بصدمة كبيرة، استقبل عمر الشوبكي (63 عاماً) قرار إخلاء منزله في حي الدرج بمدينة غزة، بعدما أعلن الجيش الإسرائيلي بدء عملية عسكرية بالمنطقة مساء الأحد 7 تموز/ يوليو 2024.
ترك الشوبكي منزله وراءه، رفقة 25 فرداً من أبنائه وأحفاده. هرعوا جميعاً تحت النار والرصاص وشظايا القذائف المدفعية.
وبأعجوبة، وصلوا إلى غرب مدينة غزة، مثلهم مثل آلاف النازحين الذين خرجوا حفاة من بيوتهم. "وصلنا إلى أطراف حي الرمال الشمالية. كنت أتوقع النزوح. لكن لم أكن أتخيل أن تكون الرحلة قاسية إلى هذا الحد"، يقول الشوبكي لرصيف22.
وبعد ساعات من طلب الجيش إخلاء فوري لأحياء الشجاعية والدرج والتفاح شرق المدينة، بوغت النازحون بعملية عسكرية عنيفة في المناطق التي ادعى الجيش بأنها "آمنة" جنوب غربي المدينة، توغلت فيها الآليات العسكرية في المكان تحت غطاء ناري كثيف.
وخلال هذه العملية، التي استهدف فيها الاحتلال الطرقات والمنازل والشقق، استشهد وجُرح العشرات، فيما لم تتمكن طواقم الإسعاف من التحرك باتجاههم من شدة القصف.
نزح هذه الليلة آلاف من بيوتهم التي لم يتركوها منذ بدء الحرب. ومن قُتل فكانت هذه المرة الأخيرة التي سينزح فيها. وربما هم قلة قليلة من سكان غزة لم تنزح ولو مرة واحدة منذ بداية الحرب التي قالت تقارير أممية إن نحو 1.9 مليون غزي نزحوا أكثر من مرة خلال الحرب.
النزوح للمرة الأولى
في رحلة نزوحه الأولى منذ بداية الحرب، استقر الشوبكي رفقة عائلته في منزل يعود لأحد أقربائهم. "لم ينم أحد طوال الليل بسبب أصوات القصف المرعبة. وبعد انتصاف الليل، تفاجئنا أن قوات الاحتلال تقدمت نحو أطراف حي الرمال من المنطقة الجنوبية وحاصرت مربع الجامعات والصناعة، وبدأت بإطلاق النار العشوائي على النازحين في الشوارع"، يقول مضيفاً.
اضطر أفراد العائلة لمغادرة المنزل ليلاً خوفاً من تقدم الآليات الإسرائيلية تجاههم. فاتجهوا نحو منطقة "الصفطاوي" في بلدة جباليا شمال القطاع. وقرروا النزوح في مدرسة حكومية هناك، فمكثوا فيها بانتظار انسحاب إسرائيلي من منطقتهم.
يصف الشوبكي تجربة النزوح للمرة الأولى مع هذا الكم من أفراد العائلة بالمريرة والقاسية، قائلاً: "إن الموت أهون من اللحظة التي يغادر فيها المرء مجبراً إلى المجهول، مختبراً شعور التوتر المستمر حتى لحظة انسحاب الجيش الإسرائيلي، ليعود ويتفقد ما ترك. إما أن يجده، أو أن يكون تحول إلى رماد".
ويوضح أن بعض الأحياء التي أجبر أهلها على إخلائها هذه المرة "لم تتعرض للتحذير سابقاً خلال الحرب. وأن هناك كثيرين نزحوا لأول مرة من مناطق مثل الصحابة والنفق والسدرة وبعض الأحياء المجاورة لها. مبيناً أن هذه الأحياء كانت نوعاً ما أفضل من غيرها.
فقد حاول سكانها التأقلم مع حالة الحرب ووفروا بدائل للكهرباء واجتهدوا في حل مشكلة عدم توفر المياه. لكن أمر الإخلاء جاء ليمحو كل شيء بلمح البصر، على حد تعبيره.
لا يختلف حال الشابة شروق حلس (24 عاماً)، عن حال الشوبكي، في وصفها لتجربة النزوح للمرة الأولى. سكنت حلس حي الصحابة ولم تغادره منذ بداية الحرب.
تقول لرصيف22: "خرجت مع عائلتي دون أن نحمل شيئاً. وتوجهنا فوراً إلى مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، حيث يسكن أقارب والدتي. فمكثنا ضيوفاً في منزلهم".
وتردف: "فكرة الخروج من المنزل والتشتت وفقدان كل ما اعتاده الإنسان في حياته اليومية، مرعبة جداً وتكلف العقل عناء التفكير والقلق".
مشيرةً إلى أن ما زاد من خوفهم هو تقدم الجيش بشكل مفاجئ من المناطق الجنوبية والغربية لمدينة غزة ومحاصرته للنازحين وقتله وإصابته لهم بدم بادر في الشوارع.
إن الموت أهون من اللحظة التي يغادر فيها المرء مجبراً إلى المجهول، مختبراً شعور التوتر المستمر حتى لحظة انسحاب الجيش الإسرائيلي، ليعود ويتفقد ما ترك. إما أن يجده، أو أن يكون تحول إلى رماد
محاصرة النازحين في الأماكن الآمنة
يسكن هاني الحلو (41 عاماً) حي الدرج قرب البلدة القديمة بمدينة غزة. وحين أُمر الحي بالإخلاء ترك منزله وخرج. يصف تلك اللحظة لرصيف22: "خرجنا من منازلنا نركض دون أن نحمل شيئاً. نبحث عن الأمان وفقط".
توجه هاني ومن نزح معه إلى غرب المدينة، حسب أوامر جيش الاحتلال. ومكثوا هناك في مدرسة حكومية. إلا أنهم تفاجأوا بعد منتصف الليل بصوت الحزامات النارية التي ترافقت مع تقدم الآليات الإسرائيلية تجاه مكان نزوحهم.
ويوضح أن جيش الاحتلال قتل مواطنين كانوا يبيتون بالشوارع. بعدئذ، حاول الهرب من المدرسة برفقة عدد من الرجال خوفاً من تقدم الاحتلال نحوها لاعتقالهم. ونجح بالهرب رفقة عدد من النازحين. تاركاً وراءه زوجته وأطفاله الستة، لا يعرف مصيرهم حتى هذه الساعة.
"المتوقع من الجيش في مثل هذه الحالات ألا يعتقل النساء والأطفال ويسمح لهم بالمغادرة بعد ساعات. لكن ذلك لم يحدث إلى الآن"، يؤكد الحلو.
ويضيف: "ادعى الجيش أن مناطق غرب مدينة غزة آمنة. لكن ما حدث في الحقيقة كان مصيدةً للنازحين ليتم اعتقالهم وتعذبيهم ويمارس بحقهم مجازر تخالف القوانين والأعراف الدولية".
أما الشاب زكي عطا الله (21 عاماً) فيصف مشاهد نزوح الناس من مناطق التفاح والدرج، قائلاً: "كان المشهد أشبه بيوم القيامة. مرعباً جداً. نزح الآلف فزعين، كانوا يتعثرون بعضهم ببعض. الأطفال يبكون والنساء شاحبات. والجميع يحاول النجاة بنفسه".
كان زكي يعيش مع عائلته المكونة من 8 أفراد في حي التفاح شرق مدينة غزة. ويصف لرصيف22 كيف أن أفراد العائلة، بعد تهجيرهم من البيت، وصلوا بصعوبة إلى حي الرمال ومكثوا هناك على أحد الأرصفة ينتظرون مصيرهم بعدما فشلوا في إيجاد مكان يؤويهم.
ويشير زكي إلى أنهم بالأصل من سكان حي الرمال. لكن شقتهم تدمرت في بداية الحرب وانتقلوا للعيش في منزل آخر.
"تفاجأنا بتقدم آليات الاحتلال من الغرب والجنوب. ركضنا مسرعين. وكان جل همي عند والدي المقعد الكبير في السن. كيف سأنجو به؟"، يتساءل زكي.
ويتابع: "قررت حمله على ظهري والفرار به من المكان. كانت أمي وأخواتي يركضن خلفي. وكنا نتعرف بعضنا على بعض بالصوت فقط، لأن الظلام كان دامساً حينها".
كان المشهد أشبه بيوم القيامة. مرعباً جداً. نزح الآلف فزعين، كانوا يتعثرون بعضهم ببعض. الأطفال يبكون والنساء شاحبات. والجميع يحاول النجاة بنفسه
جريمة الإخلاء طالت المستشفى المركزي
أجبرت أوامر الإخلاء الإسرائيلية السلطات الصحية بمدينة غزة على إخلاء المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" الواقع بجهة الشرق. ما أدى إلى تفاقم الحالة الصحية الصعبة لبعض المرضى الذين يحتاجون لعناية خاصة، وإلى ازدياد الضغط على المستشفيات التي تعمل بالحد الأدنى في شمال غزة.
وبحسب شهادات عدد من المواطنين، فقد نُقلت عدة حالات من الجرحى إلى المستشفى الإندونيسي شمال القطاع، عقب إخراجها من المستشفى "المعمداني"، فيما غادر جرحى آخرون برفقة ذويهم قبل أن يكملوا رحلة علاجهم.
يذكر محمد سلمان (25 عاماً) وهو جريح كان يمكث في مستشفى "المعمداني" أن قرار الإخلاء المفاجئ أدى إلى ارتباك كبير في صفوف المرضى والكوادر الطبية. وعلى الفور، هم الجميع بالمغادرة. موضحاً أنه غادر رفقة ابن عمه وقبل أن يكمل علاجه. وقد أصيب سلمان في قدمه قرب حي الشجاعية. مبيناً أن مرافقه حمله وركض به لعدم قدرته على المشي بسبب الإصابة، ونقله إلى مكان آمن حيث تقيم عائلته بمنطقة "النفق".
ويختم: "تركت خلفي في المستشفى الكثير من الجرحى والطواقم الطبية التي حوصرت داخل المستشفى. لا أدرى ما حلّ بهم. كل ما أذكره أننا مررنا بساعة صعبة جداً، لم يكن في بال أحد منا شيء سوى النجاة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.