حيّرتني رواية "هُوّارية". في الأجواء المتوترة المحيطة بالرواية، وبفوزها بجائزة آسيا جبار، يصير من الترف تناول البناء الفني، ووضع الرواية في سياق المشهد الروائي الجزائري والعربي.
تتعرض الرواية لحرب أشعلها مصابون بالإعاقة الجمالية، يحرّمون الأدب، ويجرّمونه، وبالغواية أغروا ضحايا الفقر ممن تنحاز إليهم الرواية. ودخل المعركة، على استحياء وربما بلؤم، منافسون مجايلون يستكثرون الجائزة على إنعام بيوض، فيدافعون عن الحرية بالطعن في جودة الرواية، والإشارة إلى عدم استحقاق الجائزة. وبعد حين، سوف تُنسى الجائزة، ويموت الجيل المنكوب بالتدين الشكلي، أو بالغيرة الأدبية، وتبقى الرواية والفنون عموما توثيقاً جمالياً لمدينة وهران التي "لا تفتأ تخترع من العدم مفردات مبتكرة للبهجة وتنشرها".
اجترأت إنعام بيوض في رواية "هُوّارية" على مساءلة تحولات المدينة خلال العشرية السوداء (1990 ـ 2000). وليس في الخيال الروائي مساس بالأخلاق، ولا إساءة إلى الوهرانيات
الاقتباس في ختام الفقرة السابقة جاء على لسان هُوّارية، وهو معنى أعمق من وعيها العمومي، ودراستها المحدودة، لكنها ستقول كلاما آخر أكبر من محصولها الثقافي، وهذا مأخذ فني يعيب رواية يكاد خطاب أشخاصها يكون أحادياً، لعله صوت المؤلفة، على الرغم من اختلاف ثقافاتهم وخبراتهم الحيوية، وتباين مستوياتهم التعليمية. فالطبيب هاشمي يحيط بتاريخ وهران، وصديقه الجرّاح مراد ألف كتاباً لم ينشر تحت عنوان "الوجه المضي للإسلام"، وهاني يقرأ لأعلام المتصوفة وقصائد لويس أراغون وغيره من الفرنسيين، والخالة بختة تحفظ الشعر الملحون، وهبة شغوف بالأنثروبولوجيا. أما هُوارية، محدودة الذكاء والمعرفة، فيفيض خطابها حكمة أودعتها المؤلفة على لسانها، في رواية يحيّرني المدخل إليها.
الغيرة والحسد كمدخل أول: صدرت الرواية عام 2023، ويفترض أن أول قراء العمل الفني هم المشتغلون بهذا النوع الكتابي، إبداعاً ونقداً. ربما قرأوا وتعالوا على الرواية والروائية، ولعلهم أهملوا ولم يقرأوا، ولا أستبعد وجود شارد، واحد فقط، قرأ الرواية مصادفة والتزم السكوت، هل قرأ وكلم غيره؛ فتمنوا أن تمرّ الرواية في صمت؟ كان يمكن أن يكون مصيرها الصمت، ولا تشعر بها إلا دائرة محدودة، لولا فوزها بجائزة آسيا جبار للرواية في حزيران/يونيو 2024. فلماذا اقترن اللمز الثقافي بالجائزة؟ لا يخلو الأمر من غيرة، ومشاركة سلبية في اغتيال معنوي للكاتبة والناشرة آسيا علي موسى، وأغاظهم نأيها عن الحريق، وإغلاق دار "ميم".
الجهل والرعونة والحسد كمدخل ثانٍ: لحرّاس العقيدة، ولأدعياء الفضيلة ممن تفضح الرواية ازدواجية سلوكهم، ولمنافقي الرأي العام الضائق بالفساد والبطالة فيجد ضالته في التديّن الشكلي، التدين لا الإيمان الذي محلّه القلب، لهؤلاء جميعاً أدلاء، من مثقفين متوسطي الموهبة، غير متحققين إلا في الوشاية بالمتفوقين. ألم يسارع أيٌّ من كارهي البشر، محدودي القيمة، إلى إخبار حاملي أختام الأخلاق بأن رواية عنوانها "هُوّارية" تسيء إلى مدينة وهران؟ فلماذا تجاهلوا الرواية أكثر من ستة أشهر؟ تأخر النفير حتى الفوز بالجائزة، فرفعوا راية "المساس بأخلاق ودين المجتمع الجزائري". سلوك يدل على حسد دفين، والحرب في ظاهرها الحرص على الأخلاق، وفي باطنها النيل من الجائزة.
التنطع وعدم التعلّم من التجارب كمدخل ثالث: نُشرت رواية "أورد حارتنا" مسلسلة في الأهرام عام 1959، وبسبب تقرير كتبه كل من محمد الغزالي والسيد سابق، وأيدهما آخرون، لم تنشر في كتاب، وظلت نسخ الرواية تأتي من بيروت إلى مصر، ولم يهتم بها المتشددون، حتى فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، وجاءت "أورد حارتنا" في تقرير لجنة الأكاديمية السويدية الخاص بحيثيات منح الجائزة، ضمن أربعة أعمال لمحفوظ، فنهض ذوو الإعاقة، كارهو الفرح، رفضاً للجائزة لا للرواية التي حشروها في عناوين كتب تفترسها: "أولاد حارتنا فيها قولان" لجلال كشك، و"كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا" لعبد الحميد كشك. هما ليسا أخوين.
الثقة بالمقدسات كمدخل رابع: لا ترتعد مجتمعات راسخة في العقلانية بإنتاج أعمال فنية تناقش ما يرونه ثوابت دينية أو وطنية. ينتفي الخوف العمومي حين يستوي "المقدس" حقيقةً تصمد للمراجعات والنقد.
في زياراتي للجزائر، رأيت كيف تحظى الثورة بإجماع وطني، وللشهداء قداسة وحرمة تليق بتضحياتهم. ويحيا الشهداء والثورة، كمعان عابرة للأجيال تتجاوز الخلاف حول مآل الثورة ومصائر الثوار، حين صارت الثورة دولة. ولا يمسّ نبلَ الثورة فيلم مثل "الوهراني"، وقد شاهدته في مهرجان أبوظبي السينمائي عام 2014، ويقدم بطله ومخرجه إلياس سالم مراجعة تعيد الثورة إلى أهلها، تنزلها من سماء القداسة إلى أرض بشر لهم نوازع آدمية، لا يكتملون إلا بنقصهم.
أدعياء الفضائل الأخلاقية والوطنية، أعداء الخيال، يتعامَون عن أسباب الانحلال، وهو الفقر والفساد.
لا أعرف سرّ مصادفة اختيار وهران ميداناً للمراجعات. يرى صاحب فيلم "الوهراني" أن الثورة شاخت مبكراً، عقب انتزاع الاستقلال، لم تنضج روحها القديمة بالقدر الكافي لمواجهة الفساد وترهل البيروقراطية، وإغراء المنافع الشخصية، فكان بعضهم أقل وفاء لدماء زملائهم، شهداء الكفاح. هذا الانتقاد يقتصر على إضاءة الضعف الإنساني، ولا يمسّ شرف الثورة، ولا يهدر معناها. وقد أغضب "الوهراني" من يبتغون للثورة صورة مقدسة، لا يشوبها سلوك فردي لن يخدش جلالها، بل يكسبها صلابة الحياة. وكذلك اجترأت إنعام بيوض في رواية "هُوّارية" على مساءلة تحولات المدينة خلال العشرية السوداء (1990 ـ 2000). وليس في الخيال الروائي مساس بالأخلاق، ولا إساءة إلى الوهرانيات.
باستثاءات نادرة، تبدأ الأسماء بحرف الهاء: هوّاري، هاشمي، هالة، هشام، هاني، هدية، هند، هجيرة، هبيرة، هاجر، هبة، هناء، هوبل، أما هُوّارية فمنذ الطفولة غير مرئية، صامتة فيحسبونها خرساء، وأمها تتجاهل اسمها، تناديها "ها"، كما تنادى البهائم. "ها وين راكي؟"، "ها وين كنتي؟"، "ها أرواحي ترفدي معايا المطرح".
في لهجة الغرب الجزائري "ها" اسم نداء للحثّ، بمعنى هيّا أو تعال. هُوّارية، التي خاب أملها في الحب، عرّافة يقصدها غير المطمئنين على المستقبل، اسمها في هواتفهم "ها"، أو "H" بالفرنسية. حرف الهاء يربط أشخاصا تتفاوت حظوظهم من خوف يترك في أرواحهم ندوبا. لا أحد يولد في الرواية، ويحضر الموت والهجرة والاغتيال والاختفاء.
الرواية مسرح لما يمكن أن يسميه دعاة الفضيلة: موبقات، خيانات، لصوصية، قوادة، تحرّش، ترويج مخدرات، اتجار في بشر يحلمون بالعبور إلى الشاطئ الأوروبي. أبرز المتمردات هدية زوجة هواري، تحرّش بها أبوها، وغارت منها أمها، وجرؤ زوج أختها هند على مدّ يده للعبث بجسدها. يكتمل مسرح المشوهين نفسياً بهواري الذي التقط لهدية صوراً وابتزها، ليجبرها على الزواج منه، ثم يصير لها "قواداً"، وتعلَم أمه فتصدم، لأنه كما تقول أخته هوارية: "يتاجر بعرضه"، وهدية تتاجر "بجسدها لحسابه". من المفارقات أن يكون "القواد" عازفاً للقيثارة، ومع التحول يضعها في الخزانة، ويقول لزوجته "الموسيقى تجيب الشياطين". انخرط في التشدد، وصار هوبل اللص هاديه وقائده.
أدعياء الفضائل الأخلاقية والوطنية، أعداء الخيال، يتعامَون عن أسباب الانحلال، وهو الفقر والفساد. في سنوات الجمر، استفادت طبقة من الأرستقراطية والتجار، وازدادت ثراء. وفي العشرية السوداء ازداد تهريب المهاجرين إلى "أي مكان بعيد عن جحيم إحباطاتهم"، كما قال هاني الحالم بالهروب من الفقر، وعدم الشعور بتكافؤ اجتماعي يؤهله للاقتران بهبة. وبعد أن قتل المتطرفون أخاه هشام، وماتت أمه كمدا، هاجر ولم يودع هبة التي تصفه بأنه "نبي بعث في غير زمانه"، وبتأثيره تواصل البحث عن مخطوط "الياقوتة"، يرجح أنه لشمس الدين التبريزي، كما شرعت في بحثها الأنثروبولوجي، رسالة التخرّج وعنوانها "زوايا الأولياء الصالحين ودورها في نشر الوسطية وروح التسامح الديني".
قلت إن هُوّارية محدودة المعرفة، ومن أسباب ضعف النص أنها تردد مقولات تنتمي إلى ثقافة لا تمتلكها، تقول إن القط "هشّوم"، الذي يحمل اسم الدلال لهشام، "يرتمي أرضاً كلما أرخى الليل سدوله"، وتدهشها "كثرة حوادث الخطف والاغتيال التي يقترفها الملتحون المهووسون بإله فتّاك".
المسكينة هُوّارية، ظلمتها المؤلفة باختيارها ضميراً ينطق برسالة الرواية، وتضعها أحياناً على لسان الراوي إذا تناول الطبيب هاشمي عضو تنظيم سري هادف إلى التغيير، إذ يجابه التنظيم خطرين: "أعوان المخابرات الذين عانى منهم الأمرّين من سجن وتعذيب، وأعوان الإله الفتاك الذين يريدون تحويل لبشر إلى آلات راكعة ساجدة". لا جسر يربط الثقافة الشفاهية لهُوّارية بالوعي السردي المحكم.
الرواية مسرح لما يمكن أن يسميه دعاة الفضيلة موبقات: خيانات، لصوصية، قوادة، تحرّش، ترويج مخدرات، اتجار في بشر يحلمون بالعبور إلى الشاطئ الأوروبي
أما هدية الجامحة، النبنة الشيطانية في بيئة عشوائية، فيستند خطابها إلى خبرة الشارع، وينطلق لسانها الحاد تلقائياً بما تفكر فيه. في سنوات الدماء، صعد التطرف الأصولي، وتراجع الحسّ الوطني. تلاحظ هدية علامات التدين على زوجها هواري، وتغيّر ما يرتديه الرجال والنساء، فتقول ساخرة: "ولم تنل تغطية الرؤوس وإطالة اللحى من شبقية الفروج". وتغار من هالة زوجة هاشمي؛ فتحاول إيذاءها بماء النار. وبعد خروجها من السجن، تصاب بالجنون. ويختفي هواري في نهاية العشرية السوداء. مصير هدية يلخصه قول هبة، بحكم دراستها لعلم الاجتماع: "كنت أشفق على تلك المسكينة لأنها لم تعرف شكلاً آخر للحرية غير الخروج عن الأعراف. لم يعلمها أحد".
قنابل الدخان يطلقها أدعياء الفضائل بحسن نية، وأحياناً بتوجيه لئيم من قوى الاستبداد؛ للتعمية على النتائج الكارثية للإرهاب، إذ يتحول المتطرف إلى آلة. يحكي هاني بعد نحر أخيه هشام: "سمعنا عن أولاد يقتلون آباءهم وأمهاتهم إرضاء لرب جبار اخترعوه، يقتات جثث الأبرياء ويرتوي بدمائهم"، لم يكتفوا بقتله، فصلوا رأسه، وخيّط الطبيب مراد الرأس إلى الجسد، ثم اغتيل، وعثروا في أوراقه على كتابه "الوجه المضيء للإسلام".
هؤلاء يتجاهلون أيضاً الآثار الجانبية للإرهاب، أولها هجرة العقول والكفاءات، وتفريغ الوطن من ضميره الحي. ليس أسوأ من إرهاب دار نشر، ودفعها إلى الإغلاق، وأثق أن الكاتبة الناشرة آسيا علي موسى ستعود أكثر ثقة وقوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 14 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...