شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كيف اهتدت صديقتي لهويتها الجندرية

كيف اهتدت صديقتي لهويتها الجندرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 8 أغسطس 202411:41 ص

لم يكن ابتلاع الفقد ممكناً على مائدة طعام يجتمع حولها طفلان مع والديهما لتناول الفول والفتة، كطقس يميّز يوم الجمعة، في بيت سوري يوحي بأنه مثالي، أركانه امرأة جميلة وقوية وزوج متعلّم يمتهن المحاماة، وطفلان مرحان وهادئان يقضيان أوقاتهما في الدراسة واللعب. لكن الحقيقية أن خلف جدرانه رجحت كفة ميزان الحضور لصالح مادلين، الأم ومدبرة المنزل والزوجة التي حفرت ملامح شخصيتها في ذاكرة البيت وجميع من فيه، وصورتها وهي تدرّس راني، الأبن الذي لا يبرع في لعبة الاجتهاد الشخصي، مقارنة بميرا، المواجهة لهما على طاولة الدراسة وتكتب واجباتها المنزلية بمفردها.

من جهة أخرى، كان صوت مادلين الاستفزازي وهي تخبر زوجها على الهاتف عن ماهية المشتريات، فقرة الترفيه الأكثر إمتاعاً للطفلين، خاصة عندما يغصّ والدهما برقم الفاتورة، وينتفخ غيظاً بينما تقول له مع ضحكة صفراء: "جبت للولاد أندومي وكرتونة شيبس". يصبح الأمر أشبه بحضور نتيجة فوز فريقهم المفضل في المباراة النهائية أو فوز أمهم في مناظرة مع أبيهم، عنوانها "اصطحاب الأطفال إلى مدينة الملاهي في العطلة".

 توالت الأيام على هذا الحال إلى أن خمدت أصوات الضحكات وشجارات الوالدين، ما إن غربت شمس بيتهم بحلول الموت الذي اختار أقوى أفراد البيت، بعد أن طرحها في فراش المرض والضعف، لتترك مادلين الأم والزوجة المسؤولة بدورها فجوة فصلت بين الماضي والحاضر في ذاكرة طفلتها الأكبر سنّاً من أخيها راني.

لم تستوعب ميرا ذات العشر سنوات الضعف الذي حلّ بوالدتها بعد إصابتها بمرض عضال، وكيف أصبحت بحاجة لمساعدتها لتبدّل ثياب النوم عن جسدها مسلوب الخير واللون، بعد أن كانت تراها أيقونة مشعّة تفصّل ثيابها التي لم تنبذ خيوطها أي لون.

 "قبل ما تمرض ما كانت تصير أي حركة بالبيت من دون علم وتدخل منها، وكل العالم بتحسبلها حساب. كانت ليدي بكل معنى الكلمة": قالت ميرا.

تغيرت بعد رحيلها حياة الطفلة كلياً، حيث أن زواج والدها من أخرى لم يكن كافياً لتلبية حاجة ميرا الملحّة لوجود والدتها، في ضوء انغماس والدها الجدّي في العمل معظم الوقت الأمر الذي زاد حالتها سوءاً.

 نمت ميرا إلى السن الذي يؤهلها لتلحق بدراستها الجامعية وهي تعتاد على تحمّل المسؤولية وتخاطب نفسها في المرآة: "هلأ صرت بالجامعة وأكيد رح يتغير كل شي".

لم تستوعب ميرا، ذات العشر سنوات، الضعف الذي حلّ بوالدتها بعد إصابتها بمرض عضال، وكيف أصبحت بحاجة لمساعدتها لتبدّل ثياب النوم عن جسدها مسلوب الخير واللون، بعد أن كانت تراها أيقونة مشعّة تفصّل ثيابها التي لم تنبذ خيوطها أي لون  

عندما التقت بالأم مجدداً

بغياب مادلين، شكلت صورتها ملامح الأصدقاء المحتملين لابنتها ميرا التي غدت وحيدة، لكن عندما لا تتوافق مواصفات الصديق المتوقعة مع الأشخاص المحيطين بنا، نحاول ترك هذا الفراغ للوقت ولمبادرات المستثمرين في بناء علاقات معنا.

- "خفضي نتفة الأغاني ما بدنا نسمع صوت المسؤولة هلأ"

-"أي.. وأنت يا ريت تتكرّمي وتخلصي اختراع الذرة بخلط الفودكا مع الليمون.. لأنو الظاهر رح نشربن بالببرونة قبل ما ننام".

ذات ليلة، وفي إحدى غرف السكن الجامعي في دمشق، احتفلت زميلات الدراسة، بمن فيهن ميرا، على إيقاع المرح وكسر قيود المجتمع والظروف، والاستمتاع بالأطعمة المحببة لهن ومشروب كحولي ظهر أمامهن.

لكن حفلة اللهو التي لم تحكمها التقاليد، لم تكشف عن ما خبأته كندا عن عيون المجتمع حول حقيقة هويتها الجندرية، إلّا بعد أن اختتمت بنوم معظم الفتيات، وهي النهاية التي لم يخطط له وبداية منعطف في مجرى الأحداث لم يؤخذ بعين الاعتبار، حوّل ميرا إلى ضحية استغلال عاطفي مارسته كندا بشكل مباغت.

خطفت كندا ميرا من ثمالتها بحركتها السريعة في الغرفة وهي تحاول السيطرة على الوضع وإعادة الفتيات إلى غرفهن وتنظيف غرفتها، ثم جلست بجانبها وبحوزتها إبريق المتّة الساخن، وسألتها: "صرتي أحسن؟"، استجرّت بسؤالها ضعف ميرا وانكساراتها التي تبخرت فجأة بقبلة شفاه ساخنة من كندا، وبينما كانت ميرا تبحث بارتباك عن مبرّر بريء لهذه القبلة، استوقفنها قبل أخرى جمّدت عقلها إلى أن بزغت الشمس وذابتا في وعاء النوم.

تجرّعت ميرا في تلك الليلة "الملعونة" كما وصفتها، السحر على دفعات، مرة ارتشفته من بين شقوق الثغر ومرات وغزاً بأصابع كندا التي هاجرت قاطعة كل الحدود التي تقف في طريق عبورها إلى المناطق المحظورة في جسد ميرا، التي بدورها ضاعت طوال تلك الليلة بين أفكار وتساؤلات ومحاولات، لتصديق أن ما يحدث حقيقي وأن كندا موجودة حقاً.

وبينما كانت الأخيرة تتنقل بخفة بين حقول القطن، أنبتت لميرا زهرة برية في ركنها المهجور، وتفتّحت علاقة جنسية بين الفتاتين استمرّت لأسبوع كامل، في حين انحصر تفكير ميرا طيلة السبعة أيام التي لم تغادر فيها أسوار الغرفة تلبية لرغبة كندا، بأنها أخيراً وجدت صديقة ساحرة بقوة شخصيتها، تهتم لأجلها ولا تغيب من حياتها.

منعطف الست سنوات والليديز

أسبوع واحد كان كفيلاً بقلب حياة ميرا رأساً على عقب. عادت كندا بعد إجازتها بقرار حمل وقع الصاعقة: "كلشي بيناتنا انتهى". ثلاث كلمات جعلت ميرا تضيع في دهاليز أفكارها وتسترجع كافة ذكرياتها المؤلمة. الفقد، الشك، الوحدة، الحزن والضياع. كانت هذه المشاعر كالفقاعة المحيطة بميرا وهي تحاول البحث عن كندا جديدة في أي فتاة تقابلها بعد فشلها في استرداد كندا الأصلية.

ثم تساقطت حياتها كقطع الدومينو. تراجعت دراسياً ودخلت في صراعات وتخبطات نفسية وفقدت التركيز سوى بـ "كندا": "ليش هيك عم يصير معي؟ ليش ما عم اقدر شيلها من بالي وكمل حياتي طبيعي؟ انا شو يلي علقني فيها لهي الدرجة؟"

تكدّست طوال ست سنوات تساؤلات في ذهن ميرا جعلتها تفقد جزءاً من هويتها بين الركام. في نفس الوقت، غمستها بتجارب البحث عما دفعها لاتباع أسلوب حياة يهدف إلى ما عبرت عنه ميرا بقول: "الشي الوحيد يلي كنت عم اتمناه بوقتا إنو حس بوجود كندا أو شوفها".

من ناحية أخرى، تمكنت ميرا بحسها الفكاهي من حمل صديقاتها على التغاضي عن تحرّشها الصريح فيهن في ضوء شعبيتها الكبيرة بين الناس وذكائها الاجتماعي، اللذين فسحا لها المجال لبناء شبكة علاقات عامة مع فتيات يتميزن بشخصياتهن القوية وبأنهن "ليديز" بمقاييس جمالية وأنثوية طاغية.

تركت كندا السكن الجامعي وميرا التي تقتات على فتات اللقاءات المبعثرة وفقاً لمزاج الأولى التي اكتظّ برنامجها بالعمل والعلاقات والنجاحات، إلى أن تكلّل بزواجها من شاب كانت على علاقة به.

أما ميرا فقد أصبحت تمضغ أيامها بامتعاض مستعينة باللهو ولم شمل جميلات الوحدة السكنية في غرفتها التي لفظت الدراسة من قائمة الأهداف، خاصة وأن النجاح في فرعها الجامعي كان شبه مضمون، نتيجة لانتشار الرشوة وضعف الرقابة بين أعمدة الكليّة الأساسية.

 من جهة أخرى، اعتادت على المراوغة في حروبها الدائمة مع أبيها الذي كان يحاول أن يساوي بينها وبين أخيها المدلل، لكن أفكاره الذكورية وإمداداته المادية والمعنوية الضئيلة، إضافة إلى طباعه الحادّة، جعلوا ميرا تستقل معنوياً ومادياً عن أسرتها.

لحسن الحظ، تحقق قول آينشتاين "في خضم الصعاب تكمن الفرص" في حياة ميرا، عندما جاءتها إجابة القدر عن طريق فتاة جمعت شخصيتها بين ضعف شخصية ميرا القديمة بعد معاناة من طفولة مفككة أسرياً، وجاذبية واهتمام كندا الذين أشبعا جزءاً كبيراً من حاجة ميرا لأمها.

في مجتمع تطبق عليه العادات والتقاليد، والقانون السوري الذي يجرم المثلية الجنسية، لن تسمع قصص الأفراد الذين ساروا في طريق مختلف، إلا إن اخترت أن تنصت للألم الذي لا يجد غالباً مخرجاً لاحتقانه سوى بدموع نازفة على وسادة الأحلام

تجرّأت وكسرت صمتها للمرة الأولى، واختارت أن تتّبع أسلوباً مختلفاً عن الأسلوب الذي طبّق عليها، عندما طلبت من ساندي بعد عدّة تلميحات إقامة علاقة معها، ليأتيها الرفض المتوقع في البداية وبعد جملة من محاولات الإقناع، وافقت على خوض التجربة، لتحدّد هذه الموافقة هوية ميرا الحقيقية بعد ذلك، حيث اكتشفت أنها لا ترغب الفتيات، وأن كل ما تحتاجه هو صديقة تهتم لأجلها ولا تفارقها، تملأ الفراغ الذي خلفته والدتها ورائها بعد رحيلها، ومع مرور الوقت تأكدت من ذلك بعد أن التقت بشريكها الحالي، وتخرجت من الجامعة وبدأت تمقت كندا التي لم تتوقف عن التواصل معها حتى بعد زواجها، في محاولات دائماً ما تعود عليها بالرفض من ميرا.

لن تسدل الستارة

في مجتمع تطبق عليه العادات والتقاليد، والقانون السوري الذي يجرم المثلية الجنسية، لن تسمع قصص الأفراد الذين ساروا في طريق مختلف، إلا إن اخترت أن تنصت للألم الذي لا يجد غالباً مخرجاً لاحتقانه سوى بدموع نازفة على وسادة الأحلام، حيث أن بوح كندا بأنها مزدوجة الجنس في سوريا، قد يزجّها بين جدران السجن ثلاث سنوات، حسب المادة /520/ من قانون العقوبات، وهذا يضعها أمام تحدٍ مزدوج: تحدي الذات وتحدي الأهل والديار، خاصة وأنها تنحدر من بيئة محافظة في إحدى القرى السورية، فعلى الرغم من أنها لاحظت اختلافها في سن مبكرة عندما كانت تجذبها الفتيات كما الفتيان، إلا أنها لم تستطع التعبير عن مشاعرها بوضوح خوفاً من الرفض الاجتماعي في مجتمع يعتبر المثلية دخيلة ووصمة عار.

خلال الست سنوات التي تاهت فيها ميرا في عتمة المجهول كفراشة فقدت أجنحتها، كنت بمثابة يراعة مضيئة في طريق بحثها عن الحقيقة والتشافي، لكن لم نتخيل أن التجارب التي خاضتها في هذه الرحلة المظلمة، ستخبرها أن الفجوة التي علقت بها ناتجة عن صدمة نفسية أصابتها بعد ضياع بوصلتها برحيل أمها، وأن جهلاً مجتمعياً بالثقافة الجنسية ورفض الاعتراف بوجود الغيرية، غلّفا بصيرتها وحدّا من توقعاتها، وجعلها تحتار في ميولها وتخوض تجارب لا تشبهها.

في الواقع، إن إصرار صديقتي على فهم جسدها وجرأتها في اقتحام الغرابة، أوصلاها لحقيقة هويتها الجندرية ولمعرفة جنسية ونفسية جعلتها تلملم أجزاء ذاتها المتناحرة وتوحدها في جسد امرأة واعية ومسؤولة، رفضت الاستسلام ورسمت ملامح حياة جديدة بأيد واثقة من نفسها، تعرف قيمتها ومستعدة لتسخير الرياح أجنحة تطير بها نحو أحلامها. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard