لم أكن مستعداً تماماً. أقلّهُ على الصعيد النفسي، لسماع هذا الصوت المدوّي. كنت أقضي روتيني الصباحي؛ أستيقظ باكراً، أغسل وجهي، أقرر ألا أدخّن "على الريق"، وأنني أريد بعضاً من المناقيش أولاً. لعلّ شوقي إلى السجائر يزداد قليلاً أو يخفّ، لا أعلم.
توجّهت نحو فرن المناقيش الملاصق تقريباً للمبنى الذي أسكن فيه. هناك وعلى الجانب الآخر من الطريق. كان علي اللبناني، وأحمد السوري، يتناقشان حول ما إذا كان الفطور الذي سيحضرانه مُرضياً أو لا. من خلال سماعي لما دار بينهما، استنتجت أنهما قد دعيا بعضاً من الأصدقاء ليل أمس. وشخصياً، أعتقد أنها كانت سهرةً رائعةً تحتاج بالفعل إلى فطورٍ أروع.
وقفت أمام الفرن ونطقت: "مرحباً مصطفى، بدّي منقوشة زعتر مع خضرة، وزد لي شوية بندورة الله يخليك"، لأنني ضمنياً أعرف نوع الزعتر الذي يستخدمه مصطفى؛ مالحٌ للغاية يحتاج إلى البندورة.
وصلت المنقوشة خاصتي. أخذتها بكيسٍ بلاستيكي مستعمَل، وأنا لا أدقق في سياسة "الباكيجنغ" التي يتّبعها فرن المناقيش. فهو معصومٌ عن هذا. ومشيتُ عائداً إلى المنزل. وما هي سوى لحظات حتى دوّى صوت خرق جدار الصوت في المكان. كل شيءٍ اهتزَّ مرةً واحدةً
وانتظرت. وأنا أتحرّق شوقاً إلى أمرين؛ الأول هو السيجارة بعد الفطور، والثاني أن أعلم كيف كانت طبيعة سهرة علي وأحمد.
رؤوس أقلام، هي ما حصلت عليه. علي يبدو له أن الحرب قادمةٌ لا محالة. كيف لا ومعلّمه في العمل -هكذا يفضّل أن يسمّيه- قد قال وأكد هذا، خاصةً بعد أن جلس برفقته هو وبعض الشبان الذين نطقَ بعددٍ من أسمائهم، وراحوا يستمعون إلى تحليل المعلم لخطابات السياسيين التي صدحت وضجت في الآونة الأخيرة. مع العلم بأنني أعلم يقيناً أن تلك الخطابات لم تكن ذات طابعٍ حادٍ بالشكل المتوقع. ولكن هكذا قرر المعلم.
عن طريق هذا الحديث الذي دار بينهما حول وجوب الحرب المحتملة، أيقنت أن محور سهرة البارحة كان هذا الحديث. حديث الحرب. وبالطبع هناك القصص التي تأتي وتذهب بشكلٍ جانبي عن سيناريوهات ما سيجري خلال وقوعها. هل ستكون كحرب تموز؟ هل ستتحول إلى حربٍ أهلية؟ ما هي احتمالات تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين سوريا ولبنان؟ هل ستتدخل أطرافٌ عسكرية بشكلٍ عمليّ على أرض الواقع؟
أعتقد أن عليّاً وأحمد قد توصّلا إلى تلك الإجابات كلها. أما أنا فلا، ليس بعد. وليس قبل أن أدخّن سيجارتي التي تنتظرني وأنتظرها بحُرقة.
وصلت المنقوشة خاصتي. أخذتها بكيسٍ بلاستيكي مستعمل. وأنا لا أدقق في سياسة "الباكيجنغ" التي يتّبعها فرن المناقيش. فهو معصومٌ عن هذا. ومشيتُ عائداً إلى المنزل. وما هي سوى لحظات حتى دوّى صوت خرق جدار الصوت في المكان. كل شيءٍ اهتزَّ مرةً واحدةً.
وهنا أقول كل شيءٍ بالمعنى الحرفي؛ المباني… الشبابيك… فرن المناقيش… علي وأحمد... وأصدقاؤهما… وأنا. توقفت السيارات في الشارع. الجميع شَخَصَ بصره نحوَ السماء. هل هذا قصف؟ هل بدأت الحرب؟ هل كل تلك السيناريوهات التي طُرحت في سهرة عليّ وأحمد ستتحقق؟ لا أدري.
دخلت الصالون، وضعت منقوشتي على الطاولة وجلست، وإذ بجدار الصوت يدوّي مرةً أخرى. اتصل بي أخي ليطمئنّ عليّ. وأنا تواصلت مع كثيرين لمعرفة ما يحدث وما إذا كان قد أصيب أحدٌ بشيءٍ ما.
كانت تصرخ: "مين معك؟… صوت مين حدّك؟". من نتاج الحديث وما سمعته أيقنت أنها لا تصدّقه وتريده أن يحضُر فوراً. وبعد قليلٍ ستشكر جدار الصوت هذا الذي كشف لها الحقيقة كاملةً. هنا حرب ناديا وحبيبها السابق الحالي والصهاينة باتت شخصيةً للغاية
ساعةٌ من الزمن مضت على الصوت وخرقه. حتى سمعت خرقاً آخر من نوعٍ آخر. ناديا (اسمٌ مستعار) كانت على ما يبدو تقفُ على مرآتها. تضيف جمالاً على جمالها. الشغف يكاد يقتلها. وجميع من في الحي يعرف ناديا. وماذا ستفعل إن رأى شخصٌ ما هيئتها وهي خارجةٌ من المنزل.
تريد مقابلته. حبيبها السابق الحالي غير الخاضع لشروط الزمان والمكان. لناديا قصةٌ أخرى سأعرفها عما قريب.
لكن شيئاً ما قد حصل. لقد خرق جدار الصوت! وهذا أمرٌ ليس اعتيادياً حتى اللحظة! وعلى ما يبدو أنها تواصلت مع حبيبها السابق الحالي لتطمئن عليه ولكنها سمعت شيئاً غريباً.
كانت تصرخ: "مين معك؟… صوت مين حدّك؟". من نتاج الحديث وما سمعته أيقنت أنها لا تصدقه وتريده أن يحضُر فوراً. وبعد قليلٍ ستشكر جدار الصوت هذا الذي كشف لها الحقيقة كاملةً. هنا حرب ناديا وحبيبها السابق الحالي والصهاينة باتت شخصيةً للغاية.
أستطيع أن أقول إن حبيب ناديا قد ارتعب مرّتين؛ الأولى من خرق جدار الصوت. والثانية من خسارة ناديا. وهو الآن قد يكون من أكثر الأشخاص الذين يحقدون على الحرب النفسية التي تحدث.
"كتير طيبة هالمنقوشة"؛ قلت في نفسي. يجب عليَّ أن أطلب منها كل يوم!
شخصياً، أنهيت المنقوشة الجميلة التي كانت محور حياتي في تلك اللحظات المحورية، ولففت سيجارتي وانتظرت قليلاً. نظرت في تلك السيجارة دون أي هدف. لمدةٍ تجاوزت ثلاث دقائق. اعتقدت للحظةٍ أنني أريد أن أخبرها بشيءٍ ما. لكنني لم أقوَ على الكلام.
قمت من مكاني. وفتحت درج الأدوية. ثم أمسكت بعلبة الباروكسيتين. وهو مضاد الاكتئاب والقلق والهلع. ويمكن استخدامه في حالات اضطرابِ ما بعد الصدمة.
مع العلم بأن موعد تناول الحبّة على بُعد أربع ساعاتٍ من تلك اللحظة، إلا أنني قررت أن أضع علبة الدواء بجانبي، لأشعر بأنها موجودة، وبأنني إذا خفت أو هلعت سيكون الدواء بجانبي.
أشعلت السيجارة. ومع كل سيجارة هناك شرودٌ من نوع ما! وهنا يأتي السؤال ليلاقيني ونتحدث. وهو: ما الجدوى؟
أجبته بكل صراحة: الجدوى من الحياة؟ تقصد هذا؟ قال لا. ما الجدوى من الحرب النفسية التي يحاول الصهاينة أن يشنّوها علينا؟
وأردف قائلاً: هل تعتقد أن هناك حاجةً فعليةً إلى هذا النوع من الحرب؛ التمهيد النفسي للقلق والرعب الذي سيأتي.
أجبت بنعم. هذه إستراتيجيةٌ مُتّبعة. هل تعلم أن العروض العسكرية في الاحتفالات هي نوعٌ من أنواع الحرب النفسية، حرب استعراض القِوى؟ وأيضاً حرب العرض والطلب كتجارةٍ مربحة جداً للدول المصدرة؟
وأن جُلَّ ما يريد فعله الصهاينة اليوم من حربهم النفسية، سواء في الإعلام أو عن طريق خرق جدار الصوت، هو إحباط عزيمتنا وتضمين الخوف في حياتنا اليومية، وجعلنا مرتبكين كل الوقت لتكون لهم اليد العليا؟
ثم صمتت قليلاً. نظرتُ إلى علبة الباروكسيتين التي باتت صديقتي المفضّلة منذ ما قبل حتى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت. بقيت صامتاً حتى اللحظة. واستنتجت أن جوابي كان ساذجاً للغاية.
ثم أتى السؤال الثاني: كم جدار صوتٍ خُرق في نفسك؟
لم أٌجب وما زلت صامتاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع