شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
فتاة غير مرئية... لماذا لم تكن تراني يا أبي؟

فتاة غير مرئية... لماذا لم تكن تراني يا أبي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

الخميس 5 سبتمبر 202411:14 ص

مواقف كثيرة تمنيت بعد حدوثها أن أركض وأختبئ بعيداً، أو لو امتلكت قدرة الذوبان، لأذوب تماماً وأختفي وقتما أريد. تمنيت أيضاً لو أتابع العالم عن بعد، لو أجلس خلف حائط، أتابع الحياة من خلال ثقب صغير فيه، دون أن أكون مضطرة للخوض في غمار الأحداث والانغماس فيها.

بعد إتمام إجراءات الدفن والعودة من الجنازة، بدأنا، ولعدة ليال تالية، في استقبال المعزّين. من الليلة الأولى بدأوا بالظهور، تأتي الواحدة منهن، تصافح الجالسات وتتوقّف عندي، تظل تحكي لدقائق طويلة ذكرياتها معه، وكيف ساعدها على تجاوز محنتها. بعضهن مررن بمشاكل أسرية أو زوجية، وأخريات بصعاب مرضية وصحية، وكانت هناك مشاكل مادية أيضاً.

كلهن في الأغلب بنات أصدقائه وزملائه الأطباء أيضاً. حكت كل واحدة مواقفه معها ودعمه لها ومساعداته وحكمة آرائه في حل المشكلات، ظنّاً منهن أن هذه الحكايات ستعزّيني بفقده. لم يكنَّ سيدات فقط، كان بينهم رجال وشباب، وحتى أطفال. في البداية عزتني الكلمات، أراحت قلبي قليلاً، ثم زادت من حزني على فقده، حتى ملأتني بالغضب في النهاية، فأنا الوحيدة التي لم تحكِ له عن أي مشكلة واجهتها، ولا هو سأل. شعرت بالغضب لأنه انغمس كاملاً في حيوات الآخرين ونسي حياتي. لماذا اهتمّ بأبناء أصدقائه وأقاربه وأهملنا؟ لماذ كان قريباً منهم إلى هذا الحد؟ لماذا اختار أن يوزّع أبوته على الجميع ويتركني؟ من اخترع لعبة تبادل الأبوّة هذه، وجعله يقوم بدور الأب في بيوت كثيرة، بيوت فيها آباء وأخرى بلا أب، دون أن يدخلني أحد إلى اللعبة؟ لم يمنحني أحد أباً ولا حتى تركوه يصبح أبي.

في عزائه، حكت كل واحدة مواقفه معها ودعمه لها ومساعداته وحكمة آرائه في حل المشكلات. شعرت بالغضب لأنه انغمس كاملاً في حيوات الآخرين ونسي حياتي. لماذا اهتمّ بأبناء أصدقائه وأقاربه وأهملنا؟ لماذا اختار أن يوزّع أبوته على الجميع ويتركني؟

لا أحد يتلقف يدي الممدودة

غضب وحزن ووجع وحسرة لم أعِ مصدرها الحقيقي لسنوات طوال، لسنوات لم أضع يدي على منبت الجرح ومصدر الآلام، حتى أدركتها فقط من وقت قريب: أنا لم أكن مرئية! لكن لماذا؟ ألم أكن أستحق بعضاً من اهتمامه الذي وزّعه على الجميع؟ لماذا المعاملة اللطيفة كانت للغريب، والجمود والقسوة هما حظي أنا وإخوتي؟ لماذا حرَّم علينا مشاعر كثيرة، ظل يمنحها ويوزعها على الآخرين، يوزعها  على كل يد ممدودة نحوه مهما كانت غريبة أو بعيدة؟

ولأنه لم يعوِّدنا على بسط اليد وطلب العون دون أمر مباشر منه، فساعده هذا على التمادي في تجاهلنا وتجاهل احتياجاتنا حتى سن معين  بدأت فيه أيادينا تنبسط دونما وعي ودون أن تقصده هو تحديداً، فلم يجد بدّاً وقتها من التدخّل، محاولاً تلقف تلك الأيدي الممدودة في بعض المرات، وتركها عالقة في مرات أخرى.

ذكرياتي معه قليلة، هذا أيضاً أمرٌ يثير غضبي. أغلب ما عرفته عنه كان من حكايات الآخرين، حكايات عمّاتي في الصغر، وحكايات الأصدقاء والمعارف بعدما رحل.

أذكر أن آخر عهدي معه كان في نهاية المرحلة الابتدائية، في امتحانات آخر العام، حين كان يوصلني بسيارته، وأنا أرتدي ملابسي الجديدة التي أعدّها خصيصاً لأيام الامتحانات، تاركةً شعري مرسلاً بعد تصفيفه في الليلة السابقة. أخرج من عربته كسندريلا من عربة الأحصنة. تتغيّر معاملة الزميلات معي حين يرون كل هذه الاستثناءات التي لا تحدث طيلة العام.

لكن تغيرت الدنيا فجأة دون سبب واضح، أصبحت الحياة مجرّد أوامر ونواهٍ وصوتاً عالياً وتوبيخاً، فصار التجنّب حلّي الوحيد. بنيتُ الأسوار وعزلت نفسي عنه، حتى أوقات الصفا القليلة اعتزلتها. بدأت الكلمات المتبادلة بيننا تقلّ شيئاً فشيئاً حتى انقطعت تماماً.

أذكر أن إحدى قريباتنا التي تكبرني بعدة أعوام مرّت بقصة حب، وكانت تأتيه خصيصاً لتحكي له عن حبيبها، حتى عندما تقرّر زواجهما، جاء حبيبها وأهله لخطبتها من منزلنا. كان الأمر كله في غاية الغرابة، خاصةً حين تقول إنها لا تجد راحتها في الحديث إلا معه، بينما تمر علينا شهورٌ طويلة بلا حديث أصلاً.

سألت نفسي وقتها: هل من الممكن أن أفعل مثلها لو وقعت في الحب؟ الإجابة كانت محسومة بالطبع، حتى أنني شعرت بالغثيان بمجرد تخيل الأمر.

كان أبي يرى كل الناس إلا أنا، الأمر يشبه أن تكون في غرفة مليئة بالمقاعد وأنت الشخص الوحيد غير المسموح له بالجلوس

أبي يرى كل الناس إلا أنا

لو كانت علاقته بالآخرين سيئة أو حتى عادية لكان تقبّل الأمر أسهل، لكن الجميع أشاد بجمال طباعه، بهدوئه وحكمته في حلّ المشاكل، بقدرته على عقد صداقات مع الجميع أيّاً كانت أعمارهم. قرأت في مرة عن وصف اليتم، أن الأمر يشبه أن تكون مضطرّاً للوقوف لساعات طويلة في غرفة بلا مقاعد أو حتى أعمدة لتسند ظهرك عليها. لا أذكر اسم الكاتب الآن، لكن وصفه أعجبني حتى أنني حين فكرت في وصف ما أشعر به، تخيلتني في غرفة مليئة عن آخرها بالمقاعد، يدخل الناس إليها طوال الوقت، يتبادلون الجلوس والاتكاء على المقاعد، بينما أنا الوحيدة غير المسموح لي بالجلوس، حتى لو وجدت مقعد فارغاً مناسباً.

لقد عوّدنا منذ الصغر ألا نكتب أسماءنا كاملة أبداً في عيادات الأطباء، كي لا يعرف الطبيب أننا أبناؤه، فيضطر محرجاً لإرجاع ثمن الكشف إعمالاً بحق الزمالة. اعتدنا أن نتخلى بمنتهى السهولة عن أسامينا، إما بحذف اسمه أو اسم العائلة. وفي المقابل، كانت معي زميلة في الفصل تتفاخر طوال الوقت بأبيها وبعمله المهم في وزارة الصحة، وحين نسألها هل هو طبيب فتردّ: "بالطبع". في مرة سألت والدي عنه لعله يعرفه، فطلب مني أن أتأكد من اسمه ومن اسم المستشفى التي يعمل بها، فأكدت البنت مرة أخرى أنه أهم واحد في الصحة. عدت وأخبرته باسمه ثانية فضحك، ولأنه كان طبيباً وشيخ حارة في آن، فلم يصعب عليه معرفة أن أباها، موظف الصحة الهام، الذي ظل منصبه الهام والغامض يثير فضولنا جميعاً، كان صاحب معرض للأدوات الصحية (أدوات السباكة والسيراميك وما شابه).

حين حظيت أخيراً بأب، اختفى إلى الأبد

تحسّنت علاقتنا قليلاً بعد زواجي. ربما لم يتخيل فقدي أو ابتعادي عنه، وربما لم يتخيل أنني كبرت ونضجت وأصبحت أمّاً، دون أن ينتبه لسنوات عمري التي مرّت صامتة بجواره. اتخذت علاقتنا شكلاً آخر، وربما فريداً جداً من نوعه، حين وضعت مولودتي الأولى على يديه. حظيت ببعض اهتمام لم أتذوّقه من قبل، استقبل طفلتي الثانية أيضاً، لكن في المرة الثالثة أعجزته ظروفه المرضية عن ممارسة عمله كطبيب.

نعم، لم تكوني مرئية له بما يكفي: اعترفتُ لنفسي، وهذا ما جعلك تتجنّبين الجميع. ترتبكين بمجرد وقوعك تحت أي ضوء. تسألين نفسك طوال الوقت: هل أستحق هذا أم لا؟

كنت يومها في مدينة بعيدة عنه. أدخل مستشفيات وأقابل أطباء لا أعرفهم، ومياه الولادة تندفع من رحمي دون استئذان. ظل يتابعني يومها عبر الهاتف، يحادث الأطباء، يخبرهم بحالته ويوصيهم بي ويبكي.

اعتدلت كفة الميزان قليلاً، وحظيت بأب لبضع سنوات، تفرّجتُ على أبوته التي مارسها بمنتهى الحب مع أطفالي، ونشأت بيننا صداقة هادئة قبل أن أفقده فجأة دون مقدمات. أعلنت كثيراً مسامحتي له بيني وبين نفسي، حتى اكتشفت أن الطفلة أو الفتاة التي كنتها لم تنس أبداً، ولم تسامح فكرة أن تفقده وهو موجود أمامها بشحمه ولحمه. تظهر من وقت لآخر تسألني بمنتهى الخبث: هل كنت سيئة لهذه الدرجة التي تجعله لا يراك؟

أفكر بحيادية، وأجيبها بأن حتى أسوأ الأطفال قد يحظون بأب. أشياء كثيرة نتجاوزها ونظن أننا تجاوزناها، حتى تباغتنا فجأة وتعلن الحرب علينا كأننا أجرمنا في حقها حين تخلينا عنها وفكرنا في التجاوز والنسيان.

حين انتبهت للطفلة التي في داخلي وفتحتُ لها باباً لتتحدث معي، عرفت أن الماضي هو المحرك الرئيسي للمستقبل، ولهذا يظهر أمامنا من وقت لآخر.

نعم، لم تكوني مرئية له بما يكفي: اعترفتُ لها، وهذا ما جعلك تتجنبين الجميع. ترتبكين بمجرد وقوعك تحت أي ضوء. تسألين نفسك طوال الوقت: هل أستحق هذا أم لا؟ تفضلين الهرب والاختباء من الجيد والسيء على حد سواء، المهم أن تعودي غير مرئية بالضبط كما جئتِ... هكذا أخبرتني.

الآن تخلصتُ من ترددي حيال اسمي، وحين أزور أي عيادة طبية أتعمّد ذكر اسمي كاملاً، علّني أجد من يتذكره ويحكي لي عنه حكايات أخرى لا أعرفها عنه، فتؤنسني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image