شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عناق أخير لأمي، وجدّي ما زال شاهداً على الإبادة بين شجر الزيتون

عناق أخير لأمي، وجدّي ما زال شاهداً على الإبادة بين شجر الزيتون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 12 أغسطس 202410:58 ص

في العادة، أجالس الآخرين من أفراد عائلتي، ومن بينهم أمي، لوقت قصير لا يحتسب أحياناً، ومن ثم أنسحب من دون استئذان، لأنني أعلم بأن والدتي سترفض عودتي إلى تلك الغرفة لتطالبني بالبقاء إلى جانبها، حيث الهواء الذي يسرّها مع اختناق أحوالنا هذه الأيام.

أمي التي تنتظر موعد الغروب أمام شجرة زيتون والدها، فلا تملّ التغزّل بيديه المجعّدتين التي تكبّدت عناء عمر بأكمله في غرس تلك الأشجار. أسرح مع أمي قليلاً، وأتساءل من أين لها كل هذه القدرة على التذكّر؟ من أين لها كل هذا الجلد على سرد قصص جدي من دون حذف أي تفصيل بسيط، كالتواء عاموده الفقري عند شجرة الزيتون؟ تغيب أمي عن الشرفة وتعاود القدوم إليها بلهفة الساقي، وكأنها تشكّل مع تلك القصص مياهاً عذبة تروي جذوع الزيتون.

عندما تتكلّم أمي عن الأرض، تحجب أعينها عني. تأخذها نحو ماضيها المليء بغياب والدها عن المنزل. أعلم بغيابه الدائم، فهي تحدثني عن واقع جدي الذي ألفته منذ طفولتي، فأنا أعلم أين أجده حين أفتقده، ولهذا السبب وجدت عند الشرفة أشجاراً من الزيتون. نعم، ها هو عند كل شجرة يثمر بكرم ولا يكتفي. يتجوّل بين رزقه ويبدأ بالعدّ، فالمساحة ضيّقة بين جذع وآخر، وهو استنجد بهذه الأرض وطاوعها كي لا تبقى فارغة بلا عطاء.

تعاتبني أمي دائماً: "كيف لك أن تتركيني وحدي في الخارج؟". لا أستطيع مجاملتها، فكنت على عكسها أحاول الابتعاد عن ذاكرتي، أي ذاكرتها التي تهدّد عزلتي في الغرفة بعيداً عن قصص الأرض وكدح جدي أمام أشجاره المزهرة عند كل موسم. كنت أحاول دائماً أن أترك لها هذا الواجب وهو "حب الأرض"، كي لا أكترث لاحقاً برحيلي عنها. كنت أعاكسها عند امتثالها أمام عقبة التنحّي عن الأرض، لأنني أخاف من التعلّق والارتباط، أخاف من هذا الوضوح في الانتماء. أخاف يا أمي عليّ من خسارة يدي جدي، فلا يبقى لك عند تلك الشرفة كرسيّك، فيكون مصيرك مشابهاً لي، مصير غرفةٍ معزولة لا تطلّ عليها أوراق شجر الزيتون.

أخاف يا أمي عليّ من خسارة يدي جدي، فلا يبقى لك عند تلك الشرفة كرسيّك، فيكون مصيرك مشابهاً لي، مصير غرفة معزولة لا تطلّ عليها أوراق شجر الزيتون

جاءت أمي اليوم باكية، تتكلّم عن صوت تحليق العدو فوق يدي جدي، أنظر إليها، فألقاها طفلاً صغيراً يحوي كل دمار العالم فيحاول تسلّق إحدى تلك الأشجار، لا بهدف العبور نحو ذاكرة خلت من مشاهد الإبادة والجثث، بل ليحتمي بين أغصانها ويدندن لحربه قصصاً عن الحب والأرض. هذا الحب بين يدي جدّي التي فاقمت عبر أجيال أحفاده ثماراً تشبه تلك البنادق في مواجهة العدو.

استكملت أمي بكاءها، إلا أنني في هذه المرة لم أنسحب. تسمّرت مكاني خائفة، ليس من الأرض بل من تحليق العدو فوق دموع أمي. أحاول الاقتراب منها إلا أن صوت هذا التحليق تتسارع وتيرته، وإذ بأمي تلتقط واحداً من أغصان الزيتون، وتقرأ من القرآن ما يبعد السوء عنا. نظرت إلى وجهها المنهك من البكاء وتساءلت: هل يمكن للعدو أن يطال روايات أمي؟ هل يمكن للعدو أن يصيب هذه الشرفة فيقتل أمي وحيدة بينما أنا في غرفتي؟

ارتعش قلبي وأردت ملامسة أوراق زيتوننا كما فعلت هي، إلا أنني لم أستطع مكافأة يدي جدي بالامتنان عند لحظات القلق هذه، فأنا هشّة، أتساقط أسرع من تساقط تلك الأوراق.

في طفولتي، كان للتهجير معنى مختلف. أنتظر أخي لأمسك بيده ونخرج معاً من الدار قبل أن يصطادها العدو. أطلب من أمي أن توضّب لي ألعابي فقط، وأخي، من كان يكبرني بشجاعته في المحن، يعلم بأنني لن أصمد في الخارج من دونها، فيأتي لي بدميتي المفضلة ليحفّزني على الإسراع في الهرب من صواريخ العدو. كان، وكأنه عند وقوفه إلى جانبي مع دميتي، يطمئنني بأننا لو متنا سنكون إلى جانب بعضنا. كان يمسك بدميتي ويدي معاً، ويحاول أن يلحق بأمي كي لا نموت متفرّقين.

جدي كان يعلم أنه لا يستطيع تحرير يديه من أرضه، لذلك غرسها بقوّة قادر بين زيتونها، وبقي فيها كي لا يلقى مصرعه وحيداً كأخي. جدي لا يريد مصير حفيده، فالموت بعيداً عن حبّك شفقة لا يتمنّاها أحد

جدّي كأخي، لم يفترق عن حبّه في جميع الحروب. أخي حاول التمسّك بحبه إلا أنها كانت محاولة فلم يحالفه القدر بعد ذلك، ليموت بعيداً بمسافة طويلة لا تتشابك فيها الأيدي، فكان قد أفلت يدي ونسي دميتي وتخلّى عن ملاحقة أمي. أما جدي فكان يعلم أنه لا يستطيع تحرير يديه من أرضه، لذلك غرسها بقوّة قادر بين زيتونها، وبقي فيها كي لا يلقى مصرعه وحيداً كأخي. جدي لا يريد مصير حفيده، فالموت بعيداً عن حبّك شفقة لا يتمنّاها أحد.

في حرب تموز لم يغادر جدي قريته. في إحدى الليالي قصفت إسرائيل بالقرب من منزلنا. استفاق مسرعاً نحو نافذته، ليضمن بأن هذا الصاروخ الذي عكّر صفو غفوته لم يسقط بالقرب من شجر الزيتون. هو جدي الذي عاند النزوح مع عائلته، فبقي عند الشرفة أمام أرضه يحرسها بيديه. يدا جدّي أقرب إلى يدي أمي، تآلفت مع من تحب. كل منهما نحت يديه هناك إلى جانب من يستحق حبّه، وثبّتها بعزيمة من يواجه عدوّه من مسافة صفر.

أمي ستبقى حيث شرفتها تقابل الأرض، وجدي سيكمل مشواره من زيتونة إلى أخرى، يلامسها ويتمسّك بها حتى آخر صاروخ لدى العدو. أما أنا فسألتصق بجسد أميـ وسأكون أقرب الى يدها كي لا يفرّقنا الموت. هذه الحرب حرّرتني من غرفتي المظلمة في عزلتها، سأجلس حيث تشاء أمي وحين أراها تبكي من الخوف، سأمسك بيدها لكي يبقى الحب وحده معانقاً آخر خسائر صواريخ العدو.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard