تعيش مصر منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أزمة في توفر وأسعار السكر المعبأ للاستخدامات المنزلية والصناعية نتيجة نقص المعروض في الأسواق، ما نجم عنه زيادة إضافية في أسعار المخبوزات وغيرها.
حمَّلت الحكومة المصرية المسؤولية كعادتها إلى جشع التجار، متجاهلة مشكلات تنظيمية وبيئية تتصل بالمحاصيل التي تعتمد عليها في إنتاج السكر، كما رصد رصيف22 في تقرير سابق عن ما جرى لمحصول بنجر السكر في الموسم الأخير.
ولأن هناك محصول آخر اعتمدت عليه مصر تاريخيًا في إنتاج السكر واتجهت خلال السنوات الأخيرة لخفض الاعتماد عليه نظراً لكونه من المحاصيل عالية الاستهلاك، تذكرت الحكومة المصرية قصب السكر سريعاً، في تبريرها لقرار وقف مصنع أبو قرقاص للسكر عن العمل بعد 155 عاماً لم تتوقف فيها ماكيناته عن العمل.
لم تعلن الحكومة المصرية عن نية أو خطوات لتحفيز المزارعين على توريد القصب إلى مصانعها. فهل كان هذا هو القرار الصحيح الذي لم تتخذه الحكومة المصرية، أم أنه واحد من سلسلة القرارات المتروكة وغير المدروسة التي تخبئها الحكومة في جعبتها؟
بررت الحكومة توقف المصنع بتراجع مزارعي القصب الذي يشتهر به صعيد مصر عن توريد إنتاجهم للمصنع وتفضيلهم توريده لمعاصر العسل الأسود "دبس القصب" لارتفاع سعر التوريد للمعاصر عنه لمصنع السكر الأكبر في الصعيد، من دون أن تعلن عن نية أو خطوات لمراجعة أسعار التوريد لتحفيز المزارعين على توريد القصب إلى جهات تصنيع السكر الذي تحسبه الحكومة المصرية ضمن سلعها الاستراتيجية. فهل كان هذا هو القرار الصحيح الذي لم تتخذه الحكومة المصرية، أم أنه واحد من سلسلة القرارات المتروكة وغير المدروسة التي تخبئها الحكومة في جعبتها؟
سعر توريد غير منطقي
قالت وزارة التموين المصرية في بيانها الرسمي على توقف مصنع أبو قرقاص عن العمل، إن تراجع مزارعو القصب بمحافظة المنيا بصعيد مصر عن توريد إنتاجهم لمصنع أبو قرقاص الحكومي المتخصص في إنتاج السكر لعام 2023 جاء لسبب "عدم مواءمة سعر التوريد" الذي حددته الوزارة، وان الفلاحون اعتبروا أن مبلغ 1500 جنيه (نحو 48 دولاراً للطن حسب السعر الرسمي للدولار و26 دولار حسب سعر السوق الموازية) هو سعر غير مناسب ما دفعهم للتوريد لعصارات العسل الأسود والمصانع الخاصة والتي يزيد سعر التوريد فيها عن 2000 جنيه للطن، في وقت وصل فيه سعر الطن إلى 663 دولار للطن في بعض أنحاء العالم.
محصول قصب السكر المرتبط بعديد من الصناعات المهمة التي لا تقف عند السكر، وتمتد إلى تصنيع الكحول الطبي والورق والاسمدة وغيرها من الصناعات التي كانت مصر تحقق فيها قدراً غير قليل من الاكتفاء الذاتي في أوقات سابقة
خطوة توريد السكر للمصانع الخاصة بدلاً من المصانع التابعة لوزارة التموين، طبقها فلاحون في محافظات متعددة، فيما تراجع البعض عن زراعة القصب واستبدلوه بالقمح والبنجر.
ربما يكون سعر التوريد واحداً من الأسباب لكنه ليس سبباً وحيداً في تراجع زراعة قصب السكر في مصر، بل هناك عديد من الأسباب المناخية والتنظيمية التي أدت إلى المأزق الذي تواجهه مصر حيالً في توفير احتياجاتها من محصول قصب السكر المرتبط بعديد من الصناعات المهمة التي لا تقف عند السكر، وتمتد إلى تصنيع الكحول الطبي والورق والاسمدة وغيرها من الصناعات التي كانت مصر تحقق فيها قدراً غير قليل من الاكتفاء الذاتي في أوقات سابقة.
البديل الأربح
اعتاد أحمد سحاب 55 عاماً، المزارع بمحافظة المنيا ومدير عام نقابة الفلاحين على زراعة قصب السكر منذ 30 عاماً. يزرع سحاب 6 أفدنة ينتج الفدان الواحد ما يتراوح من 30 لـ 40 طن، أرجع في حديثه لرصيف وعلى الرغم من تراجع مزارعين آخرين استمر سحاب في زراعة قصب السكر.
على عكسه خالد عيسى، المزارع وعضو جمعية المحاصيل السكرية في محافظة سوهاج المزارع، الذي تراجع عن زراعة قصب السكر منذ عام 2020 مبرراً ذلك بأن العائد من زراعته لم يعد يغطي مصاريفه. يقول عيسى: "زرعت سنة 2020 حوالي 5 أفدنة بمتوسط إنتاجية تتراوح من 25 لـ30 طن للفدان الواحد وقررت التوقف عن زراعته، لاستبداله بالقمح عامي 2021 و2022 والبنجر 2023".
ورغم أن المساحة المنزرعة من القصب هذا العام تقدر بـ300 ألف فدان، إلا أنها كانت أعلى من ذلك خلال الفترة من 2019 لـ 2021، بحسب تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ( حكومي ) بلغت المساحة المنزرعة من قصب السكر لعام 2020/2021 342.4 ألف فدان مقابـل 336.1 ألف فدان لعام 2020/2019 بنسبة زيادة قدرها 1.9٪ لتبلغ كمية الإنتاج 15.95 مليون طن عام 2021/2020 مقابل 15.86 مليـون طـن عام 2020/2019 بنسبة زيادة قدرها 0.6٪ لتحتل محافظة قنـا المرتبة الأولى بإنتاج 5.75 مليـون طن بنسبة قدرها 36.0٪.
مرحباً سد النهضة
في العام 2018، استيقظت مصر على حقيقة أنها لم يعد لديها سبل كثيرة للتحايل على ما تعانيه من فقر مائي، خاصة بعد بدء بناء سد النهضة من دون أن يكون لها قدرة على إلزام إثيوبيا باحترام حصة مصر التاريخية من المياه عقب توقيع الاتفاقية الإطارية 2015، التي أطلقت عملية بناء السد من دون ضمانات أو آليات للمراجعة وإلزام أثيوبيا بأية التزامات. نتيجة لذلك بدأت مصر في اتخاذ عدد من الإجراءات المتأخرة وغير المدروسة للحد من استخدامها للمياه للأغراض الزراعية التي تستحوذ على نصيب الأسد من استهلاك المياه في مصر. وكان من أول القرارات الحد من زراعة بعض المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه وعلى رأسها الأرز والقصب والموز، على أن يصدر وزير الزراعة سنوياً قرارات بتحديد نطاقات ومساحات زراعة كل من هذه المحاصيل.
ربما يكون سعر التوريد واحداً من الأسباب لكنه ليس سبباً وحيداً في تراجع زراعة قصب السكر في مصر، بل هناك عديد من الأسباب المناخية والتنظيمية التي أدت إلى المأزق الذي تواجهه مصر حيالً في توفير احتياجاتها من محصول قصب السكر
من وقتها استمر تفاوت المساحات المزروعة بقصب السكر في مصر، وإن اتجهت إلى الانخفاض الذي يتسع حيناً ويغدو طفيفاً في أحيان أخرى إضافة إلى تراجع إنتاجية الفدان الواحد إلى النصف، وانخفضت المساحات المزروعة بقصب السكر في مصر خلال عام واحد بنسبة 10% دفعة واحدة، من 330 ألف فدان في 2022 إلى 300 ألف فدان في 2023، حسب تصريح رسمي للدكتور أحمد عطية معهد المحاصيل السكرية التابع لمعهد البحوث الزراعية لرصيف22.
يقول الدكتور عاصم عبد المنعم الأستاذ المساعد والباحث في المعمل المركزي للمناخ الزراعي بمركز البحوث الزراعية في حديثه لـرصيف22، إنه طبقاً للتقرير السنوي لمجلس المحاصيل السكرية 2021 يقدر الإنتاج العالمي من سكر القصب بنحو 111.5 مليون طن بما يمثل نحو 62% من الإنتاج العالمي للسكر والمقدر بنحو 179.8 مليون طن. وتتركز زراعة قصب السكر فى مصر بنطاق محافظات الوجه القبلى لملائمة الظروف الجوية لزراعة القصب بها، وتبلغ عدد مصانع إنتاج السكر من القصب في مصر 8 مصانع جميعها بالوجه القبلى، ويستهلك محصول قصب السكر تحت الظروف المصرية من 8000 لـ 10000 متر مكعب من مياه الري تحت ظروف الرى بالغمر، يضيف عبد المنعم "طبقاً لبيانات قطاع الشؤون الاقتصادية بوزارة الزراعة فإن المساحة المزروعة بالقصب خلال الفترة 2015- 2021 شبه ثابتة حيث بلغت المساحة حدها الأدنى بنحو 325.9 ألف فدان فى عام 2016، فى حين بلغت حدها الأقصى بنحو 342.3 فى عام 2021 بنسبة تغيير بلغت 5% فقط، كما بلغ إنتاج مصر من السكر نحو 2.7 مليون طن فى حين بلغ الاستهلاك المحلى نحو 3.32 مليون طن فى عام 2021، ومن ثم بلغ العجز نحو 608 ألف طن من السكر يتم استيراده من الخارج بنسبة اكتفاء ذاتي 81%".
بحسب وحدة البيانات المكانية بقطاع الشؤون الاقتصادية بوزارة الزراعة تركزت زراعة قصب السكر لعام 2020 في 5 محافظات فقط وهم " قنا بإجمالي مساحة 120 ألف فدان، أسوان 91 ألف فدان، الأقصر 67 ألف فدان، المنيا 37 ألف فدان وسوهاج 17 ألف فدان".
تكلفة إنتاج مرتفعة وسعر شراء منخفض
من جهته حمل عبد النبي دميس مدير عام نقابة الفلاحين في مصر ارتفاع أسعار الأسمدة الأزوتية على المزارع لتسجل الشكارة 750 جنيه في وقت يحتاج الفدان 6 شكائر تصرف الجمعيات الزراعية 2 فقط وارتفاع تكاليف العمالة بنسبة 100%، أعباء إضافية على المزارع دفعت البعض لعدم زراعة القصب، من جهته أكد الدكتور أحمد عطية رئيس قسم التربية والوراثة بمعهد المحاصيل السكرية في حديثه لـ رصيف22 تراجع المساحة المنزرعة من قصب السكر لعام 2023 300 بدلاً من 330 ألف فدان لعام 2022، مرجعاً سبب أزمة مصنع أبو قرقاص لتراجع التوريد وليس الإنتاج، حيث تزرع المنيا وحدها نحو 30 ألف فدان، ونظرا لانخفاض سعر التوريد الرسمي من الدولة لـ1500 جنيه للطن دفع ذلك المزارعين لتوريد غالبية إنتاجهم إلى عصارات العسل الأسود التي تحصل عليه بسعر أعلى من السعر المحدد من قبل وزارة التموين، بحسب عطية تشتهر محافظة المنيا بعصارات العسل الأسود التي يقبل مزارعيها على توريد إنتاجهم لها بنسبة تتخطى الـ 90%، مطالباً بالتوازن بين سعر توريد القصب والقمح، ترخيص العصارات وحصرها لدى الدولة وتحديد سعر رسمي للتوريد للمعاصر للموازنة بينها وبين مصانع الدولة، وفقا لعطية يمثل القصب المصدر الرئيسي لنحو 40% من إنتاج مصر من السكر البالغ مجمله 2.7 مليون طن، فيما يمثل البنجر النسبة الأكبر.
أظهرت نتائج وحدة بحوث الأرصاد والمياه والبيئة بمركز البحوث الزراعية أن نتائج التنبؤ بعيد المدى باستخدام نماذج المحاكاة وسيناريوهات تغير المناخ المختلفة أن التغيرات المناخية وما تسببه من ارتفاع درجة حرارة الأرض ستؤدي لخفض إنتاجية الفدان الواحد من قصب السكر بنسبة 25%، فضلاً عن زيادة استهلاكه المائي 2.5%
بحسب الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة السكر والصناعات التكاملية المصرية فإن فدان القصب البالغ متوسط إنتاجه 35 طن، تقوم معاصر العسل الأسود بشراءه من المزارع بـ100 ألف جنيه مايعادل 3236.98 دولار من أرضه (أي تتحمل الشركة تكلفة النقل)، في الوقت الذي يقوم مصنع السكر بشراءه بـ52.5 ألف جنيه فقط، ما يدفع المزارعين لتفضيل المعاصر كجهة توريد القصب عن مصانع السكر.
هل يحرمنا التغير المناخي من السكر؟
وفقاً لـ الدكتورة سامية المرصفاوي رئيس وحدة بحوث الأرصاد الجوية والتغير في المناخ قالت في تصريح لها أن قطاع الزراعة واحداً من أكثر القطاعات التي ستتأثر سلبياً بالتغيرات المناخية في مصر، والتي من المتوقع أن تؤثر على إنتاجية الأرض الزراعية بداية من التأثير على خواص الأرض الطبيعية والحيوية، إلى جانب انتشار الآفات والحشرات والأمراض انتهاء بالتأثير على المحصول، حيث أظهرت نتائج وحدة بحوث الأرصاد والمياه والبيئة بمركز البحوث الزراعية أن نتائج التنبؤ بعيد المدى باستخدام نماذج المحاكاة وسيناريوهات تغير المناخ المختلفة أن التغيرات المناخية وما تسببه من ارتفاع درجة حرارة الأرض ستؤدي لخفض إنتاجية الفدان الواحد من قصب السكر بنسبة 25%، فضلاً عن زيادة استهلاكه المائي 2.5%.
وبحسب رئيس قسم التربية والوراثة بمعهد المحاصيل السكرية منذ تطبيق مصر قرار تحديد المساحات المنزرعة من المحاصيل كثيفة الاستهلاك من المياه، فإن نسبة الزيادة أو النقصان في المساحة المنزرعة من القصب لا تتخطى الـ10%، مشيراً إلى أن التغيرات المناخية ممثلة في درجات الحرارة المرتفعة أثرت على محصول القصب في تغيير مواعيد الزراعة والحصاد، إلا أنه من المحاصيل التي تتحمل الزيادة في درجات الحرارة والرطوبة النسبية، على عكس محاصيل أخرى.
فيما رأى الدكتور شاكر أبو المعاطى أستاذ المناخ الزراعي بمركز البحوث الزراعية أن كافة المحاصيل تتأثر بشكل أو بآخر بارتفاع درجات الحرارة بصفة خاصة والتغييرات المناخية بشكل عام، ما يتسبب في إصابتها بالإجهاد الحراري ما ينتج عنه إجهاد مائي بسبب زيادة معدلات البخ، و"بالتالي نعمل على تعويض المحاصيل بالمياه من خلال زيادة مياه الري". ويضيف في حديثه لرصيف22 أنه كلما زاد تأثر المحصول بالإجهاد، يؤدي ذلك لضعف نمو النباتات وتقزمها ما يؤدي لنقص الإنتاجية.
وفيما يخص قصب السكر تحديداً "تتأثر معدلات النمو والتقزم بالإجهاد الحراري والمائي وإجهاد الأرض والشتلات، مما يؤثر على كمية المحصول وأيضا كمية السكر المنتجة منه بدرجات الحرارة المرتفعة، ويساهم أيضاً في زيادة معدلات الإصابة بالآفات، وقد تتكرر معدلات الإصابة بذات الحشرة أكثر من مرة خلال الموسم الواحد، كما يتزايد عدد الأجيال من الحشرات ما يحمل الدولة مسؤولية توفير المبيدات لمكافحة الآفات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...