شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
بين الاعتراف والزهد والندم… كيف قابل القادة المسلمون لحظاتِ النهاية؟

بين الاعتراف والزهد والندم… كيف قابل القادة المسلمون لحظاتِ النهاية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأربعاء 31 يوليو 202403:26 م

قالوا قديماً: إن السلطان إما في القصر وإما في القبر، فهو إما غالب مظفر منتصر وإما مغلوب مقهور منتكس. تلك الثنائية الجدلية، جعلت من تاريخ السياسة، سجلاً حافلاً دونت فيه أحداث الصراع والصدام والمغالبة، والتي كانت تسفر بطبيعة الحال عن نماذج مأسوية لقادة وزعماء وضعوا في لحظاتهم الأخيرة أمام الهزيمة المريرة أو النهاية الأليمة.

في هذا المقال نستعرض عدداً من النماذج التي تغيرت وتنوعت فيها درجة تقبل القادة لنهاياتهم على مدار التاريخ الإسلامي، ففي بعض الأحيان كان الألم والحزن هو الطابع الغالب على تلك النهايات بينما في أحيان أخرى كان التفكر والزهد والتفكير في مستقبل الدولة والأتباع هو الطابع المسيطر على تفكير بعض القادة والزعماء.

في كربلاء: عندما استقبل الحسين الموت راضيًا لنصرة الدين

في العاشر من محرم 61هـ/12 أكتوبر 680م، تزلزلت الأمة الإسلامية على وقع استشهاد الحسين بن علي والكثير من أقربائه وأهل بيته في بلدة كربلاء، التي تقع في منطقة الفرات الأوسط بأرض العراق. كربلاء لم تكن مجرد موقعة حربية عادية كغيرها من المواقع التي نشبت عبر التاريخ الإسلامي الممتد على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان، بل كانت، في حقيقة الأمر، لحظةً تاريخية مفصلية بامتياز، مما جعل أصداءها تتردد في عقول وقلوب المسلمين حتى اللحظة الراهنة، خصوصاً وأن مسألة قتل حفيد الرسول بتلك الطريقة الوحشية لم تجد لنفسها سبيلاً لعقول العديد من المسلمين، من الذين لم يعتقدوا أن الأمويين قادرين على اقتراف مثل تلك الجريمة المروعة.

هناك نماذج تغيرت وتنوعت فيها درجة تقبل القادة لنهاياتهم على مدار التاريخ الإسلامي، ففي بعض الأحيان كان الألم والحزن هو الطابع الغالب على تلك النهايات بينما في أحيان أخرى كان التفكر والزهد والتفكير في مستقبل الدولة والأتباع هو الطابع المسيطر على تفكير بعض الزعماء

تؤكد العديد من المصادر التاريخية، ومن بينها تاريخ الرسل والملوك للطبري والكامل في التاريخ لابن الأثير، أن الجيش الأموي كان يفوق في عدده جماعة الحسين وأنصاره بأضعاف مضاعفة، وأنه لم يكن هناك مجال للتكافؤ أو للتنافس ما بين الطرفين. رغم ذلك رفض الحسين الاستسلام، أو الخضوع لقادة الجيش الأموي، وفي نفس الوقت عرض على أتبعه ومناصريه الانصراف والنجاة بحياتهم من هول المعركة غير المتكافئة التي بدت بوادرها وقد لاحت في الآفاق.

تروي العديد من المصادر الشيعية ومنها "الكافي" للكليني و"بحار الأنوار" للمجلسي، أن الحسين قد عزم على الموت في سبيل نصرة قضيته، وأنه رفض كل محاولات الطرف المعادي لاستمالته لبيعة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية.

موقف الحسين، الذي آثر الموت على الاستسلام، ظل ملهماً للعديد من الأعمال الروائية والأدبية والشعرية الداعية لرفض الخضوع للظلم، وكان من أبرز تلك الأعمال، قصيدة الشيخ العراقي محسن أبو الحب، والتي لخص فيها موقف الحسين في كربلاء بقوله: "إن كان دينُ محمّدٍ لم يستقم/إلّا بقتلي، فيا سيوف خذيني". وهو البيت الذي اشتهر كثيراً في ما بعد، حتى ظنه الكثيرون من أقوال الحسين بن علي نفسه.

الاعتراف باغتصاب السلطة... كيف اظهرت الروايات الشيعية الأيام الأخيرة في حياة هارون الرشيد

استطاع العباسيون أن يصلوا إلى السلطة في عام 132هـ، وذلك بعد الاطاحة بمروان بن محمد أخر خلفاء الدولة الأموية. العباسيون الذين رفعوا في بداية ثورتهم شعار "الرضا من آل محمد"، سرعان ما تنكروا لشركائهم من العلويين، فانفردوا بالحكم، وضيقوا الخناق على بني عمومتهم الذين كانوا يمنون أنفسهم بالانفلات من قبضة السلطة الخانقة، والتي لطالما فرضها عليهم الأمويون من قبل.

الروايات الشيعية الإمامية، حرصت، بكل وسيلة ممكنة، على التأكيد على مظلومية الأئمة الشيعة، وإظهار ظلم الخلفاء العباسيين لهم في كل مناسبة أو فرصة متاحة. تعتبر فترة نهاية عهد الخليفة العباسي الأشهر هارون الرشيد، واحدة من أهم الفترات التي يظهر فيها ذلك التوجه بشكل واضح وقوي، حيث حرصت المصادر الشيعية على اظهار اعتراف الرشيد بظلمه للإمام موسى الكاظم قبل وفاته، واعترافه كذلك بأحقيته في الحكم والسلطة وأفضليته عليه في العلم والمكانة.

يظهر ذلك فيما أورده كلّ من الشيخ الصدوق في كتابه "عيون أخبار الرضا،" والبحراني في "مدينة المعاجز"، والمجلسي في "بحار الأنوار"، وذلك عندما ذكروا أن الرشيد قبيل وفاته قد استدعى ابنه عبد الله المأمون، وأخذ يحدثه عن فضل الكاظم وعلوّ شأنه، فقال له: "هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده... أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق... والله يا بنيّ إنه لأحقّ بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن المُلك عقيم".

ورغم أنه من الصعب أن نصدق بحقيقة تلك الرواية، إلا أن المقطع الأخير بها والذي يؤكد فيه الرشيد على عقم المُلك، قد ذاع وانتشر، حتى صار مضرباً للأمثال وقولاً حكيماً شائعاً يردده العامة والخاصة.

من العرش إلى المنفى... عندما قابل المعتمد مصيره المؤلم بقرض الشعر

إذا ما يممنا وجوهنا ناحية المغرب، وبالتحديد إلى بلاد الأندلس، لطالعتنا العديد من اللحظات التاريخية المفصلية، والتي شهدت الكثير منها مواقف لنهايات دامية وأليمة لبعض الساسة والحكام والخلفاء.

واحد من أهم تلك المواقف، وقع في 484هـ/1091م، عندما دخلت جيوش المرابطين المغاربة إلى إشبيلية، وسقط حكم المعتمد على الله بن عباد، والذي كان أقوى ملوك الطوائف الأندلسيين في عصره. سقوط أشبيلية، كان محصلة لتدخلات مرابطية سابقة في شؤون شبه الجزيرة الأيبيرية، فبعد أن تدخل المرابطون في بداية الأمر لنصرة ملوك الطوائف، انتهى بهم الحال وهم يستولون على أملاكهم.

تروي العديد من المصادر الشيعية أن الحسين قد عزم على الموت في سبيل نصرة قضيته، وأنه رفض كل محاولات الطرف المعادي لاستمالته لبيعة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية.

المعتمد، الذي عُرف بثرائه وترفه، وقع مع أهله في أسر المرابطين بعد طول مقاومة وقتال، وكان مصيره أن اقتيد في الأغلال إلى صحراء المغرب القاحلة، حيث عاش هناك أربعة أعوام مريرة، تجرع فيها ذكريات مُلكه الغابر المنزوع عنه.

وفي أغمات، التي تقع جنوب وسط المغرب بالقرب من مراكش عاصمة المرابطين، قضى الأمير الشاعر أيامه الأخيرة في نظم القصائد التي يرثي فيها لحاله ولمصيره المؤلم، فكان شعره هو خير عزاء له في محنته وغربته.

وفي شوال 488هـ/أكتوبر 1095م، لفظ ابن عباد أنفاسه الأخيرة، وعُثر عليه في داره ميتاً، وبجواره ورقة دوّن فيها أخر ما كتب من شعر، وأوصى أن يُدون ما فيها على شاهدة قبره، وكان مما جاء في تلك الورقة:

نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ

مِنَ السَماءِ فَوافاني لِميعادِ

وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ

أَنَّ الجِبال تَهادى فَوقَ أَعوادِ

كَفاكَ فارفُق بِما استودِعتَ مِن كَرَمٍ

رَوّاكَ كُلُّ قَطوب البَرق رَعّادِ.

الخلافة الموحدية... ما بين الحرص على مستقبل الدولة والزهد في حكمها

في عام 515هـ، استطاع محمد بن تومرت أن يحشد من ورائه جموعاً هائلة العدد من قبائل السوس الأقصى، بعدما أقنعهم بكونه المهدي المنتظر الذي بشرت به الأحاديث النبوية وتواترت أخباره في الكتابات والنصوص المقدسة.

ابن تومرت، تمكن في سنين قليلة من أن يوجه ضربات قوية وموجعة للدولة المرابطية التي كانت تحكم بلاد المغرب في ذلك الوقت، وفي عام 524هـ، وصلت جيوشه إلى عاصمة المرابطين في مراكش وكادت أن تستولي عليها، قبل أن تُلحق بها هزيمة فادحة في معركة عرفتها المصادر التاريخية باسم "معركة البحيرة الساحقة".

مهدي الموحدين لم يحضر تلك المعركة، حيث تذكر أغلبية المصادر التاريخية أنه كان مريضاً في معقله الحصين في "تينملل"، وتؤكد العديد من تلك المصادر أن أخبار هزيمة جيوشه قد نُقلت إليه أثناء مرضه الأخير قُبيل وفاته بأيام قلائل، فعلى سبيل المثال يذكر ابن الأثير المتوفى 630هـ، في كتابه "الكامل في التاريخ"، أن ابن تومرت لما عرف بدحر جيوشه، لم يتأثر ولم يحزن، بل وجّه كل همّه وحرصه للاطمئنان على مستقبل دعوته الفتية، حيث سأل عن مصير تلميذه المقرب عبد المؤمن بن علي، وهل نجا من المعركة أم طاله الموت، فلما تأكد من نجاته، قال: "ما مات أحد، الأمر قائم، وهو الذي يفتح البلاد، ووصى أصحابه باتباعه، وتقديمه، وتسليم الأمر إليه، والانقياد له، ولقبه أمير المؤمنين".

قيل قديماً إن السلطان إما في القصر وإما في القبر، فهو إما غالب مظفر منتصر وإما مغلوب مقهور منتكس. تلك الثنائية الجدلية، جعلت من تاريخ السياسة، سجلاً حافلاً دونت فيه أحداث الصراع والصدام والمغالبة

هذا الحرص الشديد على مستقبل الدولة واستمرارية الحكم والسلطة، يتعارض بشكل صارخ مع ما وقع في عهد الخليفة الموحدي الثالث أبو يوسف يعقوب المنصور، والذي ذكرت بعض الروايات التاريخية أنه قد زهد الحكم والسلطة في نهاية عهده، لدرجة أنه ترك كل ما في يده ورحل وحيداً إلى بلاد المشرق؛ على سبيل المثال يذكر ابن خلكان (ت. 681هـ)، في كتابه المشهور "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، أن المنصور بعد أن انتصر على الإسبان في موقعة الأرك عام 591هـ/1195م، قد رحل إلى بلاد الشام، حيث يقول: "وبعد هذا اختلفت الروايات في أمره، فمنهم من قال إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف حتى مات، وقيل إنه بعد أن انتهت فترة حكمه، جال في الأرض إلى أن وصل إلى منطقة في بلاد الشام هي اليوم في لبنان حيث دفن على قمة تلة في البقاع الغربي وهي الآن قرية تعرف باسمه "قرية السلطان يعقوب" وفيها مزار لهذا السلطان".

وبرغم أن هناك الكثير من الشكوك التي تحيط بكل من استخلاف ابن تومرت لعبد المؤمن من جهة، ولزهد المنصور ورحيله للشام من جهة أخرى، إلا أن الروايتين تصلحان كشاهدين ممتازين لتبيان الكيفية التي تدخل بها التيمة الجدلية التي تجمع ما بين الحرص على السلطة والتخلي عنها، في متون السرديات التاريخية الإسلامية المشهورة.

زفرة العربي الأخيرة... عندما سلم آخر ملوك غرناطة مفاتيحها لملوك الإسبان

من أكثر المواقف المأسوية التي وقعت على امتداد التاريخ الإسلامي، ذلك الموقف الذي شهد تسليم مفاتيح مدينة غرناطة الإسلامية لملكي قشتالة وأراجون. فبعد ما يقترب من ثمانية قرون كاملة، استمر فيها المسلمون يلعبون دوراً رئيساً في تشكيل وتكوين الأحداث في شبه الجزيرة الأيبيرية، حان وقت إسدال الستار على تلك الفترة برمّتها في محرم 897هـ/نوفمبر 1491م، عندما تم توقيع معاهدة التسليم بين أبي عبد الله الصغير آخر ملوك مملكة غرناطة من جهة وألفونسو وإيزابيلا ملكي إسبانيا من جهة أخرى.

كانت لحظة خروج أبي عبد الله من غرناطة نموذجًا معبرًا عن كل معاني اليأس والقنوط والحيرة التي اعترت مسلمي الأندلس في تلك اللحظة التاريخية العصيبة. في كتابه المهم المعنون بـ"دولة الإسلام في الأندلس"، يوضح محمد عبد الله عنان الكيفية التي استقبل بها آخر ملوك غرناطة مصيره المؤلم، بقوله إن أبا عبد الله قد وقف ينظر نظرة أخيرة مودعة لمدينته الأثيرة، "فانهمرت دموعه، وأجهش بالبكاء"، ومما زاد الطين بلة، أن أمه عائشة قد عملت على تأنيبه وتقريعه، فقالت له قولتها المشهورة: "أجل فلتبكِ كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال".

من الغريب حقاً أن تلك اللحظة العصيبة، قد تم تخليدها في إسبانيا حتى اللحظة الراهنة، حيث أُطلق اسم "زفرة العربي الأخيرة" على أحد الممرات الجبلية المتاخمة لغرناطة، والتي يُعتقد أن أبا عبد الله قد اتخذ منها طريقاً للخروج من الأندلس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image