في السنوات الأخيرة، تأتينا فصول الصيف كل عام بحرارة أكثر من التي كانت في العام السابق. وكما هو معروف، نحن نتغلب على حرارة الجوّ باستخدام أجهزة تكييف الجوّ وأجهزة المراوح، ونبرِّد الماء والطعام عن طريق أجهزة المبرّدات المختلفة. لكن ما الذي كان يفعله الناس قبل ابتكار كل هذه الأجهزة التي تعين على الحياة في بيئات الجوّ الحارة، خصوصاً في بلادنا العربية؟
ما هي إسهامات الحضارة العربية الإسلامية في ما يُعرف بعلم التقريس Cryogenics؟ وعلم التقريس هو المجال الذي يدرس "درجات الحرارة شديدة الانخفاض، ويشمل تطوير أساليب التوصل إلى تلك الدرجات، والحفاظ عليها"، وفق "الموسوعة العربية العالمية"، مدخل "علم التقريس". وقد كتَبَ الباحث في تاريخ العلوم العربية سائر بصمة جي، كتاباً بعنوان "التبريد في التراث العلمي العربي"، يتناول هذا الأمر.
المسلمون يبحثون منذ القرن الثامن والأوروبيون يتأخرون حتى القرن السابع عشر
اهتمت الحضارة العربية الإسلامية بـ"علم البرودة"، منذ أواخر القرن الثاني الهجري/أوائل القرن التاسع الميلادي، وبالتحديد منذ زمن الكيميائي الأشهر جابر بن حيّان (ت. 195/810 أو 197/813)، الذي يقول مُعرِّفاً علم البرودة، كما نقرأ في "مختارات من رسائل جابر بن حيان" التي نشرها بول كراوس: "وحَدُّ علم البرودة هو العلم بجوهرها وأثرها وما تأثَّرت منه على التفصيل وبأثرها على الجملة".
اهتمت الحضارة العربية الإسلامية بـ"علم البرودة"، منذ أواخر القرن الثاني الهجري/أوائل القرن التاسع الميلادي، وبالتحديد منذ زمن الكيميائي الأشهر جابر بن حيّان
وعن هذا التعريف يقول سائر بصمة جي، في كتابه "التبريد في التراث العلمي العربي": "ولعل هذا أول وأقدم تعريف موثق لعلم البرودة يحدد من خلاله ما يقوم عليه؛ فهم حقيقة البرودة وسبب حدوثها، ومعرفة أثر البرودة على الأجسام جملة وتفصيلاً".
ويضيف: "من ناحية أخرى، يُمثِّل وضع هذا التعريف أولى خطوات الخروج على الفكر الآرسطي؛ إذ نجد جابراً لا يُقحم أي دور لنظرية العناصر أو الكيفيات الأربع في تأسيس علم البرودة، وإنما أراده علماً قائماً بشكل خاص على السببية والأثر والنتيجة".
وبرغم ذلك، فقد تأخَّرت الأبحاث الأوروبية المتعلقة بالبرودة إلى القرن الـ17 الميلادي، عندما أجرى أدمي ماريوت E. Marriott (ت. 1668م)، أبحاثاً عن زيادة حجم الماء عند التجمّد وعن الوزن النوعي للجليد، واكتشف بعد ذلك دانيال جبريل فهرنهايت D. G. Fahrenheit (ت. 1736م)، ظاهرة فرط التبريد في المياه، ويُقصد به "بقاء الماء سائلاً عند درجات حرارة أقلّ من درجة التجمّد"، كما جاء في كتاب "التبريد في التراث العلمي العربي" تأليف سائر بصمجة جي، و"تاريخ العلم والتكنولوجيا" تأليف فوربس، إ. ج. وديكستر.
الراحة الحرارية
تؤثر الرطوبة على الإنسان في الصيف تأثيراً مزعجاً؛ فبارتفاع درجة الحرارة والرطوبة ينتج إحساس غير مريح باللزوجة، وذلك لعدم تبخّر العرق الذي ينتجه الجلد؛ لذلك يلجأ الناس إلى المكيفات والأجهزة التي تقلل الرطوبة وتزيل بخار الماء من الهواء في الصيف.
وعندما يأتي الشتاء، يكون الهواء الدافئ داخل الأبنية جافّاً وتنخفض الرطوبة إلى درجة أنه قد يحتاج الإنسان إلى استخدام أجهزة لنشر بخار الماء وترطيب الجو. فهناك ما يُعرف في علم العمارة البيئية بـ"الراحة الحرارية"، وهي "حالة العقل التي يشعر فيها الإنسان بارتياح ورضا في ما يتعلق بالبيئة الحرارية الموجود فيها، فأي إنسان عادي لا يشعر بالراحة الحرارية إذا زادت أو قلّت درجة الحرارة عن حدود معيّنة، أي أنه لا يشعر بالراحة في درجات الحرارة العالية مثلما لا يشعر بالراحة أيضاً في حالات البرودة الشديدة"، كما ذكر يحيى وزيري في كتابه "العمارة الإسلامية والبيئة: الروافد التي شكلت التعمير الإسلامي"، لذا كان لا بد من تقنيات لخفض درجات حرارة الجوّ حال الحاجة إلى ذلك.
المسلمون يصنعون الثلج قبل اختراع الثلاجات
يُرَكز علم التبريد Refrigeration Science على البحث في طرائق تبريد المواد من خلال الأجهزة. وقد طوَّر العلماء في بدايات القرن التاسع عشر ما يُعرف بـ"علم التقريس"، أو "علم التبريد الشديد الذي يُقال له بالإنكليزية Cryogenics، ويركز هذا العلم على دراسة درجات الحرارة شديدة الانخفاض وكيفية توليدها".
وتدخل في هذا العلم تقنية تجميد الماء. وللعرب مساهمة في هذا العلم منذ القرن العاشر الميلادي. يذكر ابن أبي أصيبعة في كتاب "طبقات الأطباء"، طريقةً لتجميد الماء ابتكرها ابن بختويه أبو الحسين عبدالله بن عيسى (ت. 420هـ/1029م)، الذي كان طبيباً من أهل واسط، وله كتاب "المقدمات" الذي يُعرف بـ"كنز الأطباء".
يقول ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء": "ذكر ابن بختويه في كتاب ‘المقدمات’ صفةً لتجميد الماء في غير وقته، زعم بأنه إذا أخذ من الشب اليماني الجيد رطلاً، ويُسحق جيداً ويُجعل في قدر فخار جديدة؛ وُتُلقى عليه ستة أرطال من ماء صافٍ، ويُجعل في تنور ويُطين عليه حتى يذهب منه الثلثان ويبقى الثلث لا يزيد ولا ينقص، فإنه يشتد. ثم يُرفع في قنينة ويُسدّ رأسها جيداً. فإن أردت العمل به أخذت ثلجيةً جديدةً وفيها ماء صافٍ، واجعل في الماء عشرة مثاقيل من الماء المعمول بالشب، ويُترك ساعةً واحدةً فإنه يصير ثلجاً".
ويضيف ابن أبي أصيبعة: "وكذلك زعم بعض المغاربة أيضاً في صفة تجميد الماء في الصيف، قال: اعمد إلى بزر الكتان فانقعه في خلّ خمر جيّد ثقيف، فإذا جمد فيه فالقِه في جرّة أو حب مليء ماء. قال: فإنه يجمد ما كان فيه من الماء ولو أنه في حزيران أو تموز".
ملاقف مُبرَّدة لخلق تيار هواء لطيف
استُخدمت آلية ملاقف الهواء لتهوية المباني في المناطق الحارة في العالم الإسلامي. وهذه الملاقف عبارة عن مداخل يدخل الهواء من خلالها إلى المبنى، وذلك في وجود مخارج أيضاً لإخراج الهواء، وتالياً يكون هناك سريان لتيار هوائي يساعد في تبريد المبنى، وفق ما يذكره يحيى وزيري في "العمارة الإسلامية والبيئة: الروافد التي شكلت التعمير الإسلامي".
ويذهب بصمة جي، إلى أنَّ الملاقف كانت موجودةً أيام الأمويين وكانوا يضعون في فوهات هذه الملاقف الجليد أو أكياس الخيش المبللة كبديل للجليد، ما يساعد في تبريد الهواء الذي يندفع من خلال تلك الملاقف إلى داخل المبنى (بصمة جي، "التبريد في التراث العلمي العربي"، ص 139).
واستُخدمت الملاقف أيضاً في العمارة المملوكية لتبريد الهواء، وفقاً لنصر محمد نصر إبراهيم، في بحثه "ملقف الهواء كعنصر إضاءة وتهوية طبيعية في عمائر القاهرة الدينية الباقية من عصر المماليك الجراكسة". ومن نماذج الملاقف المملوكية ما نشاهده في مبنى مدرسة الأمير إينال اليوسفي (أثر رقم 118–الخيامية) في القاهرة.
مدينة يزد الإيرانية... مدينة الملاقف
تُسمَّى هذه الملاقف بالفارسية بادكير، وتنتشر هذه الملاقف في مدينة يزد الإيرانية إلى الآن ويُعتمد عليها كمكيّفات طبيعية للتغلب على ارتفاع درجات الحرارة والتي تصل إلى 40 درجةً بسبب مناخ يزد الصحراوي.
ومن يزور يزد يشاهد هذه الملاقف التي تتخذ شكل البراجيل على أسطح المنازل وتعطي جمالاً معمارياً خاصاً للمدينة؛ لذلك تم إعلان منطقة أبراج يزد منطقةً ثقافيةً محميةً من قبل اليونسكو.
التغزّل في المروحة
عرف العرب منذ زمن بعيد، تحريك الهواء لإنتاج هواء يلطّف الشعور بالحرارة، واستخدموا في سبيل ذلك أدوات بدائيةً مثل التلويح بورق الشجر وكان لدى الأثرياء من يقوم لهم بذلك. وقد عرف العرب أيضاً مراوح أكثر تطوراً. يوضح بصمة جي، أنه يمكننا "معرفة العرب والمسلمين بالمراوح اليدوية التي توجه الهواء نحو الوجه بكافة أشكالها وأنواعها، سواء من خلال موروثهم الثقافي الخاص أو من خلال الشعوب التي احتكوا بها منذ القرن السادس الميلادي.
أما المراوح السقفية التي توجه الهواء نحو أرجاء الغرفة كافة؛ فقد تأخر ظهورها إلى القرن الثامن الميلادي إلى أيام العباسيين". ويضيف: "ويبدو -من خلال الوثائق التي بين أيدينا حتى الآن- أنه أُعيد ابتكارها من جديد عند العرب دون المعرفة بوجودها سابقاً" (التبريد في التراث العلمي العربي، ص 149).
ويُحكى أنَّ الملك سيف بن ذي يزن (ت. 50هـ/ 574م)، كان لديه غلامان يحرّكان الهواء له ويطردان الحشرات عنه باستخدام مراوح من ريش النعام، وكان ثمة غلام ثالث معهم يرشّ المسك والطيب أمام المراوح لإنعاش الملك برائحة جميلة منعشة (نادية الغزي، "الطرق الشرقية للتخلص من الحر"، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2017، ص 126، 127، نقلاً عن بصمة جي، "التبريد في التراث العلمي العربي"، ص 149، ص 150).
أخَّرت الأبحاث الأوروبية المتعلقة بالبرودة إلى القرن الـ17 الميلادي، عندما أجرى أدمي ماريوت أبحاثاً عن زيادة حجم الماء عند التجمّد وعن الوزن النوعي للجليد
وينقل الغزولي، في كتابه "مطالع البدور ومنازل السرور"، وصفاً للمروحة التي كانت تُعلَّق في السقف: "تكون شبيه الشراع للسفينة وتعلَّق في سقف ويشدّ بها حبل تدير به مشيها وتُبلّ بالماء وتُرشّ بماء الورد، فإذا أراد الرجل في القائلة أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء فيهبّ على الرجل منها نسيم بارد طيب الريح فيذهب عنه أذى الحر ويستطب وهي فوقه ذاهبة وجائية؛ ولذلك سماها جارية" (علاء الدين علي عبدالله الغزولي، "مطالع البدور ومنازل السرور"، بيروت: دار الكتب العلمية، 2016، ج 1، ص 20).
ويبدو أنَّ المراوح كانت محوريةً جداً في حياة الناس في بلاد العرب قديماً، إلى درجة أنَّ الشعراء تغزَّلوا فيها، فمثلاً نجد فقيه حلب ومقرئها وحاكمها، أبا عمرو بن زين الدين الطائي الحلبي الشافعي بن خطيب جبرين (ت. 739هـ/1338)، كما يصفه الصفدي وفق كتاب "أعيان العصر وأعوان النصر"، يكتب أبياتاً يصف فيها المروحة:
"وخادم ما مثلها خادم بكل معنى حُسْنٍ تُوصفُ
يَرُوقُ من يُبْصرُها حُسْنُها أخلاقُها محبوبةٌ تؤلّفُ
لباسُها الوَشْيُ وفي حجرها عوْدٌ لها وهي به أعْرَفُ
يُحرِّكُ الأرواح ترويحها ويَشْتفي المكروبُ إذ تطرفُ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...