تتقاطع في قصة هذا الفيلم السخريةُ مع الجدية، ويشتبك فيها التوثيق مع الخيال، ويبدو أن صاحبها يحاول أحياناً أن ينال رضا أكبر عدد ممكن من الجمهور، فيميل مع التيار للوصول إلى أقصى قدر ممكن من الإثارة والهزل، ثم يرتدّ مباشرةً إلى وضع عكسي ليذكّرهم بالهدف من العمل عليها، وهو تسجيل حيوات بعيدة عن المشاهد، ونادرة التواجد في عالم ما بعد الحداثة، تقف تحديداً على رهانات سباق الحمير، في فيلم يصدّر نفسه للجمهور تحت المسمّى نفسه.
"سباق الحمير" فيلم وثائقي من إخراج محمد باقر، القادم حديثاً إلى السينما من عوالم الإعلانات. هذه التفصيلة تشرح نوعاً ما السبب الذي جعل هذا الفيلم الأشهر في الدورة العاشرة من مهرجان أفلام السعودية (2 إلى 9 أيار/مايو 2024)، ينتظره ويتحدث عنه أغلب الحضور حتى قبل مشاهدته، ولم أكن أعرف السبب فعلاً إلا بعد أن شاهدته.
بشكل عام كانت المسابقة الوثائقية في المهرجان هي المسابقة الأهم بين المسابقات في أثناء الدورة. كان الجميع في مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي "إثراء"، مكان المهرجان الذي شاركت في تنظيمه جمعية السينما السعودية، بدعم من هيئة الأفلام التابعة لوزارة الثقافة، مهتماً بكل فيلم في المسابقة.
قصة هذا الفيلم تتقاطع فيها السخرية مع الجدية، ويشتبك فيها التوثيق مع الخيال، ويبدو أن صاحبها يحاول أحياناً أن ينال رضا أكبر عدد ممكن من الجمهور، فينجرف مع التيار للوصول إلى أقصى قدر ممكن من التهريج
ضمّت المسابقة عشرين فيلماً: "كتم الأنفاس" لعيسى الصبحي، و"لا ترتاح كثيراً" لشيماء التميمي، و"سعد" لنواف عبد العزيز الحرابي، و"هورايزن" لفايبان لامير، و"بر سار" لمحمد جاسم، و"قدّها" لنهلة الصغير، و"هدهدة" لعلي العبد الله، بجانب فيلم "رجل الغابة المخفية" لخالد جميل الهوسة، و"روح رمضان" لعبد الله محمد عكاشة، و"سباق الحمير" لمحمد باقر، و"الإيحلة" لمحمد مجيد المبارك، و"درب زبيدة – رحلة هايكنج" لدنيا العطوة، و"دهجان الورد" لمحمد عبد الله العجمي، و"الشتاء الأخير" لحيدر داوود، و"بعد 48" لعلي البيماني، و"أصوات العلا" لميتوشكا الكوفا، و"المحطة السابعة" لعبادة أحمد الحمامي. ومع ذلك كله، كان الفيلم الوثائقي "ذاكرة عسير" للمخرج سعد طحيطح، الذي كان قد فاز بجائزة من قبل في مسابقة الجزيرة الوثائقية قبل أن يفوز فيلمه هذا أيضاً بجائزة النخلة الذهبية للموضوع الوثائقي الفريد، والذي نحاول الحديث عنه هنا، يحمل أكثر من معنى، أبعد قليلاً من مجرد الحُكم الفني عليه.
كان فيلم "سباق الحمير" الأشهر في المسابقة بلا شك، وربما الفيلم الذي تفاعل معه الجمهور أكثر من غيره قبل العرض وفي أثنائه، ونحاول هنا الوقوف على تجربة المخرج حديث العهد سينمائياً، وسياقات حسن استقبال الفيلم في السعودية التي تدخل إلى الصناعة السينمائية بكل قوة.
رهانات مضحكة تستهدف التوثيق
تدور قصة فيلم "سباق الحمير" الأساسية، حول مجموعة من المزارعين في مدينة الأحساء السعودية، الذين يربّون حميراً للمشاركة بها في السباقات المختلفة. تصبح هذه الوظيفة الغرائبية محطة رزقهم الأوسع، وشهرتهم بين الجميع بشكل استثنائي. الجميع منذ الدقائق الأولى للفيلم أصبح غاطساً في قلب الشخصيات التي يراها على الشاشة، أحياناً لغرابتها المضحكة وأحياناً أخرى للنموذج الفريد الذي تمثّله كل شخصية على حدة.
يستغل المخرج هذه الفكرة للاعتماد عليها في ذاتها، تارةً ينجح في إظهار ذلك، وتارةً أخرى يبدو تدخله للتساؤل مقحماً واستنكارياً، حول بعض التفاصيل التي استهدف خلالها الضحك في ذاته والسخرية من أبطاله، وهو شيء يبدو بشكل واضح أنه قادم به من عالم الإعلانات الساخر دائماً.
تدور قصة فيلم "سباق الحمير" الأساسية، حول مجموعة من المزارعين في مدينة الأحساء السعودية، الذين يربّون حميراً للمشاركة بها في السباقات المختلفة.
يقول المخرج محمد الباقر في حوار مع رصيف22: "أنا قديم نسبياً في عالم الإعلان والإعلام. عملت في التصوير الفوتوغرافي وإنتاج الإعلانات وإخراجها، وكنت أحتاج إلى مشروع أتنفس من خلاله بعيداً عن عالم الأعمال والضغوط التجارية كـ’سباق الحمير’، لذلك أتمنى أن أجد الوقت والمال لأصنع أشياء مماثلةً وتشبهني أكثر، فـ’سباق الحمير’ هو أول مشروع فيلم أصنعه بجدية ولو أني صنعت الكثير من التجارب القصيرة والبسيطة جداً قبله كفيلم ‘شاي ورق’ وفيلم ‘نظام حياة’ وفيلم ‘بصمة جبل’، وغيرها من الأعمال التي أعدّها الأعمال الأولى التي عليّ أن أتعلم من خلالها".
يقرر الباقر الاعتماد على عدد من المقابلات مع مربّي الحمير المختلفين، من هنا يظهر الخط الكوميدي الأول في الفيلم، تحديداً في التسميات التي يقررها أصحاب حمير السباق لحميرهم: بيبسي وكادلاك وغيرهما، والتي تشبّه تلك الحمير بالسيارات الشهيرة، وتخلق تلك المقارنة الاسمية سخريةً تتحاوز السخرية التي ينالها الفيلم نفسه بالحمير التي تتشبّه في سباقها بالخيل، الأكثر أصالةً وفخراً لأصحابها.
تُكثّف القصة ذاتها في سياق ملحمي للاختتام بيوم السباق الكبير، الذي يعتمد عليه كل صاحب حمار للسباق والتربّح. كل حركة في الفيلم تؤدي إلى ذلك اليوم، من متابعة تربيتهم ويومهم الطبيعي، وكيفية تعامل كل واحد منهم مع حماره: مصدر رزقه. لذلك تظهر حياتهم كلها في الفيلم كحدث عارض، كاريكاتورية ومستهجنة، يعطيها هذا السباق الذي جاء في شكل ملحمي صورةً حالمةً وبريئةً.
يبدو الفيلم في سياق واسع توظيفاً مذهلاً في التعرف أكثر على السينما السعودية في السنوات الأخيرة. يحمل نموذجاً للاستثمار في الكوادر الجديدة مثل المخرج، وتجربةً رائدةً للنقد والتفاعل حول مهنة دائماً ما كان أصحابها موضعاً للسخرية. يقول الباقر إن "الدعم الملحوظ للسينما السعودية كبير جداً، ونستشعر اهتماماً كبيراً على جميع الأصعدة كصناديق دعم الأفلام والخدمات الاستشارية والبرامج التدريبية وغيرها، وهناك حضور ونمو ملحوظ عالمياً للفيلم السعودي؛ مثلاً فاز فيلم سعودي في كان، وكذلك فيلمي يعكس رؤيةً جديدةً ومختلفةً عن تنوع البشر والحياة في السعودية".
ويضيف: "قد تكون المهرجانات أكبر مؤثر ومشجع لي للتوجه نحو صناعة فيلم فني وثائقي كـ’سباق الحمير’. الاستشارات في مهرجان البحر الأحمر في برنامج أيام المواهب كانت مفيدةً، واللقاء بالمختصين في مهرجان أفلام السعودية كذلك. في أثناء عملي على الفيلم، كانت ثيمة إحدى السنوات عن الكوميديا، والأخرى عن الوثائقيات، وهذا كان مليئاً بالمشاهدات الغنية التي ساعدتني في الوصول إلى الضحكات الوثائقية الموجودة في الفيلم الآن. كذلك في السعودية لدينا صناديق دعم وتطوير وتدريب كثيرة وأعترف بتقصيري في البحث والاهتمام بالتقديم والمحاولات".
سينما سعودية تحتاج إلى التجريب أكثر
يحكي الباقر في حواره أن الأجواء والشخصيات، في أول زيارة له لسباق الحمير، كانت مذهلةً ومرحةً، خاصةً أسماء الحمير: "لفت انتباهي أول حمار سمعت اسمه، وهو 'بروسلي"'. وفي الوقت الذي أتردد فيه في معرفة رأيي في الشكل الأفضل لهذه القصة؛ مثلاً لو كانت قد خرجت في شكل روائي بدلاً من النموذج التسجيلي الذي خرجت فيه، يحكي لي الباقر رؤيته: "أعتقد أن الأقرب إلى قلبي هو الوثائقي الكوميدي، وأعتقد أنني بحاجة إلى أن أمارس هذا المجال أكثر لأصنع أعمالاً أفضل بإذن الله". لقد لاحظت أن الحضور كان كبيراً والإقبال كان من الرجال والنساء، لكن لم يكن هناك أحد يصوّر السباق لأنه كان يُعدّ 'محرجاً'. كان هناك إحساس بأن الأمر 'عيب'. هذا السلوك أثار اهتمامي، فكيف يشعر أصحاب الحمير عندما يأتي كل هؤلاء الناس للتشجيع بحبّ؟ لكنهم يخجلون منهم ولا ينشرون أي محتوى عنهم على مواقع التواصل الاجتماعي".
وبشكل متردد سألته ما الذي يهمّ الجمهور غير السعودي من قصة هذا الفيلم؟ فأجاب الباقر بأن "الفيلم كان يعرض جوانب غير معروفة من الثقافة السعودية بطريقة كوميدية وواقعية، ما يضفي عليه جاذبيةً خاصةً. تنوّع وعمق الثقافات والمجتمعات في السعودية، عنصران رئيسيان يبرزان في هذا الفيلم. نحن نسلط الضوء على مجتمع الحمير في الأحساء، والذي يمثل جزءاً صغيراً ولكنه غني بتنوعه المستمد من النسيج الاجتماعي السعودي. من خلال هذا الفيلم، نعرض حياة أشخاص من خلفيات متنوعة، بمن فيهم المعلمين والأطباء وعمال النفط، وكلهم يشتركون في حبهم لهذه الهواية الفريدة".
يكمل المخرج: "يمكن عدّ الفيلم سيرةً مهمةً أبعد من محليته، لأنه يعالج قضايا اجتماعيةً مثل وصمة العار الاجتماعية، بأسلوب يمزج بين الطرافة والعاطفة، ما يتيح للجمهور في جميع أنحاء العالم أن يفهم ويشعر بتلك القضايا. من خلال تصوير حياة الناس وتفاصيلهم اليومية، نأمل أن نقدم للجمهور العالمي نافذةً جديدةً لفهم تنوع الحياة والهوية السعودية. الفيلم ليس مجرد قصة محلية، بل هو احتفاء بالتنوع الإنساني والثراء الثقافي الذي يميز المجتمع السعودي.
يبدو الفيلم في سياق واسع توظيفاً مذهلاً في التعرف أكثر على السينما السعودية في السنوات الأخيرة. يحمل نموذجاً للاستثمار في الكوادر الجديدة مثل المخرج، وتجربةً رائدةً للنقد والتفاعل حول مهنة دائماً ما كان أصحابها موضعاً للسخرية
بالتأكيد نحن كصنّاع أفلام سعوديين تأخّرنا في الدخول إلى عالم السينما، ولكن الهوية السعودية مميزة جداً، والترفيه والمزاح والنكات السعودية لها طابع مختلف ورائع جداً، البشر هم أساس أغلب الحكايات، وحكايات البشر في السعودية بالذات الكوميدية منها أعتقد أنه مع الممارسة ستكون لها مساحة تميّز عالمية وليست عربيةً فحسب".
يقول الباقر إن مهرجان الأفلام السعودية ومهرجان البحر الأحمر يحملان أهميةً خاصةً بالنسبة له كمخرج، ويوفر كل منهما فرصةً فريدةً لصانعي الأفلام في السعودية. ولذلك قرر تقديم فيلمه في مهرجان الأفلام السعودية، لأنه شعر بأن الجمهور المستهدف والنغمة العامة للفيلم كانا متوافقين بشكل أفضل مع هذا المهرجان. لكن هذا لا يقلل من قيمة مهرجان البحر الأحمر، حسب ما قال لنا، "فأنا لا أنسى الدعم الذي قدمه لي عندما كنت أعمل على تطوير فكرة الفيلم في أيام المواهب هناك. بالتأكيد، المهرجانان يقدّمان مساهمات مهمةً للساحة السينمائية في السعودية".
وفي النهاية، فيلم "سباق الحمير" الذي حصد جائزة المهرجان، المادية والمعنوية أيضاً، من خلال التصفيق الحاد الذي ناله من الجمهور، بالرغم من الملاحظات الخطابية والإخراجية عليه، والتي يحتاجها ليخرج في المرة القادمة في نموذج أكثر عالميةً، يبدو نموذجاً مذهلاً لصنّاع السينما السعوديين الجدد، الذين يحتاجون إلى قصص مماثلة ليتناولوها بنوع من الجرأة والقوة والتحرر النسبي، وربما لهذا السبب كان هذا الفيلم، دون غيره، الأشهر في المهرجان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه