شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حديث الأربعاء

حديث الأربعاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 10 يوليو 202411:40 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.

استمتع رائف بروتينه اليومي داخل منزله، ثم نظّف كل مربع فيه ورتّبه. مرت الساعات الأولى من اليوم بنجاح، لذا حين جاءت ساعة منتصف الظهيرة، وغمر منزله ضوء جديد، قرر أن يكافئ نفسه لأنه لم يمت في أثناء النوم. بالنسبة لرجل تجاوز المئة عام، كان ممتناً للشعيرات التي تخبو داخل فتحتَي أنفه، لذا ظلّ يدعكها بشفته العلوية يميناً ويساراً، كأنه يتعرف على الهواء من جديد. وُلد رائف في عام 2030، العام الذي تغيرت فيه خريطة العالم، بسبب حروب وأوبئة ومجاعات لم تكن تشبه أياً مما حدث من قبل. صبّ رائف لنفسه كأساً كبيرةً من ماء نقع فيه زهوراً وأوراق شجر منذ الليلة الماضية. عادةً يقطف الأزهار والأوراق من قصاري الزرع التي يضعها أمام نافذة منزله، أو من الحدائق التي يمر عليها ويجد فيها ما يعجبه. يبحث ويكتشف خصائص كل نوع على غوغل، ثم يصنع في كل مرة كوكتيلاً مختلفاً. هذه طريقته في التخفيف من الوحدة والرقابة في الليل، وثقل ساعات النهار وإيقاف صرف راتبه التقاعدي.

عند الثانية ظهراً، أغلق نافذته الزجاجية الوحيدة التي تطلّ على الشارع. خفف ذلك من ضجيج القطارات المعلّقة والسفن التي تمرّ في ميناء أبوقير. منزل رائف عبارة عن حجرة واحدة مستطيلة، مساحتها 6 أمتار مربعة، وهي مساحة كل المنازل في التجمع السكني "ج". أفرغ رائف نصف علبة طعام القطط في وعاء وضعه بجوار الثلاجة، ولم يسقط شيئاً منه على الأرضية، وعاد ليستند إلى حوض المطبخ. لم تتوقف قطته عن اللعب مع خيوط تخرج من سجادة تتوسط الصالة، وهي سجادة من "الستان" الخوخي اشتراها من إسطنبول قبل سبعين عاماً، في أثناء إجازة زواجه. غرس شوكته في العلبة، وظلّ يقلب مكوناتها. 

استمتع رائف بروتينه اليومي داخل منزله، ثم نظّف كل مربع فيه ورتّبه. مرت الساعات الأولى من اليوم بنجاح، لذا حين جاءت ساعة منتصف الظهيرة، وغمر منزله ضوء جديد، قرر أن يكافئ نفسه لأنه لم يمت في أثناء النوم 

بعدها طرق بشوكته مرتين على العلبة الصفيح، لكن قطته لم تستجب للإشارة. طرق بشوكته مرةً أخرى، فاقتربت القطة بهدوء حتى وصلت إلى الطبق. خلف رائف دولاب معلّق، مرصوصة فيه علب طعام القطط في صفوف، كل صف يحمل نكهةً مختلفةً، وأمام كل صف ملصق مكتوب فيه اسم يوم من أيام الأسبوع. غريب أن رائفاً لم يطلق أبداً اسماً على قطته، برغم أنها معه منذ ولادتها. أهدته جارته واحدةً من القطط عند الولادة. لحست قطته حِيَف الطبق وما تبقّى من طعام الأمس، برغم صعوبة لعقه لأنه ملتصق بالطبق كالصمغ، من دون أن تقترب من الطعام الجديد الذي وضعه رائف. بدا أن رائفاً كان يتوقع منها تحية الصباح أو تعليقاً جديداً ساخراً عن معنى الحياة، والاسم الجديد الذي تطلقه كل يوم على التجمع السكني الذي يقطن فيه، واسم الميناء والمدينة القديمة. مرت ثلاثة أيام وهما لا يتبادلان حديثاً ولا يلعبان. مسح رائف فمه وكفّيه بفوطة المطبخ، من دون أن ينهي طعامه، ثم التقط كرةً إلكترونيةً بحجم البيضة. تردد قليلاً، ثم اختار من القائمة التي انبثقت منها برنامج "التحدث إلى حيوانك الأليف". اختار رائف شراء نسخة البرنامج التهكمية. لقد بيع منها في عام واحد أكثر مما بيع من البرنامج الأصلي، منذ أن تم الإعلان عنه إلى وقتنا هذا. هذه النسخة التهكمية تسمح لك بإضافة وتعديل المفردات باللغة العربية، مع الإبقاء على الفكرة الأساسية للمنتج الأصلي الذي يترجم لغة الحيوانات.

أضيء الطوق حول عنق قطته، وخرج صوت معدنيّ لفتاة من الطوق:

"أخيراً تريد أن تسمع، الطعم لذيذ ومقرف في آن. صحيح أنه مختلف عن الأمس، لكنه ممل، ويشبهك تماماً. أستطيع أن أعرف كل ذلك وأكثر من دون أن أتذوقه، ومن دون أن أشمّ رائحتك. رائف... رائف، انتبه إليّ، أولاً وقبل كل شيء، لا تمدّ يدك إلى طعامي. لا تتقاسمه معي. أتمنى أن تنزع مقلتيك قبل أن تفعل ذلك مرةً أخرى. شاهد وبتركيز برنامج حديث الأربعاء مع القائد، القائد المحبوب، وأجب بعدها عن الأسئلة بشكل صحيح، واحصل على راتبك التقاعدي، ودعني أستمتع بموسيقى المقدمة، ونحصل كلانا على طعام جديد. رائف هذا الوضع لا يجب أن يستمر، هذا الوضع لا يجب أن يستمر بعد الآن، لا أجد ما أقوله أكثر. رائف انتبه إليّ، رائف أنا هنا، لا تقل لي إنك برغم كل شيء تستمتع بحياتك. أنت سخيف، وأمك تعرف أنك سخيف".

أصبحت مساحات المنازل موحدةً في مدينة الإسكندرية الجديدة، بعد أن تم إخلاء معظم أحيائها القديمة وتحويلها إلى مدينة سياحية، تكلفة قضاء إجازة فيها لمدة أربعة أيام وثلاثة ليالٍ يساوي راتب موظف لمدة ثلاثة أشهر. تنقسم المدينة إلى ثلاثة تجمعات سكنية؛ تجمّع خاص لفردَين، وتجمّع خاص للأسر التي لديها أبناء، ثم تجمّع خاص للسكن الفردي. نظام السكن إجباري بحسب القانون، وأهم بنود عقد الإيجار بند ينصّ على إلغاء العقد في حال تغيّر الحالة الاجتماعية للمستأجر أو موته. تزوج رائف حسن حمد، مرةً واحدةً في حياته. كان ذلك في شبابه عام 2051. تعرف إلى زميلة له في شركة صناعة المعدات الثقيلة التي تقع بالقرب من ميناء أبوقير. كان يعمل مساعد مراقب جودة، وكانت تعمل في قسم التدريب. تعرف إليها في أثناء سفره مع بعثة للتدرب في بيلاروسيا. لم ينجبا أطفالاً، واتفقا على الانفصال بعد خمس سنوات من الزواج. ثم انتقل للسكن هنا بعد أن أنهى خدمته في سن الثمانين، وترك سكن الشركة.

لا يخرج رائف في المساء من منزله، كل أربعاء. الجميع مجبر على ذلك، حيث تتم إذاعة لقاء الأربعاء مع القائد الأعلى بتقنية الهولوغرام، وهو جهاز رديء وذو تقنية قديمة، يباع بدعم من الدولة عبر بطاقات الدعم، ضمن برنامج التأهيل الوطني للمواطنين. أهم آلياته ربط الحصول على الراتب أو الراتب التقاعدي، بالتفاعل والإجابة عن أسئلة تتعلق بدور الدولة وتوجهات القائد. في تمام الساعة التاسعة مساءً، ظهرت عبر الهولوغرام صورة مجسدة للقائد؛ رجل أربعيني، له هيئة مندوبي التسويق العقاري.

ارتدى رائف معطفه، وعند خروجه من الباب نظرت إليه القطة باشمئزاز، وتبرّزت في منتصف الغرفة. قاد سيارته على الطريق السريع. كانت سيارته موديل العام 2027، فقد كان يُسمح بقيادتها على الرغم من التحول إلى استخدام السيارات ذاتية التحكم. كانت إعلانات على الطريق تذيع لقاء الأربعاء، بجانبها إعلانات أخرى عن التبرّع بكيس من الدم مقابل 200 وحدة، وعن دواء جديد لتنظيم المشاعر. استجاب رائف للجنة المرور، وتوقف على جانب الطريق. أوقف سيارته خلف السيارات التي تم توقيفها. اقترب منه ضابط المرور، ونظر إليه ثم نظر ناحية المجمع السكني، قبل أن يلقي نظرةً على بعض النوافذ المضاءة، ثم ينظر إلى رائف مرةً أخرى. كان بالإمكان تمييز صوت موسيقى بداية لقاء الأربعاء القادم من النوافذ البعيدة، لذا أجاب رائف من دون أن ينتظر السؤال، وقال إنه شعر بالتعب وعليه الذهاب إلى أقرب مستشفى. طلب ضابط المرور من رائف أن يعطيه رخصة القيادة، ثم ذهب للكشف عليها، وطلب منه البقاء في السيارة. 

أصبحت مساحات المنازل موحدةً في مدينة الإسكندرية الجديدة، بعد أن تم إخلاء معظم أحيائها القديمة وتحويلها إلى مدينة سياحية، تكلفة قضاء إجازة فيها لمدة أربعة أيام وثلاثة ليالٍ يساوي راتب موظف لمدة ثلاثة أشهر 

كان رائف من الجيل الثاني الذي تناول أبناؤه الجرعة المعدلة من الدواء الجديد الذي عُدّ طفرةً في تحسين وظائف الجسم مدى الحياة، وهو ما جعل ضابط المرور يصدّقه ويعدّ حالته أمراً طارئاً. كان رائف خائفاً من الكشف على رخصته. لقد كان ممنوعاً من العبور إلى وسط المدينة بموجب حكم قضائي صدر قبل عشر سنوات، بالرغم من عدم إدانته بسبب انضمامه إلى حركة التغيير. استند القاضي في حكمه إلى "ستاتيوس" نشره رائف على موقع التواصل الاجتماعي التابع للدولة. كتب رائف يوم ذكرى رحيل القائد المؤسس: "إن المشروب القوي لا يصلح مع طبق طعام غير شهيّ". على الرغم من أن رائفاً قال في التحقيقات إنه لم يقصد معنى مزدوجاً في ما كتبه، إلا أن المحكمة عدّت ما كتبه تعليقاً سلبياً على العيد الوطني.

طال انتظار رائف داخل سيارته. شعر برغبة سخيفة في الركض بين الأراضي المهجورة على جانبي الطريق. لقد أصبحت منطقةً خارج رعاية الدولة. كان النظام موقناً بأنه لا يمكن اختراقه، وتم استبدال ملاحقة المعارضين وسجنهم، بطردهم من الخدمات والمرافق العامة والسكن والعمل داخل المدينة. ركض رائف حتى وصل إلى منتصف العشب. كان الطريق السريع مرئياً. ظل يركض وهو ينظر إلى أقدامه. كانت متعة الطفولة بالنسبة له أن يكون أول من يترك آثار أقدام على الأرض. بعد أن تجاوز العشب على جنبات الطريق، وصل إلى أرض مهجورة، تجتمع فيها مجموعة كبيرة من الناس المطرودين من المدينة. كانوا يفرزون قطع ماكينات متهالكة، ومنهم من كان يستريح داخل الخيم. استقبلوه بالترحاب كما لو أنهم كانوا ينتظرون مجيئه، ثم اقترب منه رجل عجوز يشبهه. صافحه رائف بقوة واحتضنه، ثم تمشّى معه ليعرّفه على ما يفعلونه هنا. هزّ الرجل العجوز برأسه لرائف وبادله رائف ما فعل. كانت تلك الحركة تبدو مثل إشارة لبدء تنفيذ خطة طال انتظارها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image