شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لماذا يتبرّع أثرياء العالم بملياراتهم؟... من يدعم العلم ومن يدعم الإرهاب؟

لماذا يتبرّع أثرياء العالم بملياراتهم؟... من يدعم العلم ومن يدعم الإرهاب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 29 يوليو 202404:38 م

هل فكرت يوماً ما الذي يجعل أثرياء الولايات المتحدة أو أوروبا يتخلون عن جزء كبير من ثرواتهم للمصلحة العامة العلمية، سواء على شكل أسهم أو على شكل وصية بعد موتهم؟ وهل تغيّر هذه التبرعات الفلكية الصورة النمطية التي يشكلها معظم الناس عن الأثرياء؟

يلعب رأس المال دوراً مهماً في تشكيل الثقافة والمجتمع، فهو يتمتع بالقدرة على التأثير على الفكر من جانب، وعلى تعبئة الجماهير من جانب آخر، وعلى التغيير السياسي والديني من جانب مختلف. مع ذلك، فإن علاقته بالثقافة والمجتمع معقدة ومثيرة للجدل، ففي حين أنه يمكنه تعزيز التنمية الفكرية والتماسك الاجتماعي والوحدة السياسية والدينية والعشائرية، يمكنه أيضاً أن يؤدي إلى الجهل والانقسامات المجتمعية في نواحي الدين والسياسة والعشيرة.

للسيطرة على الإعلام والرأي العام

أحد أبرز تأثيرات رؤوس الأموال على تشكيل الرأي العام نراها في وسائل الإعلام المملوكة أو الخاضعة لسيطرة الشركات الكبرى والدول، التي تستخدمها للترويج لمصالحها وأيديولوجياتها. يمكن أن يؤدي هذا إلى الانجراف بعيداً عن الحياد الإعلامي، وتركيز السلطة في يد أشخاص بعينهم وتضييق وجهات النظر لصالح هؤلاء الأشخاص.

من ذلك، تسمح هيمنة عدد قليل من منصات التواصل الاجتماعي بالتحكم في تدفق المعلومات والتأثير على الرأي العام، وبناء رأي عام موازٍ وفقاً لمصالح الممول ورغباته وقناعاته. 

يلعب رأس المال دوراً مهماً في تشكيل الثقافة والمجتمع، لقدرته على التأثير على الفكر من جانب، وعلى تعبئة الجماهير من جانب آخر، وعلى التغيير السياسي والديني من جانب مختلف. 

هذه الرؤية تتحقق ليس فقط من خلال الشكل الاقتصادي الكلاسيكي للرجل الثري الواحد صاحب الثروة، بل أيضاً من خلال الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات، وهي شركات تعمل في بلدان متعددة مع الحفاظ على مقر رئيسي مركزي. يمنحها وزنها الاقتصادي مزايا كبيرة مثل الوصول إلى أسواق متنوعة، والقدرة على الاستثمار الأجنبي المباشر، وعلامات تجارية مشهورة وغيرها.

لقد ساهمت هذه الشركات في تدفق رأس المال والسلع والخدمات لفئة قليلة جداً من الناس، فأدى صعودها إلى ظاهرة تفتت الثروة. يعني هذا المصطلح الفجوة المتزايدة بين النخبة الثرية المساهمة في هذه الشركات، وبين عامة الناس الذين يعانون قلة الأجور وضعف الفرص.

يقول دكتور محمد فتحي يونس، خبير الإعلام لرصيف22: "إن الشركات الكبرى متعددة الجنسيات تتحكم في الإعلام، هذا صحيح. الفيسبوك مثلاً أتاح فرصاً للنشر والحرية للجميع، ولم تعد الثنائية سلطة سياسية أو دينية مقابل من ينتزعها. لكن في المقابل فرض الفيسبوك خوارزمياته وهبط بالسقف على الجميع. الشركات المتعددة الجنسيات أو المال تؤثر على الإعلام وعلى الثقافة، لكن البديل هو إعلام الأنظمة. الإعلام الخاص هو السائد في العالم الغربي وهو أيضاً يتأثر ببوابات المال وجماعات الضغط. ما الجديد؟ الناس تستفيد من تضارب المصالح وجبهات رأس المال المتعارضة."

أثرياء العالم الذين تبرعوا بثرواتهم

في عام 2021، أفادت منظمة أوكسفام أن أغنى 1% في العالم لديهم ضعف ثروة 99% المتبقية مجتمعة كمثال واضح على تفتت الثروة. هذا التفتت واضح في البلدان التي تستضيف عمليات كبيرة للشركات المتعددة الجنسيات، حيث يؤدي هذا الوضع إلى سيطرة الأغنياء والمساهمين في هذه الشركات على الإعلام. غالباً ما يكون هؤلاء قيادات دولة ومسؤولين وعناصر أحزاب ممن وجدوا فرصاً للوصول والمساهمة، وليسوا فقط أصحاب شركات، مما يعني أن سيطرة رأس المال على الإعلام يحدث بأشكال مختلفة وعبر طرق مختلفة من بينها السياسة. 

تبرع بيل غيتس بمئات الملايين من الدولارات لتحسين التعليم. وتعهد مارك زوكربيرغ وزوجته بالتبرع بـ 99% من أسهمهم في فيسبوك للأعمال الخيرية وفي مقدمتها تحسين جودة التعليم. بينما أنفق الأخوان كوتش أكثر من 120 مليون دولار لإنكار التغير المناخي

إن العلاقة بين رأس المال والتنمية الفكرية متعددة ومتقلبة. يمكن لرأس المال تطوير الفكر من خلال توفير الموارد اللازمة للتعليم والبحث العلمي والابتكار. على سبيل المثال، تبرع بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، وأحد أغنى الأشخاص في العالم، والمعروف بأعماله الخيرية، من خلال مؤسسته بملايين الدولارات لتحسين التعليم والبحث في الولايات المتحدة وحول العالم.

بالمثل، فعل مارك زوكربيرغ مؤسس موقع فيسبوك، وأحد أبرز الشخصيات في صناعة التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي، إذ تعهد وزوجته بريسيلا تشان التبرع بنسبة 99% من أسهمهم في فيسبوك للأعمال الخيرية وفي مقدمة ذلك تحسين جودة التعليم.

من ناحية أخرى، يمكن لرأس المال أيضاً أن يؤدي إلى الجهل من خلال تعزيز معاداة الفكر وتقويض قيمة التعليم. على سبيل المثال، أنفق الأخوان كوتش ملايين الدولارات لتمويل المنظمات التي تروج لإنكار تغير المناخ وتقويض البحث العلمي وفقاً لمنظمة السلام الأخضر العالمية ومقرها هولندا. الأخوان كوتش هما رجلا أعمال أمريكيان وأصحاب شركات طاقة.

وفقاً لمجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية ومقره نيويورك، ووفقاً لصحيفة الغارديان البريطانية، قام الأخوان كوتش بتوجيه أكثر من 120 مليون دولار إلى أكثر من 100 منظمة تنكر تغير المناخ بين عامي 2002 و2010.

رؤوس الأموال الداعمة للإرهاب

وفقاً للمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب، إن تمويل الإرهاب مادياً هو العصب الرئيسي للجماعات المتطرفة لدعم عملياتها، حيث يضمن لهم استمرار أنشطتهم الإرهابية. تنوعت مصادر تمويل التنظيمات المتطرفة بين الاحتياطيات النقدية وتحويل الأموال، والتحالف مع العصابات الإجرامية لخطف المدنيين وطلب الفدية، وجمع التبرعات والتمويل الخفي عبر الإنترنت، كذلك امتلاكهم عملات رقمية مشفرة تصل قيمتها إلى مئات ملايين الدولارات.

ومن أمثلة ذلك تنظيم داعش، الذي تصنفه الحكومات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك وزارة الخارجية الأمريكية والأمم المتحدة، جماعة إرهابية بسبب حملاته العنيفة ضد المدنيين ودعايته التي تهدف إلى التحريض على الجهاد العالمي.

كما كشفت الخارجية الأمريكية في 30 كانون الثاني/يناير 2024 عن إدراج بعض الممولين لداعش في قائمة العقوبات. وزارة الخزانة الأمريكية أدرجت شخصاً تركياً على لائحة الإرهاب، واسمه عدنان محمد أمين الراوي مع شخص آخر بعد أن توصلت إلى أنهما قدما دعماً مالياً أو لوجستياً لتنظيم داعش. أعلنت السلطات التركية في حزيران/يونيو الماضي، أن قوات الأمن ألقت القبض على 11 شخصاً مشتبهاً بهم في إطار عمليات مكافحة تمويل تنظيم داعش. 

في عام 2021، أفادت منظمة أوكسفام أن أغنى 1% من الأشخاص في العالم لديهم ضعف ثروة  99% المتبقية مجتمعة. ما يؤدي إلى سيطرة الأغنياء والمساهمين في هذه الشركات على الإعلام.

كذلك، تنظيم القاعدة الذي تصنفه وزارة الخارجية الأمريكية منظمة إرهابية أجنبية بسبب تورطه في أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. كشفت السلطات الأمريكية بعضاً من عمليات تمويل التنظيم، كالابتزاز وتهريب النفط ومبيعاته والاتجار بالبشر والاختطاف مقابل فدية وجمعيات خيرية مزيفة وتبرعات من محسنين في الخارج، كذلك شركات واجهة تعمل في نشاط دولي لصالح التنظيم، ومؤسسات مالية رسمية تتعامل معه، وجهات مانحة أو ميسرين ماليين للتنظيم، ومؤسسات مالية أو مكاتب صرافة تسهل معاملاته، وشركات أو استثمارات مملوكة أو خاضعة لسيطرة التنظيم أو مموليه، إضافة إلى حملات جمع تبرعات عبر الإنترنت يطلقها التنظيم أو تُطلق لصالحه.

الحكم الأخلاقي على الثراء بين الرأسمالية والشيوعية

هذا يلقي الضوء على سلوك ذوي رؤوس الأموال اجتماعياً. وفقاً للفكر الشيوعي، تشير سلوكيات ذوي رؤوس الأموال في كثير من الأحيان إلى الأنانية وحب السيطرة ومزيد من الأرباح. هنا تكون سيطرة رأس المال على المجتمع والإعلام خطراً يتهدد الثقافة، حيث تُستبدل قيم المجتمع الأخلاقية الراسخة بقيم أخرى توافق مصلحة رأس المال وقناعاته العدوانية أحياناً، مما يتعارض مع قيم التكافل والإيثار والتواضع والمساعدات، مما دفع البعض لدراسة سلوكيات البشر وفقاً لطبقاتهم الاجتماعية.

وقد أشار كارل ماركس في كتابه "رأس المال" إلى جانب من هذه السلوكيات للطبقة العليا، حين قال: "إن الرأسمالي لا يثري كما يثري البخلاء بالامتناع عن الاستهلاك، ولكنه يثري باستغلال قوة عمل الآخرين، وإجبارهم على التنازل عن جميع مسرات الحياة ومباهجها".

في دراسة للدكتور بول بيف في جامعة كاليفورنيا وآخرين، قال إن أفراد الطبقة الدنيا هم أكثر كرماً وخيرية وثقة ومساعدة مقارنة بنظرائهم من الطبقة العليا. يُضيف أن أفراد الطبقة الدنيا تصرفوا بطريقة أكثر إيجابية للمجتمع بسبب التزامهم الأكبر بقيم المساواة ومشاعر التعاطف، بينما أفراد الطبقة العليا هم أكثر عرضة لإظهار ميول غير أخلاقية في اتخاذ القرارات، وأخذ سلع ذات قيمة من الآخرين، والكذب في المفاوضات، والغش لزيادة فرصهم في الفوز بجائزة، وتأييد السلوك غير الأخلاقي في العمل مقارنة بأفراد الطبقة الدنيا. أظهرت البيانات أن الميول غير الأخلاقية لأفراد الطبقة العليا ترجع جزئياً إلى الجشع، ويعني الحرص على جمع الأموال باستمرار.

للدكتور بول بيف العديد من الأبحاث التي تكشف توجهه الاقتصادي والنفسي، أبرزها اهتمامه بكيفية تأثير البنى الاجتماعية والاقتصادية على السلوك البشري. غالباً ما يستكشف بحثه كيف يشكل الوضع الاجتماعي الاقتصادي وجهات النظر حول الأخلاق والتفاعلات الاجتماعية وحتى تصورات الآخرين. من أعماله محاضرة مرئية بعنوان: "هل المال يجعلك شخصاً سيئاً؟"

نظراً لتفشي سلطة رأس المال في الهيمنة على الإعلام، رأى البعض أن ذلك نتيجة للتفاوت الطبقي وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء منذ عقود، وأن سيطرة الإعلام والمال على الثقافة تتسع كلما اتسعت هذه الفجوة الطبقية.

يقول توماس بيكيتي في "كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين" وفقاً لستيفاني فلاندرز بجريدة الغارديان البريطانية: "إن رأس المال أصبح أكثر تفاوتاً في التوزيع منذ سبعينيات القرن العشرين، ليس فقط في الولايات المتحدة بل وفي أوروبا أيضاً، وأن هذا الاتجاه نحو اتساع فجوة التفاوت في الثروة من المرجح أن يستمر، لأن العائدات من رأس المال من المرجح أن تنمو بسرعة أكبر من الاقتصاد نفسه، وبسرعة أكبر من قدرة أصحاب هذه الثروة على إنفاقها".

هل الثراء عيب؟

من وجهة نظر أخرى، يقول دكتور محمد فتحي يونس لرصيف22: "إن قطاعاً كبيراً من المثقفين يعتبر الثراء عيباً، ربما ناتج ذلك من التربية الأيديولوجية لبعض شرائح اليسار. الإبداع لا يشترط الفقر المادي، هل كان تولستوي فقيراً؟ أو إبراهيم الكوني أو حتى نجيب محفوظ؟".

ويضيف: "أما دور الأثرياء في تدشين الجوائز، أرى أنها ظاهرة ليست جديدة. جوائز مثل سعاد الصباح والبابطين وغيرها لم تختطف الأدب. لكن في المقابل فجوائز القذافي وصدام حسين، فالفن الجيد يبقى، وفكرة الجوائز نفسها دورها ثانوي في تخليد الفن، إلا لو كانت حسنة السمعة".

عودة إلى دور المال في تشكيل الرأي العام، إذ يقول د. حازم محفوظ، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: "في الواقع، تسهم وسائل الإعلام المرئية في تحسين أو تشويه الصورة الذهنية للمجتمع في الداخل والخارج، بل وقد تصلح أو تفسد علاقات الأفراد بعضهم ببعض داخل الوطن الواحد، وكذا علاقة الوطن بدول العالم الأخرى.".

ويقول خبير الإعلام روبرت ماك تشيسني في كتابه "مشكلة وسائل الإعلام: سياسة الاتصال الأمريكية في القرن الحادي والعشرين": "إن المشكلة لا تكمن فقط في تحيز الأخبار؛ بل تكمن أيضاً في سيطرة صناعة قوية بشكل غير عادي على ما يعرفه العالم، أو يعتقد أنه يعرفه عن معظم القضايا."

وفي كتابه "الديمقراطية بلا صحافة: في مواجهة مجتمع التضليل" يشير فيكتور بيكارد إلى الأمر بقوله: "إن قوة وسائل الإعلام ورأس المال في حشد الجماهير راسخة، حيث يمكن استخدام وسائل الإعلام لتشكيل الرأي العام، ويمكن استخدام رأس المال لتمويل الحملات السياسية والتأثير على السياسة. مع ذلك، يمكن أيضاً استخدام هذه القوة لأغراض أكثر شراً مثل نشر المعلومات المضللة والتلاعب بالمشاعر العامة، وأن أزمة الصحافة تكمن في الاعتماد المفرط لوسائل الإعلام على عائدات الإعلانات.". 

أعلنت السلطات التركية في حزيران/يونيو الماضي، أن قوات الأمن ألقت القبض على 11 شخصاً مشتبهاً بهم في إطار عمليات مكافحة تمويل تنظيم داعش. وكشفت السلطات الأمريكية عن عمليات تمويل منظمة كالابتزاز وتهريب النفط والاتجار بالبشر والجمعيات الخيرية المزيفة لتمويل التنظيم 

كما ناقش الفيلسوف الاجتماعي نيل بوستمان في كتابه "استسلام الثقافة للتكنولوجيا" ذات التساؤل "إن التركيز المفرط على الثروة المادية يمكن أن يؤدي إلى الجهل وتآكل مهارات التفكير النقدي. في عصر تهيمن عليه وسائل الإعلام الرقمية والمقاطع الصوتية، هناك خطر يتمثل في أن المصالح التي تحركها رأس المال قد تعطي الأولوية للربح على تنمية العمق الفكري والدقة".

كم يكلف ترويج فكرة واحدة؟

لكن هل يمكن أن تؤدي الثروة إلى الركود الفكري والجهل أيضاً؟ فوسائل الإعلام باعتبارها شكلاً من أشكال رأس المال تتمتع بنفوذ كبير على الثقافة والمجتمع. هي قادرة على حشد الجماهير من خلال نشر الأفكار والنظريات والرؤى والمعلومات. لأن هذه القوة غالباً ما تكون في أيدي قِلة من الناس، يؤدي ذلك إلى تركيز النفوذ الثقافي في أيدي هذه القلة وبالتالي سيطرتهم على الجماهير.

من وجهة نظر مختلفة، يقول دكتور محمد فتحي يونس لرصيف22: "إن رأس المال مهم جداً ودوره القديم في صناعة الثقافة ليس ظاهرة طارئة. في السينما مثلاً فيلم (أوبنهايمر) الحائز على أوسكار تكلف مائة مليون دولار. الصناعات الثقافية مكلفة، والأمر لا يقتصر على الجانب الإبداعي المبدئي كالتأليف مثلاً أو الفكرة بل مراحل أخرى تالية. في المقابل، هي صناعة كثيفة العمالة وتخلق فرصاً. برأيي، لا يجب أن ننظر لرأس المال كشر محض."

وقد روّج الفيلم المذكور لفكرة تعقيدات المسؤولية الأخلاقية والعلمية التي واجهها العلماء المشاركون في تطوير القنبلة الذرية خلال مشروع مانهاتن، مع التركيز على حياة ج. روبرت أوبنهايمر، المدير العلمي للمشروع، والتحديات النفسية والأخلاقية التي واجهها نتيجة لاستخدام هذا السلاح المدمر.

يقول محمد شميس، خبير الإعلام والناقد الفني لرصيف22: "إن فكرة سيطرة رأس المال على الإعلام تليق فقط بالقنوات المملوكة للشركات، لكنه لا ينطبق على الإعلام البديل في وسائل التواصل الاجتماعي المستقل تماماً عن هذه الشركات. يتيح هذا الإعلام الفرصة للناس بعرض أفكارهم مهما كانت صعبة وخطيرة مثل معاداة الأديان والقول بخرافيتها. إضافة للتقدم التكنولوجي لهذا الإعلام البديل في الجرافيك والتقنيات الحديثة مما يسهم في جودة العرض. للتأكيد على ذلك، فإن الاهتمام الأكبر للشركات العاملة في الإعلام حالياً هو على نقل المعروض على الشاشة إلى المنصات الإلكترونية باعتبار أن هذه المنصات هي الهدف الأساسي والاهتمام الأكبر لصناعة محتوى على المنصات الإلكترونية. يضيف أن القنوات الإعلامية الرسمية المملوكة للدولة أو للشركات لم تعد تستحوذ على اهتمام الناس التي وجدت ضالتها في الموبايل والتابلت في سماع الأخبار والمحتوى من المنصات الإلكترونية".

رؤوس الأموال ونوعية التعليم

إن التوفيق بين رأس المال والتعليم والبحث مهمة معقدة تتطلب توازناً دقيقاً بين قوى السوق المتغولة، أو بمصطلح آخر نفوذ الأثرياء ورأس المال وبين حرية البحث العلمي، إذ يؤدي عدم التوازن إلى حدوث خلل يعطي التعليم والبحث ومعها فرص الوظائف للأكثر مالاً لا الأكثر كفاءة ومهارة، وتعطي الأولوية لرأس المال على حساب العلم ومستجداته، حيث يقف ذوو رؤوس الأموال أحياناً عقبة أمام حرية البحث العلمي خشية نتائجه على أرباحهم ومكتسباتهم.

تدعو الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم في كتابها "تنمية الإنسانية: دفاع كلاسيكي عن الإصلاح في التعليم الليبرالي" إلى التركيز على تعليم العلوم الإنسانية والقيم الليبرالية والحريات وحقوق الإنسان. تجادل بأن هذه الدراسات لا ينبغي أن تُضحى بها لكبار السوق أو لمراكز القوى السياسية والاجتماعية. بدلاً من ذلك، تفترض أن هذه العلوم والحريات ضرورية لحريتنا، وقدرتنا على المشاركة في الحكم الذاتي، وحساسيتنا لكرامة البشر الآخرين.

وفقاً للاقتصادية الفنزويلية كارلوتا بيريز، فإن رأس المال والثقافة متشابكان في رقصة معقدة من الثورة التكنولوجية والتغيير الاجتماعي. يمكن لرأس المال أن يؤثر على الثقافة والمجتمع بطرق مختلفة. على سبيل المثال، يمكنه تشكيل المؤسسات التعليمية ومراكز الأبحاث، مما يؤثر على نوع المعرفة التي يتم إنتاجها ونشرها. يمكن أيضاً استخدام الموارد المالية لتعزيز قيم وممارسات ثقافية معينة، مع تهميش قيم وممارسات أخرى. في كتابها "الثورات التكنولوجية ورأس المال المالي: ديناميكيات الفقاعات والعصور الذهبية"، تقول بيريز إن رأس المال المالي يلعب دوراً حاسماً في دفع الثورات التكنولوجية، ولكن لا يمكن دعم هذه الثورات إلا إذا كانت متوافقة مع الاحتياجات والقيم المجتمعية.

تقول بيريز إن هناك نوعين من رأس المال لهما أهمية خاصة بالنسبة للتعليم والبحث: رأس المال الإنتاجي ورأس المال المالي. يتم استثمار رأس المال الإنتاجي في إنشاء وتوسيع الأنشطة الإنتاجية، بينما يتم استثمار رأس المال المالي في الأصول المالية. العلاقة بين هذين النوعين من رأس المال قد تكون متقلبة، حيث يعمل رأس المال المالي في بعض الأحيان على تقويض الأهداف الطويلة الأجل لرأس المال الإنتاجي.

تشير بيريز هنا إلى خطورة قيام رأس المال المالي، وهو مصطلح يُقصَد به السيولة المالية والمدخرات الناجمة عن ثروات طبيعية، في التأثير على الثقافة والبحوث والتعليم والتطور البشري. يتغول في بعض الأحيان على أهداف رأس المال الإنتاجي، المقصود به الآلات الصناعية والزراعية العاملة لرفع معدلات الإنتاج، في إشارة إلى الربط بين تطور الثقافة البشرية ونهضة التعليم وبين رفع الإنتاج. الثروات الخاملة والمكنوزة لها أهداف مختلفة عن الثروات الإنتاجية، حيث تراعي الأولى أهداف وأطماع وجشع الإنسان، بينما تراعي الثانية مبدأ الربح والتطور والبناء.

يمكن تلخيص هذه المشكلة في العلاقة بين رأس المال والتعليم، في سعي رأس المال إلى تحقيق عوائد فورية على الاستثمار، بينما يحقق التعليم والبحث فوائد على مدى فترات طويلة ممتدة. يعني ذلك سعي رأس المال إلى نتائج ملموسة في زمن قصير، بينما طبيعة التعليم والبحث مختلفة حيث أن نتائجها الأكثر دقة تتطلب وقتاً طويلاً وإلى نتائج غير ملموسة في البدايات. كذلك في تركيز رأس المال على المصلحة الخاصة وأنه مدفوع في المقام الأول بالمكاسب الشخصية، بينما التعليم والبحث يفيدان المجتمع ككل، وجهودهما مدفوعة للعمل للصالح العام.

كذلك تكمن المشكلة في العلاقة بين رأس المال والتعليم في الأولويات المتضاربة، حيث يؤكد التعليم على التفكير النقدي والتنمية الشاملة، في حين تعطي قوى السوق الرأسمالية غالباً الأولوية للتخصص وقابلية التوظيف الفوري. هذا مسعى اجتماعي لا يهتم بالتفكير النقدي أكثر من إرضاء الأغلبية والاستعانة بمتخصصين يفكرون وفقاً للسائد. هي النقطة التي أشار لها الفيلسوف المصري مراد وهبة في كتابه "جرثومة التخلف"، حين وصف هذه الفئة الرأسمالية المعيقة للتفكير النقدي "بالبراجوازية الطفيلية"، وهي المقابلة لبرجوازية الإنتاج التي تنفق على البحث والتعليم وتنمية المهارات الفكرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image