شهدت بداية العصر العباسي ازدهاراً في التأليف والترجمة على أيدي الفرس الذين أثروا الأدب العربي، والسريان الذين نقلوا إلى العرب التراث اليوناني والروماني وتراث الحضارات القديمة. وتبعاً لذلك ظهرت حرفة الوراقة التي تتضمن "الانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدوواوين" على حد تعبير ابن خلدون في مقدمته.
وكان ظهور وانتشار هذه المهنة أمرا طبيعياً في "الأمصار العظيمة العمران" بلغة ابن خلدون وذلك حتى يستطيع الناس الحصول على نسخ مكتوبة من المؤلفات والترجمات ويتداولونها في ما بينهم. وأنعش هذه الحرفة أيضاً ازدهار صناعة الورق في بغداد حيث بات الحصول على الورق بكميات وفيرة ممكناً.
وللوراقة حرفيون، ولم يقتصر الأمر على إنتاج الكتب ونشرها بين الناس، بل كانت الوراقة حرفةً لكسب قوت الحياة لبعض العلماء والقضاة الذين لم يكونوا يتكسبون من علمهم وحكمهم بين الناس. وكانت حوانيت الوراقين مساحةً لمحبي المعرفة.
علماء وقضاة يمتهنون الوراقة
امتهن الوراقة بعض العلماء البارعين في مجالات معرفية شتى وبعض القضاة العاملين في جهاز الدولة آنذاك. منهم محمَّد بن إسحق النديم (385ه/995م) صاحب المصنف الببليوغرافي الشهير الفهرست. هذا الفهرست هو أقدم عمل ببليوغرافي (أي عمل يرصد الكتب المؤلفة) عربي يصلنا كاملاً (وحول ابن النديم وكتابه الفهرست يمكن النظر في ما كتبه الدكتور عبدالستار الحلوجي في المخطوطات والتراث العربي). وكتاب الفهرست يكشف لنا أن ابن النديم لم يكن مجرد ورَّاق، بل كان عالماً موسوعياً ملماً بجوانب شتى من فروع المعرفة في زمانه. وجدير بالذكر أن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي أصدرت نشرة مميزة بتحقيق الدكتور أيمن فؤاد سيد.
وممن مارسوا الوراقة أيضاً النحوي الشهير القاضي أبو سعيد السيرافي (ت. 368هـ/ 979م) ليكسب منها قوت يومه حتى لا يتربح مالاً نظير القضاء أو التدريس. أورد الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد أن السيرافي "كان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشرة دراهم ثم يخرج إلى مجلسه".
التوحيدي الورَّاق التعيس
ومن المشاهير الذين امتهنوا الوراقة -إن لم يكن أشهرهم- فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة أبو حيان التوحيدي. ولكن حظه كان عاثراً مع ممارسة تلك المهنة. فلم يكن الناس يقبلون على توريقه مما ضيَّق عليه في رزقه وأصابه بالتشاؤم. فيقول التوحيدي عن نفسه كما ينقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء: "وتمكن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي وتقييد خطي وتزويق نسخي وسلامته من التصحيف والتحريف بمثل ما يسترزق البليد الذي يمسخ النسخ ويفسخ الأصل والفروع".
تردّدُ كتّاب كبار مثل الجاحظ والمتنبي والأصفهاني على سوق الوراقين وامتهانُ عظماء كالسيرافي وأبي حيان التوحيدي للوراقة جعلا مجال الوراقة وسوقها ليس مجرد تجارة للقرطاسية وبيع الكتب بل ساحة للفكر والأدب والثقافة
في هذا النص يشتكي أبو حيان من عدم إقبال الناس عليه وانصرافهم إلى من هو دونه من الوراقين. ويرى الدكتور عبدالستار الحلوجي في كتابه المخطوط العربي أن عدم إقبال الناس على طلب خدمة النسخ من أبي حيان ربما بسبب حدة طبعه أو ربما لتهيب الناس منه لمكانته العلمية، لذلك كانوا يلجأون إلى من هو أقل منه ثقافة ومعرفة.
الجاحظ والمتنبي والأصفهاني في سوق الكتب
كان يتردد على حوانيت الوراقين نخبة من المثقفين أصحاب المكانة الرفيعة في الثقافة العربية الإسلامية؛ فالجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب (ت. 255هـ/869م) لم يكن فقط يتردد على حوانيت الوراقين بل كان كان كما يذكر ابن النديم في فهرسته في سياق ترجمته للفتح بن خاقان، أن الجاحظ كان يؤجِّر دكاكين الوراقين ليبيت فيها للاستمتاع بقراءة ما كان يوجد هناك من كتب.
وفي القرن التالي للجاحظ نجد شاعر العربية الكبير أبا الطيب المتنبي، كما يصفه الخطيب البغدادي على لسان محمد بن يحيى العلوي الزيدي في تاريخ بغداد (تحقيق بشار عواد معروف، 5: 166): "كان قد تعلم القراءة والكتابة، فلزم أهل العلم والأدب، وأكثر من ملازمة الوراقين، فكان علمه من دفاترهم". ويروي محمد بن يحيى العلوي الزيدي: "أخبرني ورَّاق كان يجلس إليه يوماً ما رأيت أحفظ من هذا الفتى" يقصد المتنبي.
كان الجاحظ يؤجِّر دكاكين الوراقين ليبيت فيها للاستمتاع بقراءة ما كان يوجد هناك من كتب
وتدل هذه الرواية على شدة ملازمة المتنبي لسوق الوراقين منذ صغره وصلته القوية بالورَّاقين. ويكشف لنا الخطيب أيضاً في "تاريخ بغداد" علاقة أبي الفرج الأصفهاني القوية بسوق الورَّاقين؛ فكان أبو الفرج "يدخل سوق الورَّاقين وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب فيشتري شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منها".
قرطاسية وملتقيات ثقافية
تناظر صناعة الوراقة بكل منتوجاتها وأنشطتها مهنة النشر والتحقيق في عصرنا الحديث، وبالتالي فإن حوانيت الوراقين هي مثل دور النشر والتوزيع في زماننا هذا، وكانت تلك الحوانيت تبيع الأوراق والأقلام وسائر أدوات الكتابة وفقاً لعبدالستار الحلوجي (المخطوط العربي، ط. المصرية اللبنانية ص 119). ومع قدوم القرن الثالث الهجري/العاشر الميلادي امتلأت بغداد بحوانيت الوراقين.
كان أبو الفرج الأصبهاني "يدخل سوق الورَّاقين وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب فيشتري شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منها"
يذكر اليعقوبي في كتابه البلدان "ربض وضَّاح مولى أمير المؤمنين المعروف بقصر وضَّاح صاحب خزانة السلاح وأسواق هناك وأكثر من فيه في هذا الوقت الورَّاقون أصحاب الكتب، فإنَّ به أكثر من مائة حانوت للورَّاقين".
وكان مكان تجمع تلك الحوانيت يعرف بسوق الوراقين، ولم تكن تلك الحوانيت مجرد مصانع لإنتاج وبيع الكتب بل كانت ملتقيات للفكر والأدب. فكان يلتقي بها العلماء والأدباء ويتناقشون ويتناظرون كما يُفهم مما ذكره ابن الجوزي في كتابه مناقب بغداد في سياق كلامه عن أسواق بغداد: "ثمَّ سوق الورّاقين سوقٌ كبيرة وهي مجالس العلماء والشعراء". يُشَبِّه جروهمان تلك الحال بروما القديمة التي كان يلتقي فيها خبراء الآداب (literary connoisseurs) في أكشاك بيع الكتب (booths of librarii).
ترددُ كتّاب كبار مثل الجاحظ والمتنبي والأصفهاني على سوق الوراقين وامتهانُ عظماء كالسيرافي وأبي حيان التوحيدي للوراقة جعلا مجال الوراقة وسوقها ليس مجرد تجارة للقرطاسية وبيع الكتب بل ساحة للفكر والأدب والثقافة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين