يُقدّم الفيلم الهندي "حياة الماعز" أو "أدوجيفيثام" باللغة المالايامية، والذي يُعرض حالياً على شاشة نتفليكس، فرصةً نادرةً لإطلاق رصاصة الرحمة على نظام الكفيل المعتمد في بلدان الخليج العربي التي تعجّ بالوافدين الهنود والباكستانيين وأهل البنغال عموماً.
ولولا هذه "المحاكمة" البصرية التي أرهقتها مدة طول الفيلم (نحو 3 ساعات)، لقلنا إن الفيلم محاولة درامية متواضعة لتصوير حياة شابَّين هنديَين "نجيب" و"حكيم"، تسوقهما الأقدار ليقعا بين أيدي تاجر أغنام، غليظ القلب والمشاعر، ولا يعرف الرحمة، فيقوم باختطافهما من مطار الرياض السعودي بسيارة بيك-آب، ويقتادهما إلى الصحراء، ثم يقوم بالتفريق بينهما، كما لو أنهما مُعّدّان سلفاً للتماهي والتمازج مع رمالها اللاهبة التي ستنخر جسديهما، وتدفع قدرات نجيب العقلية إلى التضاؤل مع مرور الوقت، فيما يحافظ حكيم نسبياً عليها، فيظهر هذا حين يلتقيان مجدداً، وهما يعدَّان للهروب، وهو ما تفصح عنه تلك الرمال للمشاهدين وهم يتابعون فكرة الفيلم عن الصراع من أجل البقاء.
لا يخفي الفيلم تلك النظرة الفاحصة لنظام الكفيل "الرهيب"، الذي ينظّم حياة الوافدين، وتواطؤ السلطات معه، وتسهيل الوصول إلى الهاربين من كفلائهم، وإعادتهم بالقوة إلى أماكن عملهم، وإن تردد أن القصة حقيقية، وهي تروي حكاية شاب هندي قصد السعودية بناءً على عقد عمل مبرم مسبقاً مع ربّ عمله، فوجد نفسه في الصحراء بين الأغنام، وأن ما سبق حكاية دارت فصولها طوال عامين في المعزل الصحراوي، ولم يكن المكان آدمياً على الإطلاق، إلى أن يتمكن "صاحبنا" بالطبع من الفرار، وأن ثمة روايةً هنديةً عالجت الموضوع أعيدت طباعتها نحو 250 مرةً باللغة المالايامية الهندية التي يتحدث بها بطل الرواية والفيلم.
لا يخفي الفيلم تلك النظرة الفاحصة لنظام الكفيل "الرهيب"، الذي ينظّم حياة الوافدين، وتواطؤ السلطات معه، وتسهيل الوصول إلى الهاربين من كفلائهم، وإعادتهم بالقوة إلى أماكن عملهم
في فيلم "حياة الماعز"، للمخرج بليسي، اعتناء واضح بتفاصيل الصحراء، ومكوناتها البصرية (جرى التصوير في الصحراء الجزائرية ووادي رم)، بل إن هذا قد يُحسب له بالإضافة إلى قدرته على الإمساك بعناصر فيلمه في عالم قائم على استحالة أن تتوافر فيه وحدة عضوية واحدة لهذه المكونات، لما تمثله ذرَّات الرمل المنسحبة من طبيعة جهنمية، من تحلل وتفسخ وعدم التصاق ببنية واحدة، فجاءت أدوار الممثلين التي تفاوتت في مستوياتها.
سوى ذلك إنها أضافت هنا مسحةً من التركيب الدرامي "المعقّد" لولا أن "أهدره" المخرج حيناً بالإطالة التي كان ممكناً التفلّت منها بسهولة، لو أخضعه للمونتاج الديناميكي الذي يكتفي بنفسه بدل سلسلة من عمليات الفلاش-باك التي عافتها السينما الجديدة، ولم تعد تلجأ إليها بالطريقة التقليدية، وبحثت عن حلول جديدة في السرد، بغية عقد المقارنة بين حياته السابقة، والحياة الجديدة التي وقع أسيراً لها بسبب جشع مقاول هندي في قريته دفع به إلى مصير بائس، بعد أن استولى على مدّخراته من البيت الذي باعه ليترك أمه وزوجته الحامل في العراء من أجل البحث عن فرصة عمل في فردوس الخليج "المفقود"، قد تسهم بشكل أو بآخر في تحسين ظروف حياته المعيشية.
لكن ما يقع فيه نجيب، لا يمكن لمخلوق أن يتحمَّله، وأقل ما يقال فيه إنه مصير غير آدمي، فحين يغرق بين الأغنام والهجن، يفقد آدميته بالتدريج، ويرطن ببعض أصوات الحيوانات، ويعيش بينها، ويأكل معها، ويشرب معها، بل ينسى اسم صديقه حكيم حين يلتقي به في تلك الصحراء الشاسعة التي لا ترحم. وفي هلوساته اليومية لا ينفك يعود بمخيلته إلى حياته الأولى ليعقد مقارنةً بين الماء والكلأ والخضرة والوجه الحسن الذي تمثله هنا زوجته الجميلة الحامل بابنه نبيل، وبين حياة الصحراء المتوحشة التي قدّمها له المختطف بعد أن صادر منه ومن زميله جوازَي سفرهما، وفرَّقهما كما أسلفنا، بأن سلّم حكيماً إلى تاجر آخر، ليعيش محنته أيضاً بالطريقة نفسها.
هذه الانتقالات أضعفت من الفيلم، وسمحت بتفكيك تماسكه محاكاةً لميكانيكية تجمّع الرمل نفسه، وقد كان ممكناً التخلص منها بسهولة، لولا أن التصوير البديع للصحراء دفع المخرج على ما يبدو للتشبث بلقطاته، وإعادة تركيبه بالشكل الذي شاهدناه به، خاصةً أن ما يريد أن يقوله لنا الفيلم قد وصل إلينا بالكامل منذ الساعة الأولى: ها هنا رجل مستبد، وراعٍ طاغية لا توجد ذرَّة رحمة واحدة في قلبه الأسود، وقد يتفوَّق في عدائيتها على كل رمال الصحراء التي تحيط بالبطل، وهذا الرجل سوف يسلبه إنسانيته، ويرميه بين حيواناته ليرعاها، ويتماهى معها بالتدريج، وسوف يشتمه بالعربية التي لا يتقن سواها، بكلمة "كلب" عشرات المرات، وهي شتيمة لم يعد لها معنى إطلاقاً في الفيلم، فيما كان الممثل العُماني "طالب البلوشي"، يكررها كثيراً في أثناء تعامله اليومي مع نجيب بغية إخضاعه، وتحويله إلى حيوان آدمي إن جاز القول.
فقدر الشاب أنه يعيش بين الحيوانات حياةً أحطّ من حياة الكلاب نفسها، فلماذا الإصرار عليها بكل هذا العناد، وقد كان ممكناً الاستغناء عنها، وتطوير النص الدرامي من داخله، بدل أن تتحول الشتيمة إلى كليشيه؟ وما معنى أن تقول لشخص "يا كلب" دائماً، وهو يعيش حياة الحيوانات نفسها، وربما حياةً أقلّ منها، فهي تجد ما تأكله وتشربه، فيما هو مضطر إلى الأكل معها؟
يُقدّم الفيلم فرصةً نادرةً لإطلاق رصاصة الرحمة على نظام الكفيل المعتمد في بلدان الخليج العربي التي تعجّ بالوافدين الهنود والباكستانيين وأهل البنغال عموماً
يلوب الفيلم على نفسه، وينفخ في محتواه الدرامي، إذ لم يعد أمام نجيب ما يفعله سوى التفكير في الهرب، فيخفق في محاولته الأولى، ويقوم "مالكه" بتحطيم مشط قدمه ببندقيته، ما يسبّب له عرجاً دائماً فيها، وحين يلتقي بحكيم مرةً أخرى وسط رمال الصحراء والقيظ والهجير يصبح في وسعهما التفكير في جدوى الهرب، وهنا يعرّفه صديقه إلى رجل إفريقي خبير في مجاهل الصحراء، ويغادرون ثلاثتهم حين يذهب مالكه للاحتفال بزواج ابنته على أن يعود في اليوم التالي. لكن ما هو غير مفهوم هنا على الإطلاق، هو لماذا لم يتزودوا بالماء في رحلتهم الأسطورية المحفوفة بالمخاطر، وهو متوافر، بل كان في وسعهم ثلاثتهم أن يستخدموا الجِمال، في هروبهم، وهي متوافرة أيضاً، واختاروا المشي هائمين على وجوهم في الصحراء، وحين يبلغ اثنان منهم واحة خضراء وسط هذا الجحيم يكون حكيم قد لفظ أنفاسه، ومسحته الرمال من الوجود؟
سوف يموت الرجل الإفريقي أيضاً في الرحلة، بعد أن يترك له زجاجة ماء، من تلك الواحة الغارقة في العدم، وحين يبلغ الإسفلت، ويسمع صوت تدحرج الزجاجة عليه، يدرك ما بين حياة "الماعز" وموتها، أنه قد نجا بحياته. وفيما ترفض بعض السيارات العابرة نقله إلى أقرب مكان آدمي، يجد في نهاية صراعه مع الصحراء المتوحشة رجلاً طيباً وسمحاً ينقله معه، ويقدّم له الماء في الطريق.
لكن محنته لن تنتهي هنا، فعادةً يأتي "الكفلاء" إلى أمكنة التوقيف والحجز في أقسام الشرطة بغية البحث عن الهاربين من موظفيهم، ويتعرف إليه التاجر، ولكنه لا يستطيع أن يُرجعه إلى مكان عمله، فهو ليس كفيله، وقد سبق له أن اختطفه من المطار مع زميله. هنا يتحرر قليلاً من سطوة هذا الرجل القاسي، ويستعد للركوب في الطائرة من دون أوراق رسمية بغية ترحيله مع أقران له إلى بلاده، حيث سيعانق لغته وزوجته وابنه مجدداً. لكن الرجل الحقيقي الذي استلهمت قصته في هذا الفيلم سوف يعود للعمل في مملكة البحرين، بل إن بعض المصادر تقول إن ابنه نبيلاً يعمل حالياً في سلطنة عُمان، وكأن دائرة الكفيل التي ناضل من أجل إغلاقها في "حياة الماعز"، تأبى أن تُغلق في الواقع الحقيقي من تلقاء نفسها!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...