سمسم
تختبئ قطة جميلة تمتلك خطوطاً مميزة على فرائها، تحت إحدى سيارات الإسعاف في مستشفى محمد يوسف النجار، فلنقل إن اسمها "سمسم"، تتحرك بحذرٍ شديد وخوف أشد لتأكل لقيمات زادت من المسعفين هناك بالقرب منها، تحاول ألّا تختلط بأحد وألا تقترب، وتهرب في حال اقتراب أحدهم فوراً، تتعكز على قدم بينما بقية قدمها الأخرى تطير في الهواء شبه مقطوعة، وقد تحولت مع الوقت إلى عضو زائد لا يفيدها بشيء.
قلّما تتحرك "سمسم" من تحت سيارة الإسعاف، إلا إذا ترك المسعفون وراءهم بعض الطعام، فقدت هذه القطة الجميلة قدمها في قصف على مدينة رفح، وهي الآن تتعلم العرج، مثلها مثل غيرها.
جاءت "سمسم" بعد إصابة قدمها في إحدى الغارات الإسرائيلية على مدينة رفح جنوب قطاع غزّة، قد تكون جاءت بقدم كاملة مليئة بالنزيف والوجع، جاءت تجرّ قدماً خلفها وتحاول أن تعوّد نفسها على المشي متخلية عن شيء ما منها، إلّا أن فكرة التخلي نفسها كانت غير واردة حتى في خيالها. أصيبت هذه القطة التي كانت تقفز فوق أسوار البيوت في قدمها، وصارت مليئة بالخوف والحذر، الخوف من أن تخرج من أسفل السيارة فتجد شظايا جديدة تأخذ ما تبقى منها، الخوف من اختفاء سيارة الإسعاف والبحث عن مكانٍ جديد لها.
سنوي
أمّا أكثر القطط حظًا، فهو "سنوي"، ضاع بعد أن استشهد صديقه يامن بصاروخ إسرائيلي مليء بالانتقام، أخذ يبحث عن ملجأ جديد بعد فقدان الملجأ الذي تركه، فوجد كل الملاجئ سواء، عاد إلى المنزل الذي قصف فوق صاحبه بعد أيام، وقف فوق الركام يموء ويبحث عن رائحة صديقه الذي بقي تحت الأنقاض حتى اليوم، بحث "سنوي" كثيراً عن يامن لكن دون جدوى، نام فوق الركام، فجاء من يبحث عنه، أن يجد القط من يبحث عنه في هذه الحرب فهذا أكثر ما تستغربه، مثلما من الغرابة أن أكتب هذه المادة في وجود كل القصص التي تكبر يوماً بعد الآخر، القصص التي صارت مركبة ومرعبة إلى حد لا نستوعبه، خاصة في حربٍ كلها موت وجوع
عاد "سنوي" القط الأبيض الحريري إلى بيته المدمّر، حيث كان صاحبه يامن الذي استشهد في القصف لا زال هناك تحت الركام، ظلّ يموء ويبحث عنه لأيام دون جدوى، لكن العائلة التي عادت للمكان وجدته هناك، وحين غادروا غزة أخذوه معهم... يمكن القول إنه أكثر القطط حظاً
وجدت العائلة "سنوي" على الركام نائماً، قط أبيض حريري ممتلئ بالرماد، لونه يتحول إلى السواد مع الانفجارات من حوله والركض في الشوارع، أخذوه ونظفوه جيداً وانتظروا قليلًا حتى نسقوا له ليخرج من هذه المدينة، المدينة التي مات فيها صاحبه، وكاد أن يفقد هو أيضاً حياته فيها، سافر "سنوي" إلى مكان أكثر أمانًا، سافر إلى دولة مجاورة، وسافر يامن إلى السماء، وبقينا كلنا وكل القطط الأخرى تحت الموت الذي يكبر مع الوقت.
رمّانة
"رمانة"، هي الرفيقة المميزة لمحمود (19 عاماً)، عاشت معه كل دقائق الحرب، نزحت في البداية إلى مدرسة شادية أبو غزالة، وعاشت في الصف ذاته مع محمود صديقها ومع أسرته، ثم عندما صارت الفالوجا منطقة عسكرية خطرة، وطلب الاحتلال من النازحين في مدارسها النزوح منها، وضع محمود رمانة في حقيبتها الخاصة وأخذها إلى مدرسة في منطقة الزرقا، وكان يشتري الطعام لها مثلما يشتري له، علب الإكسترا والتونة، وعندما ينتهي الطعام يأخذ من طعامه لها.
قبل الهدنة بدقائق، كان الاحتلال كعادته يمارس جنونه بالقذائف العشوائية التي تمطر على المدينة، والتي تقتل أي شيء، فركض محمود وأسرته من المدرسة في خضم هذا الرعب هرباً من الموت ونسوا رمانة، في اليوم التالي اختفى محمود، وبعد قلق العائلة، وجدوه عائدًا حاملًا رمانة، التي كانت تنام فوق فراشهم في انتظارهم.
نزحت "رمانة" مع محمود إلى مدرسة شادية أبو غزالة، ومنها إلى منطقة الزرقا، وحين قصف المكان هربت العائلة ونسوا القطة وراءهم، لكن محمود عاد في اليوم التالي ووجدها، حيث نزحت معهم مرة أخرى إلى مدرسة العائلة المقدسة التي تعرضت أيضاً للقصف، خلال الهروب... مات محمود ورمانة سوياً، وبنفس القذيفة
لم تنته رحلة محمود مع رمانة هنا، بل انتهت فترة الهدنة وبدأت فترة نزوح جديدة. غادروا جميعاً إلى مدرسة العائلة المقدسة، وكان هذا النزوح الأقسى، نزوحاً مدموجاً بالدم، في تاريخ 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023 كانت العائلة تحاول الخروج من المدرسة هرباً من القذائف والرصاص المحيط، أخذ محمود رمانة، وأخته وبناتها وجارات النزوح، لكن على باب المدرسة أصابهم صاروخ زنانة، متبوعاً بقذائف دبابة وبعض الرصاص حي، أصيبت أخته، وأصيبت جارتها ببتر في القدم، ماتت رمانة مع محمود وهي بين يديه في نفس اليوم.
سيلفر
أمّا أنا فأعتذر جداً من "سيلفر" لأنني تركته هناك.
تركت "سيلفر" خلفي حين نزحت، لم يكن لدي أي خيار... سمعت مؤخراً من أهلي أنه صار قط شوارع بامتياز، يعافر ليجد طعامه، مثلنا تماماً.
تركته وجئت بشتاتي وحدي، كان قطي المفضل، نوعه هملايا بلور، لونه أبيض وأنف أسود وأذنان رماديتان وذيل رمادي أيضاً. يجلس على كتفي اليسرى دائماً وينام فوق رأسي أو بجانبي، كثيراً خفت أن يموت دون أن أنتبه، ولكن في النهاية تركته في الشمال مع أخي الصغير وخرجت خائفة من الحواجز والموت المليء في هذه المدينة.
تركته كباقي القطط التي تُركت وحيدة لأن أشخاص يخافون من وجود هذه الكائنات اللطيفة، لم يكن لدي أي خيار.. سيلفر يكبر الآن، سمعت أخيراً من أهلي في الشمال أنه صار قط شوارع بامتياز، يعافر ليجد طعامه، مثلنا كلنا، نعافر لنسند طولنا بأي لقمة. نحاول أن نقف مع الوقت على أقدامنا لكننا نسقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت