نادرات هن الكاتبات الجزائريات اللواتي خططن سيرهن الإبداعية في حياتهن، وفي الوقت الذي يمكننا أن نستدل على حياة كتاب رجال بكتابات شخصية مختصرة أو طويلة، وحتى من خلال ما سيكتبه رفقاءهم من الكتاب، يندر أن نفعل الأمر ذاته مع الكاتبات.
نحتار في سيرة كاتبة بحجم "آسيا جبار" التي شغل قلمها ومواقفها الأوساط الفكرية والسياسية داخل الجزائر وخارجها، هي التي عدت بعد صدور عملها الأول "العطش" النسخة الجزائرية من الأهالي، لأنها صدرت في خمسينيات القرن العشرين) فرانسواز ساغان.
لا تغالي مستغانمي في رصد محطات حياتها، بل تكتفي بأن تشبع جوع القراء للتفاصيل والصدف التي خلقت هذه المحطات، وأولها دراستها باللغة العربية منذ سن مبكرة، حظوة لم تنلها الكثيرات من بنات جيلها
تعوض الأساطير والحكايا معلومات دقيقة حول هذه الكاتبة أو تلك، في غياب مصادر قاطعة ومحاولات جادة لحفظ ذاكرة هذه المبدعة أو تلك. قد يجد الأمر تفسيراً له في ندرة الكاتبات الجزائريات اللاتي تواصلن الكتابة حتى سن متقدم، الأمر الذي يطرح بدوره الكثير من الأسئلة، إضافة إلى ارتباط الحميمي من سيرة هذه الكاتبة أو تلك بفضاءاتهن الخاصة التي قد يرفض المعنيون بها أن تصل الفضاء العام، ولطالما عاث الخاص من حياة المبدعات الجزائريات بمسيراتهن الإبداعية كحال الفنانة التشكيلية الكبيرة "باية محي الدين" التي اضطرت للتوقف عن الرسم بعد أن أجبرت على الزواج، رغم تبني الشهير "بيكاسو" لها، وتشجيعه لعملها، إذ يصعب على الجزائرية إعلان العصيان على القبيلة، في الوقت الذي لا يعتبر العصيان المعلن من طرف الرجال من الكتاب عصياناً حتى. بالإضافة لضعف الإعلام الثقافي والحركية الثقافية الجزائرية التي تحتفي بالأدب الجزائري في عمومه والمؤنث منه تحديداً.
في هذا الإطار يتوجب تناول سيرة الجزائرية أحلام مستغانمي (1953) التي أصدرت منذ أسابيع (أبريل/نيسان 2023) سيرة إبداعية عنونتها بـ"أصبحت أنت" عن "دار نوفل/هاشيت أنطوان"، وبهذا تكون قد خطت أول سيرة خاصة لكاتبة جزائرية تكتب باللغة العربية.
نذرت صاحبة "ذاكرة الجسد" في عملها الأخير بعد عشر سنوات من الصيام على تاريخها الأبكر، مقيمةً موازاة بين تاريخها الشخصي وتاريخ والدها محمد الشريف مستغانمي. هكذا سيعرف القراء أن الكاتبة ولدت بتونس في عزّ ثورة التحرير الجزائرية، لأب من كبار مناضلي ثورة التحرير، سيضطلع بمسؤوليات كبيرة غداة استقلال البلد، قبل أن يعتل حاله إثر صراع الإخوة الأعداء بعد أول انقلاب في تاريخ البلاد، ويدخل مصحة نفسية.
سيرة من؟
لن نعرف بعدها إن كنا بصدد قراءة سيرة "أحلام" أم سيرة "سي الشريف" أم سيرة الجزائر المستقلة. وعوض أن تسعى الكاتبة للقتل الرمزي للأب وما يمثله من سلطة، ستحكي سيرة الرجل الأكثر تأثيراً في حياتها، وكيف أنها انتبهت بعد ثلاثين عاماً من رحيله، وستين سنة من استقلال البلاد أنها استحالت سي الشريف بأحلامه آماله، انهياراته وإنجازاته، هي التي بدأت شاعرة مثله وانتهت بأن صارت تكتب له وعنه.
نذرت صاحبة "ذاكرة الجسد" في عملها الأخير بعد عشر سنوات من الصيام على تاريخها الأبكر مقيمة موازاة بين تاريخها الشخصي وتاريخ والدها محمد الشريف مستغانمي.
لا تغالي مستغانمي في رصد محطات حياتها، بل تكتفي بأن تشبع جوع القراء للتفاصيل والصدف التي خلقت هذه المحطات، وأولها دراستها باللغة العربية منذ سن مبكرة، حظوة لم تنلها الكثيرات من بنات جيلها، إذ حولت في مرحلة مبكرة من درستها إلى أول مدرسة بنات بالعاصمة الجزائرية تدرس باللغة العربية، نقلها إليها والدها الذي عجز كأبناء جيله عن إتقان هذه اللغة، وسيبقى طوال حياته رهين منفاه اللغوي الفرنسي.
ستقع مستغانمي سريعاً في حب الشعر، هي التي قرأت أهم شعراء فرنسا، وحفظت أشعارهم لحب والدها للشعر وإتقانه كتابته بالفرنسية، لكنها ستكتب قصائدها باللغة العربية؛ اختيار سيقودها وهي طالبة الصفوف الثانوية لتقديم برنامج إذاعي يومي على أمواج الإذاعة الجزائرية، وإصدار عدة دواوين شعرية. انشغال لم يرق لوالدها الذي ستكرِّر كثيراً أنه كان ينزعج لانشغالها عن الدراسة بالعمل، دون أن يعلم أنها تعمل لتعيل أسرتها بعد أن انقطع معاشه، هو الذي منع والدتها عن جعلها نسخة مصغرة عنها، حين كانت تصرّ عليها في مساعدتها بالأعمال المنزلية.
في الحب والحرب
عن وعي أو لاوعي من الكاتبة، فسيرتها جاءت في ستينية استقلال البلاد، وثلاثينية بداية العقد الأكثر دموية في تاريخ استقلالها. وقد مستغانمي في عزّ اشتداد حرب تحريرها. لن تبخل الكاتبة في قصّ حكايات مراهقتها، وحب شبابها، بتفاصيلها الرقيقة والوردية، كما ستحكي قصص خيانات غير مكتملة ارتكبها "سي الشريف" في حق زوجته، الأم المتفانية، والتي سيتخذها مطية لتبرير انزلاقه نحو الجنون، أمام الطبيب الفرنسي الذي سيتكفل بعلاجه في المستشفى العسكري، والذي سيسعى بكل ما أوتي أن يخفي عنه أمر النزاعات بين قيادات البلد الوليد، وتصفيات الحسابات، ليعوضها بقصة حب مستحيلة بينه وبين شابة يوغوسلافية، سيكتب لها الكثير من الأشعار. قصص حب إن كانت تعبيراً عند الشابة "أحلام" عن حالة ثورة ضد الأعراف كمراهقة سوية، فهي مطية سي الشريف حتى يكابر أمام الضابط الفرنسي، ممتنعاً عن قص أسرار بلد أحلامه الأكثر سواداً.
انكسارات
لا يعلم كثر من قراء أحلام مستغانمي أنها حاصلة على دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون بإشراف من أحد أهم المستشرقين الفرنسيين، الأمر الذي تبرره بأنه لقب لا تريد أن تشيعه لما سيجعل بينها وبين قرّائها من حدود. لكن خلف اختيارها هجرة البلد لمتابعة تحصيل المزيد من العلوم هناك قصة أخرى، إذ ستحكي لنا التضييق الذي تعرضت له من طرف أساتذتها في الجامعة من ذوي الخلفيات الأيديولوجية التي تختلف معها، والذين لم يرق لهم أن تنتسب لقسمهم طالبة تسبقها شهرتها كشاعرة. شعر كاد أن يتسبب لها في مأزق يوم قررت المشاركة بأمسية شعرية، ليحاول مجموعة مشاغبين بثّ شوشرة داخل القاعة التي غصت بالحضور، مطالبة إياها بالكف عن كتابة شعر حالم والكتابة للثورة وعن الثورة، ليثور والدها المريض في وجههم، هو الذي جاء مرفوقاً بممرضين، معبراً عن فخره بما تكتبه ابنته من أشعار في الحب، والاستماع إليه، إذا ما أرادوا قصصاً عن الثورة.
قلة هن النسوة الجزائريات اللاتي حكين قصص المضايقات التي تعرضن لها من طرف جهاز الأمن العسكري سنوات السبعينيات، وهو النسخة الجزائرية الاشتراكية للبوليس السياسي الذي عرف بمضايقاته لكثير من الكتاب والصحفيين
قلة هن النسوة الجزائريات اللاتي حكين قصص المضايقات التي تعرضن لها من طرف جهاز الأمن العسكري سنوات السبعينيات، وهو النسخة الجزائرية الاشتراكية للبوليس السياسي الذي عرف بمضايقاته لكثير من الكتاب والصحفيين، والذي سيزور بيت مستغانمي فجر أحد الأيام، لن تسرد الكاتبة الكثير عن هذه التجربة وستكتفي بقص التوبيخ الذي تعرضت له من طرف والدتها التي وجدت نفسها وحيدة تعيل أربعة أبناء، بسبب انشغال زوجها بالسياسة وأمورها.
لا تحكي مستغانمي الكثير عن تفاصيل أعمالها الأدبية، إلا أن صدى "ذاكرة الجسد" سيتردد في كل أجزاء سيرتها، لتفشي لنا أنها كتبته لأبيها وعن أبيها، وأنه بطل الرواية الحقيقي. لكن النسخة الأدبية المؤنثة لمالك حداد (1927-1978) بانتماءاتها الجغرافية، خلفياتها الثقافية، وأسلوبها الشعري لن تتمكن من عرض روايتها الأهم على بطلها، الذي سيغادر الدنيا قبل أن تطبع نسخ روايتها.
لا تشبع "أصبحت أنت" جوع القراء لسيرة الكاتبة المعربة الجزائرية الشهيرة، والتي تبدو بحاجة إلى أجزاء أخرى، تعطي فيها حيزاً أكبر لتاريخ أعمالها الأدبية الكثيرة، وحتى يتعرف على تاريخ الروائية الأحدث، وقد نالت التجربة منها ما نالت، حتى وإن لم يتأثر أسلوبها الذي لن يشقى القارئ في التعرف عليه، ويشعر بنبض العنفوان الأول في الجمل القصيرة، والصور البلاغية التي يتميز بها أدب مستغانمي، لكن يبدو أنها ستحدث قطيعة مع تقاليد الأدب النسائي الجزائري، الذي سيعلن ربما تجاوزه لـ"عقدة المحتال" التي رسخت لها ممارسات لطالما شككت في أحقية هذه الكاتبة أو تلك في امتلاك الصفة، وقد يشجع كاتبات أخريات على ممارسة حقهن في الدفاع عن نصوصهن وتجاربهن في بلد اعتادت نسوته النزوع إلى الظل وممارسة حياتهن في الغرف الخلفية للحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.