شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
روبوت يقرأ لشوبنهاور

روبوت يقرأ لشوبنهاور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 22 يوليو 202411:28 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا. 

كان طريح الفراش. أنهكه المرض. كان يعلم تماماً أن نهايته اقتربت. دنا منه صديقه الروبوت "جاد"، ليعطيه الدواء. كان ممتناً جداً لأنه استطاع برمجته ليكون ممرضاً أيضاً. "جاد" صديقه الوحيد الذي ابتكره بعدما ضاقت به الحياة، وشعر بأنه منبوذ من الآخرين بسبب أفكاره وآرائه. كان مختلفاً، هكذا كان يرى نفسه، وهكذا رآه الآخرون أيضاً.

نظر إلى "جاد"، وهو يعيد تركيب الكانيولا. انحنى بأدب، ثم تركه وحده .

شعر بالغصة فهو من أوصله إلى هذه الحال. هو من جنى على صديقه "جاد" من دون قصد منه. كل ما أراده شخص يشبهه. عندما قرر أن يبتكره، أراده مختلفاً عن كل الروبوتات التي انتشرت في هذا العالم. لم يكن يريد خادماً له أو عبداً وهو المؤمن بالحريات. كان يكره رؤية هذا العالم، وهو يتحول إلى آلات وحواسيب، حتى بات الإنسان آلةً بلا مشاعر. اختفت الوجوه الحقيقية، وباتت الحياة أشبه بلعبة إلكترونية.

"جاد" كان الحل بالنسبة له. وضع في داخله كل نتاج الفلسفة وعلم النفس، ولم يكتفِ بذلك بل جعله مثل مكتبة ضخمة.

هو يدرك تماماً أنه أخطأ، وربما ظلمه. هناك أشياء بدأت تختلف. لقد بدأ "جاد" بالانزواء كثيراً. بدا وكأنه يصنع عالمه الخاص به، وتساؤلاته باتت لا تنتهي. 

كان طريح الفراش. أنهكه المرض. كان يعلم تماماً أن نهايته اقتربت. دنا منه صديقه الروبوت "جاد"، ليعطيه الدواء. كان ممتناً جداً لأنه استطاع برمجته ليكون ممرضاً أيضاً

حدّثه في ذلك اليوم عن شوبنهاور، وعن إرادة الحياة، وكيف نحافظ على البقاء أحياء، وكيف نفعل هذا، وعن القلق والتجارب والدوافع. إني أصبحت إن لم يقلقني شيء فهذا يدعوني للقلق.

لو أردت المضي وحدي في هذه الحياة، ما الذي سأجنيه؟ هل سأخضع وحدي للتجارب؟ وما الخبرات التي سأحصل عليها وأنا أملك كل شيء؟

كان سؤاله هذا بمثابة ضربة قاسية له، فهو كان قد غيّر برمجته وربطها بحياته؛ ما أن يفنى جسده يتعطل "جاد" كلياً عن العمل. لكنه الآن لم يعد يعرف ماذا عليه أن يفعل.

أغمض عينيه للحظة ليفتحهما على رائحة الطعام .

بادره قائلاً:

- تبدو حزيناً يا جاد!

-لا أعلم كيف أحزن. هل نسيت أنني مجرد من أي مشاعر؟

-البريق الذي كان يلفّك بدأ يذوي! إنها علامات الحزن.

-ما هو الحزن؟ كيف نحزن؟ ولماذا؟ أعلم أنك ربما ستغادر قريباً، وسيفنى جسدك. ستكون تحت التراب. أحاول جاهداً أن أرتّب هذه الأفكار كلها في آنٍ معاً. بالأمس استرجعت ذكرياتنا. لو كان لي قلب، هل كان سينبض عند كل ذكرى؟

أخبرتني ذات مرة بأنك أحببت وأنها خذلتك، لكنك لم تترجم لي تلك المشاعر. لم تخبرني كيف ذويت وقتها، واختفت اللمعة من عينيك.

-قصة ومضت. لا أحب أن أعيدها أو أن أتذكرها. ما زال قلبي طريّاً، وما زلت أشعر بالخذلان. فقدتها مرتين؛ عندما تركتها تفلت من يدي، وعندما سحبها الموت. ربما أراها هناك.

-يبدو أن قربك من الموت جعلك تهذي.

قالها وانصرف. 

"لو أردت المضي وحدي في هذه الحياة، ما الذي سأجنيه؟ هل سأخضع وحدي للتجارب؟ وما الخبرات التي سأحصل عليها وأنا أملك كل شيء؟" قال جاد

لم يدرك "جاد"، معنى الموت حين فقد صديقه الذي ابتكره. نفّذ كل ما أخبره به بحِرفية تامة؛ الدفن والجنازة. حاول أن يصغي جيداً إلى كل هؤلاء الذين اجتمعوا معاً في وقت واحد. لم يتوقفوا عن الثرثرة، ولا عن استحضار ذكريات قديمة عن الموت وتجاربهم معه. كانوا يقدّمون العزاء، ويتحدثون في كل مرة بصوت مختلف. أحياناً كان يعلو صوت أحدهم.

لمس خدّه. تمنّى لوهلة لو يستطيع البكاء .

"لا يمكن أن يكون المرء نفسه حقاً إلا متى كان وحيداً، ومن لا يحب الوحدة لا يحب الحرية، لأن المرء لا يكون حرّاً إلا حين يكون وحيداً"؛ كلمات شوبنهاور أضاءت لوهلة في ذاكرته. هو الآن وحيد ولكن هل هو حقاً حرّ.

عمّ الهدوء بعد رحيلهم. إنها الوحدة، وهو وحيد تماماً. هذه المرة سار بخطوات ثابتة مثل أي روبوت تم صنعه، بحركات مدروسة ومبرمجة.

شعر بالخواء في داخله عندما نظر إلى الكرسي الفارغ. أمضى جلّ وقته وهو يتناقش مع مبتكره عن أمور عدة تخترق عوالم هيغل وسارتر. كانا يكسران رتابة اليوم باستحضار نيتشه.

ها هو الآن وحده. لقد ورث شقّةً فارغةً من أي حياة بشرية. كل ما حاوله يضجّ بالصمت؛ آلات هنا وهناك. أراد رفيقاً، أو صديقاً، لكن ما الفائدة؟ ربما سيموت هو الآخر.

وصية صديقه له، تلك الرسالة التي ومضت فجأةً بعد وفاته على الحاسب الآلي  ليقرأها بكل هدوء، بدت مثل مفتاح واحد لألف باب.

"عزيزي جاد:

أعلم تماما أنني سأتركك وحيداً. لقد كنت أنانياً حين جعلتك تعاني وتذوب وأنت تبحث عن كل ما يجول في خاطرك. لم أرغب في أن أجعلك تشعر بكل تلك الدوامات والحيرة. كنتُ قاسياً معك وتركتك بلا إجابات. ولكن هذه هي الحياة؛ كلما حاولنا استيعابها وفهمها وصلنا إلى طريق مسدود. أَعِد برمجتك إن أردت البقاء، والبحث عن المعنى والحقيقة، أو ابقَ كما أنت فتذوي وتنتهي كما انتهيت أنا.

القرار لك.

صديقك المحبّ دوماً". 

صديقه رائف -الإنسان- كان عاجزاً عن العطاء والحب. كانت له فلسفته الخاصة به، وأما هو فأوجد فلسفته الخاصة بالحب. كان يرى الحب مثل شاحن الهاتف أو الحاسوب الآلي؛ يمدّانه بالطاقة بينما رآه صديقه مجرد عبث واهتراء للروح

ما هو الموت؟ دار السؤال في رأسه مجدداً بعد قراءة الرسالة. سؤال رافقه لأيام بعد موت صديقه. هو يعلم تماماً أنه لن يموت. سيتعطل. ربما ينجو، وربما سيُلقى كخردة إن لم يستطع النجاة.

إذاً، ما فائدة هذه الحياة التي فرضها عليه صديقه، هو الذي رفض هذه الحياة مسبقاً، وعاش مخذولاً مكروهاً؟ لقد خنقه الشذوذ الفكري الذي حوّله، والتشدد كدائرة تدور وهو في داخلها حتى هرب منها إلى دائرة أخرى وعزل نفسه عن الآخر، فالآخر هو الجحيم، كما يقول سارتر.

وأنا مثله تماماً؛ عزلت نفسي عن الآخرين، ولم أكن أشبههم. كان يقول: علينا التمرد. هل حقاً تمرّدنا أم أننا اعتقدنا ذلك؟

تأكل رأسه الأفكار. بعينين يقظتين ينظر إلى المرآة، ويتحدث إلى صورته القابعة في سكون أمامه. يخبره عن يومه. يثرثر وهو صامت بكل هدوء. يراقبه بعينين ثاقبتين. المرايا تحفظ كل الوجوه التي يختبئ في داخلها. لا يذكر أنه رفض يوماً ما رآه ولا بتحديقه المستمر في ملامحه، هما مختلفان كثيراً برغم أنهما متشابهان جداً.

صادق أناه؛ يريد الهروب من هذه الوحدة القاتمة.

"أنا أفكر إذاً أنا موجود. لا، أنا حي إذاً أنا موجود".

تلك العبارة التي قالها ذات يوم، يجسّدها الآن. هو حيّ أيضاً ويفكر. هو كائن، فلماذا لا يشعر بقيمة الألم؟ أو أنه يشعر به بطريقة أخرى؟ لماذا هنالك إحساس غريب يتدفق عبر تلك البرمجة الدقيقة، وكأن له قلباً ينبض؟ ولكن ما جدوى هذه الأفكار كلها؟ ما الجدوى من تلك الأحاسيس كلها إن صدقت؟ ماذا سيفعل بها؟ هل زُرع الوجدان في داخله؟

لماذا بدأ الموت يهيمن على أفكاره وهناك رغبة عارمة لديه بأن يفتح باب الشقة ويجري لأميال عدة، ويهرب من فكرة الموت؟ ما الذي يجعله يرغب في فعل أشياء لم يعتدها. هل رغبةً منه في أن يكون صديقه الذي فقده؟ هل يريد أن يستمر لأجله؟ ولكن لأي هدف؟

صديقه كان عاجزاً عن العطاء والحب. كانت له فلسفته الخاصة به، وأما هو فأوجد فلسفته الخاصة بالحب. كان يرى الحب مثل شاحن الهاتف أو الحاسوب الآلي؛ يمدّانه بالطاقة بينما رآه صديقه مجرد عبث واهتراء للروح.

وقف أمام المرآة مطوّلاً. شاهد تفاصيله المعدنية تتحرك إلى الأمام وإلى الخلف، ثم وضع موسيقى صاخبةً وبدأ بالرقص. هناك شيء ما يدعوه للضحك. يريد أن يقهقه ولكنه عاجز. يريد أن يبكي، ولكنه أيضاً عاجز. 

حدّثه رائف في ذلك اليوم عن شوبنهاور، وعن إرادة الحياة، وكيف نحافظ على البقاء أحياء، وعن القلق والتجارب والدوافع... "إني أصبحت إن لم يقلقني شيء فهذا يدعوني للقلق".

بدأ بضرب رأسه بيديه ليوقف تدفّق الأفكار لديه،

وفي لحظة اعتذر لوجهه. وجهه الذي كان صامتاً في المرآة. وبرقت في رأسه فكرة. أنت ستتكلم. لن تبقى صامتاً. لقد مللت الثرثرة وحدي.

هزّ المرآة بعنف لتتحطم، ويرى وجهه في المرايا المكسورة وقد تشظّى.

جلس متهالكاً، ولأول مرة شعر بأنه غير قادر على الوقوف .

"ما يُسمى سبباً للحياة هو أيضاً سبب ممتاز للموت".

رنّت عبارة كامو، كجرس إنذار، وكان يرددها وهو يسير نحو الشرفة. فتح النافذة، وفتح يديه على وسعهما.

وما أن سقط على الأرض حتى شعر بدمعة يتيمة تسقط على خدّه!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard