شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مرحباً يا أبي... لقد صنعت ليلى فلسطين جديدة، تعال إليها قريباً

مرحباً يا أبي... لقد صنعت ليلى فلسطين جديدة، تعال إليها قريباً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأحد 28 يوليو 202401:47 م

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا. 

هكذا الأمر إذاً؟

"على الأشياء الجميلة ألا تأتي متأخرةً"؛ كنتُ قد قرأت هذه العبارة في أحد دفاترك القديمة، بينما كنتُم أنتَ وأمي تحزمان الأمتعة لنغادر مصر في رحلةٍ بدت لي أنها لم تنتهِ أبداً. برغم أننا وصلنا إلى أوروبا بالفعل، إلا أنني لا زلت أنتظر الوصول إلى الوجهة التي كنا نقصدها بعد مغادرتنا مصر. لا أعرف إذا كنتَ تفهم قصدي، فأنت أيضاً خرجت بنا من قطاع غزّة في رحلةٍ مشابهة، نحو مدينةٍ لا يمكن الوصول إليها، مهما بذلنا من مسافاتٍ وجوازات سفر.

كنتُ في محطة القطار، متجهةً لمناقشة أستاذي حول بعض الفصول في مشروعي البحثي، فكما أخبرتك في رسالتي السابقة لم يعد يفصلني عن المناقشة النهائية سوى بضعة أسابيع، وكان البردُ قارساً في المحطةِ، إلى ذلك الحد الذي يعيدك إلى أقصى مكانٍ في الذاكرة. كنت أفكرُ أن عليّ أن أكون مبتهجةًً أكثر مما كنتُ عليه، حين تذكرتُ تلك العبارة: "على الأشياء الجميلة ألا تأتي متأخرةً"، وأعتقد أنها لأحد أصدقائك المجانين، كما كنت تصفهم.

ما زال ذلك الحلمُ يراودني أحياناً؛ ساحة بيتنا في غزة، شجرة الليمون، والأرجوحة، وعصافير الدوري التي لم أرَها منذ غادرنا القطاع، ما يجعلني غالباً أصدّق أن تلك الدوريات كانت الجنّيات السحرية لطفولتي، إذ حتى في الحلم أرى أجنحتها تلمع في الشمس بين أغصان الليمون، تماماً كما كانت في تلك الأيام! والنهاية نفسها دائماً للحلم نفسه، يتحول كلُ شيءٍ إلى اللون الأبيض تدريجياً، ثم أستيقظ بشعورٍ بالثقل، وهناك ما يفوتني، فتصير علاقتي بأي "أشياءٍ جميلة" علاقةً مشروخةً، كذاكرتي عن فلسطين. 

"على الأشياء الجميلة ألا تأتي متأخرةً"؛ كنتُ قد قرأت هذه العبارة في أحد دفاترك القديمة، بينما كنتُم أنتَ وأمي تحزمان الأمتعة لنغادر مصر في رحلةٍ بدت لي أنها لم تنتهِ أبداً. برغم أننا وصلنا إلى أوروبا بالفعل، إلا أنني لا زلت أنتظر الوصول إلى الوجهة التي كنا نقصدها بعد مغادرتنا مصر

قبلَ أيامٍ، كنتُ مع أصدقائي في كافيه "جاز"، في بودابست، بعد أن حضرنا حفل افتتاح لآتيليه جون صديقتي، وفي لحظةٍ بدأ العازف في الكافيه يؤدي مقطوعةً شرقيةً، فقالت جون: "عازف الساكسفون شعر بروحٍ عربية هنا!"، فما كان منّي إلا أن رددت التحية ببعض رقصات الأعراس الفلسطينية، وبدوتُ حزينةً بعدها!

قال أحد الأصدقاء: "لن ترتوي ليلى حتى تحمل العالم وتعود به إلى فلسطين، أو تحمل فلسطين إلى العالم". لم أفكر كثيراً في الأمر، فلطالما حذّرتني من بشاعة الابتذال، ولكنني أقول في هذه الأيام، ربما تكون الأشياء الجميلة تحدث متأخرةً ومشروخةً، لأننا نحن الذين ابتعدنا عن الزمن الفلسطيني… لا أدري، عقلي يختنق حين أفكر في الأمر.

لقد انتقلت إلى شقتي الجديدة، كانتَ أياماً مضنيةً تلك التي قضيتها في التجهيز للانتقال، ولكن أعتقد أن الأمرَ يستحق -لا أعرف إن كان كذلك بالفعل- كل ما في الأمر أنني حصلتُ على عمل جديدٍ في بودابست؛ سأعطي دروساً في الأدب العربي والموسيقى الشرقية في معهدٍ للآداب يطل على الدانوب، ربما هذا ما دفعني للانتقال من دون تفكير. 

قال أحد الأصدقاء: "لن ترتوي ليلى حتى تحمل العالم وتعود به إلى فلسطين، أو تحمل فلسطين إلى العالم". لم أفكر كثيراً في الأمر، فلطالما حذّرتني من بشاعة الابتذال.

صحيح أنني تمرّدت عليك، وصلبت علم فلسطين في شقّتي التي تطلّ على ثلوجٍ لا تنضب. هل تتذكر حين قلت لي في زيارتك الأخيرة إنك لا تحب أن ترى علم فلسطين مصلوباً على الجدران، يكفي أن الفلسطيني نفسه مصلوب على الوقت منذ بدء الخلق؟ هل تتذكر؟ ها أنا أخالفك وأقرر أن أُصلب أنا وعلم فلسطين معاً، هكذا على الأقل أشعرُ ببعض الألفة، وسط هذه الأضواء والثلوج والوجوه الضائعة في الحداثة كلها.

أتوقع تماماً ما ستقوله الآن: "إن التآلف مع التيه، يؤدي إلى نهاياتٍ غريبة"، ولكنك تعرف أيضاً أن لكلِ زمنٍ أدواته، ومنطقياته، وفلسفاته، وأن التيه عندك ليس كما هو عندي، لكنني متأكدة أنك لن تصير رجلاً عجوزاً أبداً، ستظلّ تعرفني، كما أعرفك، مهما مرّت علينا عواقب طموح العقل البشري، وسنظلّ نتذكر أغانينا في غزّة. لا أريد أن أفرط في الشاعرية. أعرف أنك ما زلت تكره الحميمية المفرطة، وتقول وأنت تشعل سيجارتك: "لن تنقذنا العناقات الطويلة من مشقّة الطريق".

سأناقش بعد قليلٍ مشروعي البحثي عن الغناء الفلسطيني، والأرض، والروح، وأشياء كثيرة، ولا أعرف لماذا الآن وفي هذه اللحظة تلحّ عليّ هذه الأسئلة وهذه الصور كلها. لا أعرف. قلت لا أعرف كثيراً. أفكر الآن في الهرب إلى غزّة، إلى ذلك المكان الذي وصفه صديقنا غسان كنفاني بـ"البلد المقتول الذي يشبه لوحات فاشلةً رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض". لماذا وأنا على أعتاب مستقبلٍ مزيّن بأشكال الأضواء جميعها، وألوانها كافة، أفكر في بلدٍ مقتول؟ ما الذي تركناه هناك عند الأرجوحة تماماً؟!

ربما يكون هذا الكلام بالنسبة لك سرداً عاطفياً كاذباً لفتاةٍ متوترة، فأنت غادرتَ غزّة غاضباً، مكتفياً من الأسئلة. أما أنا فقد ورثت عنك الأسئلة كلها، بلا غضبٍ، أو تأففٍ، بل كأمٍ تحتضن صغارها، أنا راضيةٌ عن هذا الإرث، أتذكر أنك لطالما رمقتني بنظرات اعتذارٍ. حتى أصدقاؤك المجانين أنفسهم، كنت أرى في أعينهم النظرة الغريبة نفسها!

ولكن لا بأس! أنا غير غاضبة، بل تسرقني في كثيرٍ من الأحيان لحظاتٌ أبعد من "الأشياء الجميلة" التي تأتي متأخرةً، شيءٌ يشبه الفخر، ولكنه ليس فخراً، ربما هو شعورٌ بأنني لدي ما أقوم به في هذا العالم البارد، عليّ أن أصنعَ فلسطين جديدةً، هنا، وفي كل مكانٍ أعبره. 

ليلى هي ابنة الكاتب، وتبلغ من العمر اليوم أربع سنوات، وتعيش مع والدها ووالدتها في غزّة. كُتب هذا النص المتخيّل في أثناء حرب الإبادة على غزّة

هكذا الأمرُ إذاً يا أبي، محمد تيسير الذي يكره أن يُثقل اسمه بالكلام الكثير، ربما على الأشياء الجميلة ألا تأتي متأخرةً، كما قلتم أنت وأصدقاؤك الشعراء المجانين، ولكنك اليوم تكملُ فيَّ أسئلتك، لأصل إلى نتيجةٍ أخرى، بمعزلٍ عن مجيء الجمال من عدمه. إن الفلسطيني أنّى كان، يكون في وظيفةٍ "خاصة"؛ أن ينتفض من بلاده المقتولة، ليحفظ العالم من الموت، إذ هو الأكثرُ خبرةً في فن صناعة حياةٍ من لا شيء.

هذه فلسطين. الإجابة عن الأسئلة كلها، تلك المتجاوزة لحدود المكان والزمان، والخير والشر، والآلهة، والحجارة، تنهضُ غير مكترثةٍ بالحدود، أو الجغرافيا، وعلم الاجتماع والسياسة، لتقول كلمتها سواء على أرض فلسطين، أو خارجها، لا بدّ من أسطورةٍ لكل عصرٍ تحفظ العالمَ من موته المستمر.

ذاهبةٌ الآن كفلسطينيةٍ في مهمةٍ خاصة في عالمٍ يحتضر، وأريد منك أن تخلق أعذاراً لخيالي الجامح، أو أن تباركني في مهمتي الخاصة، في كلا الحالين نحن بحاجةٍ إلى الخيال، أتطلع إلى لقائنا القادم، أعرف أنه بعد رسالتي هذه سيكون لدينا الكثير لنتحدث عنه.

ليلى هي ابنة الكاتب، وتبلغ من العمر اليوم أربع سنوات، وتعيش مع والدها ووالدتها في غزّة. كُتب هذا النص المتخيّل في أثناء حرب الإبادة على غزّة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image