أوقف أطفالٌ جريهم في نهاية منحدر، حين رأوا كلباً أليفاً يركض هارباً دون أن يلاحقه أحد، ثم سمعوا صوتاً صاخباً، فرفعوا رقابهم: عبرتْ طائرة غيمة فظهر ذيلُها ثم عبرت أخرى فبدت أجنحتها، واصطاد أحدهم رفيقاً له حين وجد أمامه حجراً معقوفاً فرسم دائرةً حوله، ليستسلم مقرفصاً في مركزها كأسير، فانتفض الآخرون من سكونهم، وبدأوا بالرقص حول الدائرة.
قال أحدهم: ستقصف الدائرة، أنا الذي حدّد هدفها.
قال آخر: لا، إنها طائرة ركاب.
ردّ أكبرهم سنّاً: هذه للشحن. إنها بيضاء قال لي أبي. طائرة الشحن بيضاء.
قفز الأطفال إلى الدائرة، وأحنوا رؤوسهم، حين سمعوا صوت استهدافها مكاناً ما. سأل الطفل في مركز الدائرة: كيف يحتمل الله هذه الأصوات؟
لفتني حوار هؤلاء الأطفال أكثر من انتباهي إلى أصوات السماء برغم حدّتها. أعدتُ طرح السؤال على نفسي: ما هو الصوت؟ ما حدود معرفتنا به؟
ثمّة فارق كبير بين طفولتنا وطفولة هؤلاء. في طفولتي، كان صوت الأستاذ أكثر صوت أرهبني، ثم اقتصر الأمر على أستاذ مادة الفتوّة، ثم كان صوت ضابط الدورة في خدمة الجيش. هؤلاء جميعاً كانوا يستخدمون النبرة ذاتها. وفي أحيان كثيرة تكون متوافقة الإهانات اللفظية: "ولك يا حيوان يا جحش ليش...".
هؤلاء الأطفال ليسوا محظوظين في اعتيادهم صوت الطائرات في صغرهم. أتذكر كم كنتُ متلهّفاً إلى رؤية الطائرات! كنا نسمع أصواتها أيام الربيع، حين ترش المبيدات الحشرية على الحقول الزراعية، فتسقط بعض العصافير فاقدةً توازنها متأثرةً برائحة المبيدات القوية ويسهل اصطيادها. وفي موقف واحد فقط، شهدنا الجانب المخيف من صوت الطائرة؛ ذات يوم من أيام حرب الخليج سنة 1991، وبينما كنا نتابع مباراة كرة قدم في بطولة شعبية، انتابنا على حين غرّة نحن الجمهور ولاعبي الفريقين، هلعٌ شديد حين اخترقت طائرة جدار الصوت. هربنا بسرعة. لم نوقف ركضنا حتى وصلنا إلى البيت. كنّا نسمع أن الطائرات في العراق تقصف الناس بعشوائية. الآن أهدافها دقيقة. تصيب مبنى دون أن تمسّ مبنى مجاوراً له بأيّ ضرر. لكن الفارق أن هذه الحرب تدوم وهي الأسوأ، فأنت في انتظار الموت، ولن تسمع صوتاً حينها. الصوت يأتي متأخراً. فحين تستهدفك قذيفة أو صاروخ تكون قد فارقت الحياة قُبيل أن يسمع الآخرون صوتها.
بحسب الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو، ليس بالضرورة أن يصل المعنى من خلال الكلمة. الإشارة يمكن أن توصل المعنى. في حالة الرجل الأخرس، المعنى أو الخبر الذي يصلنا منه بالإشارة هو أكثر قابليةً للصدق، وأكثر تأثيراً في المشاعر، وأكثر قدرةً على جذب الانتباه والتركيز. إنه يجعلنا نتفاعل بجسدنا وحواسنا مع الحدث قبل الوصول إلى المعنى، فنكون نحن جزءاً من المعنى
ما معنى الصوت حين نفقد سمعنا؟
أعرف رجلاً أخرس، يعيش حياةً طبيعيةً، ويتواصل مع الجميع بلغة الإشارة، ويحب المزاح والمرح، ويضحك بصوت خفيف، ولا يصدر صوتاً سوى في المشاعر الصاخبة مثل الضحك والبكاء. لكنّي لم أعتده حزيناً. رأيته يغضب مرةً واحدةً فقط حين استهزأ به أحدهم وتحدّث عن طفولته بلغة الإشارة. كاد أن يتكلّم حين استفزّه ما قاله شريك طفولته، بأنه في صغره كان حافياً على الدوام ويلبس قطعة ثياب واحدةً لا يغيّرها في السنة سوى مرة واحدة.
يمتاز ذلك الأخرس بالذكاء الحاد. يعرفه الآلاف على امتداد المنطقة الممتدة بين مدينتي المالكية والقامشلي في شمال شرق سوريا، نتيجة عمله منذ عشرات السنين في تقديم القهوة للمعزّين بوفاة أحدهم، ويستدلّ على أحدهم بوسمه بعلامة ما، حتى أنه يتحدث عن السياسة ويشير إلى السياسيين بعلامة ما في جسدهم، فيشير إلى مسعود بارزاني بالوشم على محياه، ويشير إلى المسؤولين بوضع يده على كتفه كنايةً عن رتبتهم.
ليس هذا فحسب، بل إنه يشير إلى الصفات أيضاً، فيصف أحدهم بالكذب حين يشير بيده إلى سيلان يجري من تحت إبطه، بمعنى أن ما يقوله ليس حقيقةً، وهو أخرج الكلام من جوفه.
بحسب الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو، ليس بالضرورة أن يصل المعنى من خلال الكلمة. الإشارة يمكن أن توصل المعنى. في حالة الرجل الأخرس، المعنى أو الخبر الذي يصلنا منه بالإشارة هو أكثر قابليةً للصدق، وأكثر تأثيراً في المشاعر، وأكثر قدرةً على جذب الانتباه والتركيز. إنه يجعلنا نتفاعل بجسدنا وحواسنا مع الحدث قبل الوصول إلى المعنى، فنكون نحن جزءاً من المعنى.
أحياناً، حين كنتُ أتحدث مع الرجل الأخرس في مجالس العزاء، كان يسألني في بعض الأمور فأجيبه وأجتهد لأوصل إليه المعنى من خلال الإشارة، فينضم آخرون أكثر خبرةً مني في التواصل معه، لا سيما من المقرّبين منه، ويعاونونني، والملاحظ حينها في أثناء التفاعل أن الصوت كان يضيع. فحينما كنت أحادثه، كنت لا أنتبه إلى صوت أحدهم وهو يكلمني، ويحدث هذا مع آخرين أيضاً. ربّما هذه إحدى المعارك التي يخسر فيها الصوت معنى وجوده.
علاقة الكردي مع الصوت، ربّما تتعلق بطبيعة حياته التي كانت قائمةً لقرون على الحل والترحال ومواجهة الطبيعة وعواملها، لا سيما راعي الماشية الذي يقضي نهاره بأكمله وحيداً في البراري، يتواصل مع قطيع ماشيته فقط، وهذا التواصل يكون من خلال أصوات يستخدمها ويسوق بها الماشية
الصوت صراخ الأكراد الرحّل وتراثهم
أن ينتصر رجلٌ أخرس في مجتمع ريفي، لا سيما في المجتمع الكردي في سوريا، فذلك هو التحدي الأصعب. ثمة علاقة تاريخية لذلك المجتمع بالصوت، علاقة متداخلة في ثقافة وسيكولوجية ذلك المجتمع، فالتراث الثقافي لهذا المجتمع مرتبط بالصوت. الكرد وثّقوا أدبهم وتراثهم الثقافي والمجتمعي عبر الصوت، فحوّلوا كلّ الأحداث التي مرّت بهم إلى حكايات مغناة، تداولتها الأجيال شفاهةً عبر مئات السنوات، والتعبير الكردي للحكاية المغنّاة هو "ده نك بيجي"، وكلمة "ده نك" في الكردية تعني الصوت، أما القسم الثاني فهو القول. فالصوت هو الغناء مجازاً، ولكن هل من يطلق صوته بطلقه دائماً للغناء؟ هل يعني أنّ الغناء كان منتشراً إلى هذه الدرجة؟ ربما يكون ذلك صحيحاً بالنظر إلى الإرث الكبير للغناء والموسيقى الكردية، وتأثيره على الشعوب المجاورة، وتقدم الأكراد عليهم تاريخياً في هذا المجال.
في تعبير آخر عن الصوت، يستخدم الكرد في مجالسهم مفردة الصراخ "قير". حين يدعو أحدهم آخر للغناء، يقول له: "اصرخ"، وهذه كان لها بعدان نفسيان، الأول يتعلق بالتعبير عن الذات والهوية ببث الروح في الحدث الميت المنقضي، والثاني يتعلق بطبيعة المحاورة لدى المجتمع الكردي حيث كانت تتم بطريقة إنشاد الحكاية.
علاقة الكردي مع الصوت، ربّما تتعلق بطبيعة حياته التي كانت قائمةً لقرون على الحل والترحال ومواجهة الطبيعة وعواملها، لا سيما راعي الماشية الذي يقضي نهاره بأكمله وحيداً في البراري، يتواصل مع قطيع ماشيته فقط، وهذا التواصل يكون من خلال أصوات يستخدمها ويسوق بها الماشية نحو الماء، أو لتغيير الوجهة أو إيقافها في مكانها أو غير ذلك، وفي أحيان قليلة يتواصل مع رعيان قريبين منه مسافةً فيكون التواصل بالصوت أيضاً، بصوت عالٍ، وهذه الجزئية إحدى أهم مفردات الكردي في حاجته إلى التواصل وتكون باستخدام الصوت والصراخ الذي تحول مع مرور الزمن إلى الإنشاد بغية إيصال رسالة ما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.