في الشهر السادس من منتصف كل عام تمتلئ صفحات السوشال ميديا بصور تؤرخ لـ"هزيمة حزيران". من بين تلك الصور، صورة شهيرة أضحت أكثر من ترند، فهي لا تؤرخ وتؤرشف فقط؛ بل وكأنها تشرح سر الهزيمة الخفي، لم تكن سوى صورة الراقصة زينات علوي وهي ترقص لمجموعة من الجنود والضباط المصريين قبيل الحرب.
مروّجو الصورة ليسوا من جماعة الإسلام السياسي فحسب، بل حتى من النظام الحاكم الذي وجد نفسه مضطراً للتضحية بكبش كبير لتبرير أسباب الهزيمة. فبعيد انتحار الجنرال عبد الحكيم عامر، غرقت البلاد في إشاعة زواجه من (الراقصة) برلنتي عبد الحميد، علماً أن برلنتي لم تكن يوماً راقصة بل ممثلة.
الرقص الشرقي وحملة نابليون
طبعاً الغاية كانت التغطية على أسباب الهزيمة السياسية والعسكرية الحقيقية، ورميها على إحدى أضعف فئات المجتمع، وهو أمر يروق لفئات واسعة من الشعب المحافظ. كما يريح السلطة ولو جزئياً من تحمل مسؤوليات ما حدث.
الغريب أن هذه الفئة الضعيفة رغم ما لحق بها من عسف عبر التاريخ ما يزال مستمراً. ففي التاريخ الحديث ومع أول احتكاك مع الرجل الأبيض، أبهرت الراقصات المصريات جنود نابليون، ورغم "جيش النساء الفرنسيات" المرافق للحملة الفرنسية - يقال حوالي 300 امرأة - تدافع الجنود الفرنسيون خلف الراقصات الشرقيات.
في مثل هذا الوقت من كل عام تمتلئ صفحات السوشال ميديا بصورة زينات علوي وهي ترقص لمجموعة من الجنود والضباط المصريين قبيل الحرب. مروّجو الصورة ليسوا من جماعة الإسلام السياسي فحسب، بل حتى من النظام الحاكم الذي وجد نفسه مضطراً للتضحية بكبش كبير لتبرير أسباب الهزيمة
وهنا ظهرت القصص الشعبية عن بطولات بعضهن بالمشاركة بأعمال المقاومة واستدراج الجنود إلى حتفهم، بل يقال إن بعضهن قُتلن بعد اكتشاف أمرهن ورُميت جثثهن في النيل. وإنه تم قطع رؤوس ألف من الغوازي (راقصات الشوارع) بحجة نقل السفلس إلى الجنود الفرنسيين. الأمر تكرر مع محمد علي باشا الكبير، الذي أصدر قراراً بالسجن والجلد بحقهن، خفف لاحقاً بالنفي إلى الصعيد.
الغريب أيضاً أن الرقص الشرقي ما يزال ينبض بالحياة والجمال، وفي العلن، وما يزال يقتحم حتى أعراس الفئات المحافظة، فكثيراً ما نشاهد راقصة شبه عارية ترقص في عرس؛ فيه العروس وجميع المدعوات محجبات.
الرقص الشرقي... القدرة على العودة
البحث في قدرة الرقص الشرقي على التكيف الدائم يعيدنا إلى تاريخه القديم، أي إلى ما قبل ما يدعى بالثورة الأخلاقية غير البعيدة عن الديانات الإبراهيمية، التي لطالما ربطت الشرف بالجسد وجسد الأنثى فقط.
ولادة الرقص الشرقي جعلته جزءاً من النسيج التقليدي لشعوب شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهذا ما تؤكده النقوش الأثرية في تلك المساحة من شمال إفريقيا وحتى فارس وآشور، كنوع من الطقوس الدينية الوثنية المحتفلة بالخصب والأمومة. هذا ما جعل استئصاله مستحيلاً، ولعل هذه الاستحالة خلقت وضعاً متناقضاً، إذ تمت شيطنته، أو تبنيه، أو كليهما معاً.
إضافة إلى ذلك، قدرته الدائمة على التجدد والعصرنة، فالرقص الشرقي الاحترافي اليوم مختلف تماماً عما كان عليه منذ قرن. وقمة نجاحه في العصر الحديث تكمن في أنه رغم عقود من السمعة السيئة في الغرب، باعتباره صنواً للبغاء برأي كثير من المستشرقين، بات اليوم يُنظر له كنوع من الفن الجميل، فتُنظم له مهرجانات ومدارس لتعليم الرقص كرياضة روحية وجسدية.
إداورد سعيد وتحية كاريوكا
لطالما كانت الراقصة الشرقية التجسيد الأمثل للإيروسية كما يشير المفكر الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد. وإيروس في الأسطورة اليونانية هو إله الحب، الإله المسؤول عن الرغبة والحب والجنس ويُعبد كإله الخصوبة.
العالمة هي الراقصة المتعلمة لفنون الرقص، التي تستطيع أن تؤلف أغان وحركات، ولديها علم بالموسيقى. أما لقب الغوازي، فأُطلق على الغجريات، حين غزا الغجر الشرق في طريقهم إلى أوروبا، والمقصود به راقصات الشوارع.
حين يصف سعيد رقص تحية كاريوكا في مقال شهير يجد أنه إثارة بالغة الخصوصية، بل يقول بأن كاريوكا حين ترقص كانت تقدم للمشاهدين تجربة إيروسيّة هائلة الإثارة، نظراً لإرجائها الذي لا ينتهي، تجربة ما كان لنا أن نحلم بأن نصادف مثلها أبداً في حياتنا الواقعيّة. وتلك على وجه الدقّة هي النقطة المُهمّة: فقد كان ذلك ضرباً من الجنس بوصفه حدثاً عامّاً، مُخطّطاً ومُنفّذاً ببراعة، لكنه مستعصٍ تماماً على الاكتمال أو التحقّق.
يمكننا الزعم أن كل رقصة امرأة تقريباً هي جنسية بطريقة ما، خاصة في الرقص الفردي أمام مجموعة؛ إذ تبدو كمغازلة من خلال إظهار البراعة الجسدية. ومثل كل الأشياء الجنسية، هناك الشهوانية، والحميمية، والإثارة الجنسية، وربما أيضاً الاستغلال أو حتى الابتذال. يعتمد الأمر حقاً على كيفية إدراك الناس لها. المشكلة ليست في الرقص بحد ذاته بل كيفية النظر إلى امرأة مثيرة، وهو أمر يختلف من ثقافة لأخرى ومن شخص لآخر.
عن الغوازي والعوالم
يبقى التفريق بين المثير المغري كفعل يخرج نتيجة اعتمال حقيقي بين العقل والجسد، وبين الابتذال الذي يوصف كحركات خارجية يقصد بها الإثارة المباشرة الفجة.
فبالعودة لمقال إدوارد سعيد حين يصف رقص تحية كريوكا باعتباره النموذج الأيقوني والأكثر نقاءً لأي راقصة شرقية، يقول: "جمال رقصها يكمن في تكامله: في ما تُخلّفه من شعورٍ بجسدٍ مُذهل في لدانته وحُسنه". فهي لا تنطنط ولا تهزهز نهديها، وأبعد ما تكون عن الحركات البهلوانية أو التزلق على الأرض واستخدام العري كما تفعل الراقصات البائسات بغية ما سماه "إثارة وإغراءً حريميّاً"، بل هدفها إحداث أثر عن طريق إيحاء عبر جملة من الحركات المترابطة والمتكاملة.
الخط الفاصل بين الإغراء والابتذال الذي رسمه بإتقان سعيد؛ بين الراقصة المحترفة، وبين من لم يجد حرجاً في وضعهن في مرتبة لا تعلو بأكثر من درجة على مرتبة العاهرات. كان موجوداً بل ومحدداً بالاسم بين العوالم والغوازي.
فالعالمة هي الراقصة المتعلمة فنون الرقص، التي تستطيع أن تؤلف أغاني وحركات، ولديها علم كبير بالموسيقى وأداء صوتي جيد. أما الغوازي، فهو اسم أُطلق أولاً على الغجريات، حين غزا الغجر الشرق الأوسط في طريقهم إلى أوروبا، حينها غزا الغجر أيضاً العادات التقليدية المحافظة، وظهرت راقصات الشوارع اللواتي يرقصن جماعات، وانتقلت هذه العادة لبعض بنات البلد، أي راقصات الطبقات المهمشة. ويوجد صنف ثالث استحدثه العثمانيون؛ وهو رقص الجواري، وهو رقص أكثر إباحية، إذ لطالما أُجبرن على الرقص عاريات الصدر. هذا النوع تحديداً وإن بقي حبيس القصور، فاحت رائحته الماجنة خارج القصور.
وصف إدوارد سعيد كاريوكا بأنها "تقدم للمشاهدين تجربة إيروسيّة هائلة الإثارة، نظراً لإرجائها الذي لا ينتهي، تجربة ما كان لنا أن نحلم بأن نصادف مثلها أبداً في حياتنا الواقعيّة. فقد كان ذلك ضرباً من الجنس بوصفه حدثاً عامّاً، مُخطّطاً ومُنفّذاً ببراعة، لكنه مستعصٍ تماماً على الاكتمال أو التحقّق"
بعد التعامل غير الودي من جنود نابليون مع الغوازي، جاءت الضربة الثانية غير المقصودة مع مجزرة القلعة 1811 التي نفذها محمد علي بحق المماليك. حينها سُحقت طبقة اجتماعية كاملة من الأمراء والملاك وقُضي عليها. وهكذا فرت العوالم "راقصات الطبقة العليا" إلى الشارع واختلطن بالغوازي، مما أدى إلى دمج أسلوبَي الرقص (رقص القصور، ورقص الشوارع). وحتماً كانت الغلبة لصاحبات الأرض، أي الغوازي. الأمر زاد سوءاً أيضاً مع محمد علي باشا في 1834 حيث كما ذكرنا منع الرقص الشرقي ثم نفى الراقصات إلى الصعيد، مما دمر سمعة الرقص وكرسه كرقص الغوازي حصراً.
شوق... التي أعادت أمجاد الرقص
لكن الرقص الشرقي مدهش بجماله، وأيضاً مدهش بقدرته على التكيف والعودة للحياة. فعاد من منتصف القرن التاسع عشر ومع ظهور طبقة أرستقراطية جديدة، وأيضاً طبقة وسطى متعلمة، ومع أبناء وأحفاد محمد علي باشا الأكثر انفتاحاً من جدهم. عاد الرقص الشرقي بشكله الاحترافي، وفي العام 1871 ظهرت (شوق) كأول راقصة استطاعت أن تجعل لنفسها مكانة محترمة بين العائلات الكبيرة، وكانت الراقصة الوحيدة التي يُسمح لها بأن ترقص في الحفلات التي يقيمها الخديوي.
ولما افتتحت قناة السويس، رقصت شوق في حفلة تكريم الإمبراطورة (أوجيني) زوجة نابليون الثالث، التي جاءت لحضور حفلة افتتاح قناة السويس. يمكن القول إن شوق كانت أول راقصة عالمة بعد انقطاع طويل. ثم جاءت تلميذاتها، مثل شفيقة القبطية، أشهر راقصة في عصرها. وقد أصرت شفيقة على استخدام لقب يشير صراحة أنها مسيحية للإشارة إلى أنها ما تزال متدينة ولم تنحرف عن استقامتها.
وهكذا عاد زمن العوالم من جديد، معلناً عصراً ذهبياً كانت قمته مع صالون اللبنانية السورية بديعة مصابني، مع أشهر تلميذاتها تحية كاريوكا وسامية جمال وحورية محمد. وقتها تطور وتنوع الرقص الشرقي، إذ مزجته بديعة ومن معها بروح العصر، وتوسعت دائرة الرقص فجعلت المسرح كاملاً مسرحاً للراقصة، ثم مزجته مع الباليه الكلاسيكي الغربي.
"الرخص" و"الأسلمة"
يبدو أن الرقص الشرقي لم يحب الكاميرا كثيراً، رغم فوائد الانتشار الجماهيري، لكن كثيراً ما أُقحمت الرقصات بأسلوب سوقي رخيص، وهو أمر يمكن تبينه الآن من "أفيشات" تلك الأفلام.
فبعيد وصول العسكر للحكم بدأت انحدار شبيهة بما حدث في بدايات القرن التاسع عشر؛ وقتها تداخلت الفئات الاجتماعية والاقتصادية مع بعضها، وظهر "محدثو النعمة" الذين لا يرون في الرقص الشرقي إلا رقص الغوازي، وأيضاً طبقة أخرى من العائدين من دول النفط مدمغين بثقافتها السلفية. ولا ننسى الأحداث السياسية الكبرى كهزيمة 67، التي فُسرت كنتيجة لفساد المجتمع والابتعاد عن الدين، وليس بسبب سياسات السلطة الحاكمة.
ثم كانت الصحوة الدينية من أواخر السبعينات، ثم موجة الحجاب والتوبة للفنانات. وهذه كلها عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية أثرت سلباً على الرقص الشرقي، كما أثرت لاحقاً على باقي الفنون. لكن الطبيعة القلقة للرقص جعلته أكثر من غيره عرضة للتجريح والتشويه.
الغرب المبهور بالخصر المائل
لم تبدأ علاقة الغرب المضطربة مع الرقص الشرقي مع حملة نابليون على مصر 1798، وإن كانت نقطة وعلامة هامة جداً، بل سبقتها نظرة سلبية لقرون، أولها قصة سالومي الراقصة التي تسببت بقطع رأس يوحنا المعمدان المذكورة في الكتاب المقدس، والثانية كتاب "ألف ليلة وليلة"، الذي اعتُبر بعد ترجمته في القرن الثامن عشر أول نافذة وصفت الشرق في المخيلة الغربية.
يبدو أن الرقص الشرقي لم يحب الكاميرا، فكثيراً ما أُقحمت الرقصات بأسلوب سوقي رخيص في الأفلام. وبُعيد وصول العسكر للحكم تداخلت الفئات الاجتماعية والاقتصادية مع بعضها، وظهر "محدثو النعمة" الذين لا يرون في الرقص الشرقي إلا رقص الغوازي، وأيضاً طبقة أخرى من العائدين من دول النفط المدمغين بالثقافة السلفية
لا يخلو "ألف ليلة وليلة" من إباحية وخيالات جنسية وقصص ماجنة تصف الجواري والراقصات؛ لم يألفها الغرب المحافظ وقتها. إضافة إلى الأساطير وروايات الرحالة والمستشرقين التي أعطت الشرق شكلاً مبهماً بين قمع النساء حبيسات المنازل، وسفور الراقصات والغواني اللواتي كن تقريباً النساء الوحيدات اللواتي على تماس بالغريب، واللواتي تعامل معهن الرحالة والمستشرقين وسجل من خلالهن ملاحظاته عن نساء الشرق. ما دعم الأمر قناعة ثبت بطلانها، أن الرقص الشرقي بدأ مع بداية عصر الحريم والجواري اللواتي كن يرقصن نصف عراة.
استمرت هذه الذهنية إلى ما بعد منتصف القرن العشرين، حيث عُومل الرقص الشرقي في الغرب كنوع من رقص التعري. يمكن ملاحظة الأمر في كلاسيكيات السينما الغربية؛ التي طالما أظهرت فتاة تلبس بدلة الرقص الشرقي ثم تتعرى تماماً، كراقصة "ستربتيس" لكن بروح وملامح شرقية. لكن العقود الأخيرة سجلت تحسناً واضحاً، فبدأت معاهد الرقص ومهرجانات الكبيرة خاصة بالرقص، وظهرت راقصات جدد وحتى فرق رقص من الواضح أنهن يتمتعن بقدر واضح من الاحترام الجماهيري.
الواضح أن الرقص الشرقي سبق باقي الفنون كمرآة للمجتمع، فقد كان حاضراً ومتفاعلاً حين كان للمجتمع طبقتان لا تختلطان، وحين امتزجتا اختلط هو فوراً، واضطر لأخذ شكل الخليط الكريه. ثم مع تحسن الظروف الاجتماعية والسياسية انطلق من جديد. وهكذا في المجتمعات المتخلفة يتقهقر ليصبح ستاراً للدعارة، وفي المجتمعات المتنورة يرتقي لرياضة روحية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 13 ساعةربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي