في رؤية ابنهم فإنهم يستطيعوا السفر عن طريق مطار بن غريون من خلال تنسيق مسبق لهم. خافت العائلة من الخطوة فأخذت تبحث وتسأل المعنيين حتى اتخذوا خطوة الذهاب إلى السويد عن طريق الشاباك.

سافر أفراد العائلة إلى السويد في رحلة غامضة، خرجوا من معبر إيرز إلى بلجيكا واختفوا هناك 3 أيام دون أي تواصل مع أحد، كانوا محجوزين في غرفة مظلمة، بعد ثلاثة أيام تركوهم في حديقة وأخبروهم أنهم سيتعرفون على ابنهم بأنفسهم. كيف سيتعرف الإنسان على ابنه الذي لم يره يوماً؟ ابنه الذي لم ير لحظته الأولى في الحياة حتى؟ شكل أنفه، فمه، عيناه، نظرته، ضحكته، مناغاته أو حتى صرخته الأولى.

تركوهم في الحديقة حتى جاءت نسخة طبق الأصل من الرجل الكبير الذي يجلس على مقعد الحديقة، شخص كأنه هو في شبابه، أو كأنه هو عاد شاباً ويرى نفسه في الاتجاه المقابل. 

لم يكن اللقاء ودودَاً، فالشاب المقابل الذي يخاف من فكرة أن يكون فلسطينياً أو أن تكون عائلته فلسطينية لم يقبل فكرة أن يستقبل الأمر بشكلٍ عادي، فأخذ يجري تحليلاً للـDNA، وعندما تأكد جاء بأولاده في مكان عام ليعرفهم عليهم، لكنه لن يقبل أبداً أن تتعرف عائلته الجديدة إلى بيته، شخص جديد لا يشبه الأب الفلسطيني بشيء سوى الشكل. 

عام 2012، جاء اتصال لأهل صديقتي يقول إنه من طرف القابلة التي ولّدت الأم في إسرائيل، كانت القابلة على وشك الموت فاتصلت بأفراد العائلة وأخبرتهم بالحقيقة، بأن الطفل لم يمت لدى ولادته، وأنها باعته لسيدة سويدية لم تنجب آنذاك، اشترت طفلاً فلسطينياً وطفلة سورية

حتى اليوم، يخاف هذا الشاب من فلسطينيته، يخاف من أن يصبح فلسطينياً حقيقياً، لا يقبل بفكرة والديه الذي سرق منهما سرقة، ولم يعرفا به إلا طفلاً محمولاً في كافولته ميتاً.

تكبر القصة وأعود لما نشر في بداية الحرب عندما انتشر خبر ترك الأطفال الخدج في مستشفى النصر والشفاء دون أمهاتهم، تساءلت:" كيف تستطيع أم ترك طفلها في حاضنة مستشفى والخروج دون أن تأخذه معها؟!" إلّا أن السؤال نفسه كان بمثابة خيانة، خيانة كاملة لا أستطيع غفرانها لنفسي، الأم هي أم لأطفالٍ آخرين أيضاً، وهذا أكبر امتحان لأمومتها، أن تأخذ طفلها وتذهب يعني أن تقتله بيدها، أن تتركه وتذهب يعني أنها تترك الاحتلال يقتله، كما أن تتركه فهناك أمل ولو بسيط جداً أن يعود إليها كما عاد موسى إلى أمه.

في قراءتي للروايتين، بينما ينام العالم، وعائد إلى حيفا، اختلف شكل القراءة حسب شكل الظروف، قبل الحرب كنت أتساءل كيف يمكن لأم أن تسقط طفلها من حضنها وهي تهرب؟! وكيف لأم أن تترك ابنها في المنزل وتغادر بحثاً عن زوجها أو حتى طفلها الآخر؟!

هل يستطيع الطفل الذي سرقته إسرائيل أن يعود إلى أبيه وأمه، يرى عينيه فيهم، وماذا عن الذين قُتلت عائلاتهم، كيف سيتعرف أحدهم على وجهه المسروق في مكانٍ ما؟

إن هذه الحرب جعلتني أفهم جيداً كيف كانت الهجرة الشديدة التي ركضت فيها داليا هاربة بأطفالها من الموت، فقط بأطفالها دون أن أحمل أي لومٍ، أو أي تساؤل، إن أياً كان لا يحق له أن يحمل مجرد التخيل بالقوة أو الصلابة في القدرة على حماية الأطفال الذين لم يستطيعوا النجاة من هذه الحرب. فحتى في هذه الحرب ومع محاولاتنا الشديدة في الموت جماعةً نجت أمهات وطار الأبناء إلى السماء، وربما نجا طفل واحد واختفت الأمهات بين النجوم.

تتوارد أخبار الأطفال إلى رأسي، في الواحدة صباحاً، أستيقظ، يأتي خبر الأطفال الخدج والطفلة التي سرقت من منزلها إليّ، وأتساءل عن المصير فقط، لا أكثر، المصير ذاته الذي رافق دافيد ودوف وأخا صديقتي، مصير النكران والخوف، الخوف من أن يكون الشخص فلسطينياً، ونكران هذا المصير بشدة.

هل يستطيع الطفل الذي سرقته إسرائيل أن يعود إلى أبيه وأمه، يرى عينيه فيهم، ينكرهم أو يعترف فيهم، وماذا عن الذين قُتلت عائلاتهم، كيف سيتعرف أحدهم على وجهه المسروق في مكانٍ ما؟ كيف سيعرف بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة أنه سرق مثل بيته وعائلته، وهل سيستطيع الاسترسال في حياته بشكل طبيعي وهو يكره كل فلسطيني وعربي على هذه الأرض دون أن يعرف دمه الأصل الفلسطيني.

تكبر القصص، هناك أطفال طوت الذاكرة والضمير نسبهم للأبد وصاروا إسرائيليين دون اختيار أو اختبار، وهناك الأطفال الذين صار لديهم محنة الاختيار والخوف من مصيرهم الفلسطيني، المصير المتعب الذي يحمل كل شخص في حكاية مختلفة عن الأخرى.

أقرأ صفية وداليا معاً وأقارن، ما وجه الشبه بين الأمهات، الأمهات اللاتي لم يعترفن البتة بموت الأبناء بمجرد ضياعهم، الأمهات اللاتي بحثن كثيرًا دون جدوى وأتذكر الجملة التي قالها سعيد في النهاية إلى صفية، الجملة المستهلكة جداً، لكنني في كل مرّة أقرأها بتعبٍ أكبر، خاصة أنني في هذه المرحلة أشعر بتعبٍ شديد وأنا أقرأها. "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية، الوطن ألا يحدث ذلك كله". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard