شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن المستقبل... لا إجابة عندي إلا ما تراه ابنتي

عن المستقبل... لا إجابة عندي إلا ما تراه ابنتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

الثلاثاء 30 يوليو 202401:14 م

"العصافير المُقدّسة تُبدي رأيها، في المكان الذي تحطّ عليه".

من قصيدة "رسالة إلى فتاة صغيرة لأجل بداياتها في العالم"، للشاعر السوريالي المصري الذي كتب بالفرنسيّة جورج حنين، ترجمة بشير السباعي.

ستذهب ابنتي بعد أسابيع قليلة إلى المدرسة، إلى صفّها الأول. بلغت قبل أشهر السادسة من عمرها الغضّ، وحان موعد بدء المرحلة الجديدة من حياتها. انتهى وقت الروضة وبدأ وقت المدرسة. نجهّز أنفسنا منذ الآن؛ نشتري حقيبة المدرسة والأقلام والأوراق والدفاتر والألوان. نحكي عن المدرسة طوال الوقت. نشعر كعائلة بأنّنا على حافة شيء عظيم، وأشعر كأب بالسعادة حين أرى ابنتي تكبر أمام عينيّ، وأشعر كشخص بأنّني كبرت. متى مرّ هذا الوقت؟ متى كبرتُ؟ متى كبرت ابنتي؟

أحسب أنّ هذا هو شعور كلّ الآباء والأمهات حين يرون الزمن يهرب من بين أصابعهم. أتذكّر حياتي وكيف تغيرت وصارت تتمحور حول عائلتي الصغيرة حين وُلدت "ميلا". أتذكر هوسي بمراقبتها، فأراقب طبع الإنسان وما إذا كان شريراً أو حيادياً أو خيّراً حين يُولد. أعود إلى صور عمرها ست سنوات، وأرى ابنتي الصغيرة وأتذكر كلّ اللحظات التي مرّت.

أسأل نفسي: متى مرّ الوقت؟ وفي الوقت نفسه أجيب بأنّ الوقت لم يمرّ بسرعة. مرّت علينا لحظات ثقيلة كجبل. مرّت أوقات الحجر الصحي عند انتشار وباء كورونا. مرّت علي شهور وأنا في الفراش بعد حادث أصابني. مرّت أوقات الزلزال الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا، وفقدان أصدقاء لنا بيوتهم. مرّت أوقات الحرب على غزّة والقمع الذي تعرّضنا له في برلين. لكن أيضاً مرّت أوقات سعيدة ولحظات خالدة في تاريخ عائلتنا. هكذا كانت تنوس بنا الدنيا بين سعادة وحزن، وكآبة وابتهاج، وبين ضغط الحياة وانفراجها، والآن نتطلع إلى المستقبل القريب وذهاب ابنتنا إلى المدرسة.

لكن كيف نفكر في المستقبل في عصر الإبادة والتهجير والاحتلال والديكتاتورية؟

لا جواب عندي. لكنّني أحاول أن أكون متفائلاً وأن أرى العالم بعيني ابنتي ميلا. سأحكي قصصاً عنها، ومعها، وعن طريق هذه الحكايات سأحاول تخيّل مستقبل يُبنى حسب ما تراه ابنتي اليوم.

أجابتها ابنتي ميلا، عندما كانت في الخامسة من عمرها: "لا يصلح أن تقولي الرجل. كيف نعرف أنّه رجل؟ ربّما كان يعرّف عن نفسه كامرأة. على الناس أن يقرّروا ما يريدون، رجالاً كانوا أم نساء"

الناس

كانت ميلا في الخامسة من عمرها حين كنّا نزور أصدقاء لنا في مدينة أخرى. ابنتهم بعمر ابنتي. خرجنا لنتجوّل في مدينتهم الصغيرة، وكانت الأم تحدّث الصغيرتين. قالت لهما: "إن وصلنا إلى دكان المثلّجات سنشتري من عند الرجل ما تريدان". أجابتها ميلا: "لا يصلح أن تقولي الرجل. كيف نعرف أنّه رجل؟ ربّما كان يعرّف عن نفسه كامرأة. على الناس أن يقرّروا ما يريدون، رجالاً كانوا أم نساء".

في مرة أخرى، جرى هذا الحديث بيني وبينها. كنّا نتجهز للنوم، وكان سنّها اللبني الأول يتجهز للسقوط. حكت لي قصةً عن طفل في روضتها، وعن خوفه حين سقط سنّه الأول أثناء تناوله الطعام. خاف في البداية لأنه رأى بعض الدم، ومن ثمّ احتفل مع الأطفال الآخرين والمربّيات والمربّين بسقوط سنّه. أنهت ميلا حكايتها قائلةً: "بعض الدم... يحدث هذا مع كلّ الناس حين تسقط أسنانهم".

أنا: "لم يتألم، صحيح؟"

ميلا: "لا لم يتألم، سقوط الأسنان شيء طبيعي، ولا يحدث أي ألم"

أنا: "وهل أنت خائفة من وقوع سنّك؟"

ميلا: "لا لست خائفةً، لكنّني لا أعرف بماذا يشعر المرء حين يسقط سنّه، هذه تجربتي الأولى"

أنا: "أترين ما أجمل الحياة، دائماً تجعلنا نختبر مشاعر جديدةً"

ميلا: "ما زلتُ طفلةً، وما زلتُ أتعلم"

فرحتُ كثيراً بالحديث الذي دار بيننا. في تلك الليلة لم تستطع ميلا النوم بسهولة، ربّما بسبب الحماسة التي أوجدها حديث الأسنان. ذهبنا إلى غرفة المعيشة وروت لأمها ما تحدّثنا به. حضنت الأم الابنة وقبّلتها.

أنا: "ميلا، هل تعرفين ما هو أجمل شيء في هذا العالم؟"

ميلا: "ما هو؟"

أنا: "أجمل شيء في العالم هو أنّك ابنتنا، لأنّك أفضل طفلة في العالم"

ميلا: "لا يصح أن تقول أفضل طفلة في العالم. ماذا عن باقي الأطفال؟ أولئك أيضاً أفضل شيء في العالم"

أنا: "أقصد أنّك أفضل شيء في العالم بالنسبة لنا"

ميلا: "أن يقول المرء إنّ هنالك طفلاً أفضل من الآخرين، كلام لئيم بالنسبة للأطفال الآخرين"

أنا: "أقصد بالنسبة لي ولأمكِ، أنتِ شيء خاص جداً بالنسبة لنا"

ميلا: "باقي الأطفال أيضاً شيء خاص لعائلاتهم. أمي أيضاً شيء خاص لعائلتها. أنتَ أيضاً شيء خاص لعائلتك"

الرأسماليّة

ربّما كانت ميلا في الثالثة من عمرها. كان يجب علينا الذهاب إلى مكان يبعد عن بيتنا نحو خمس عشرة دقيقةً مشياً. استغرق الأمر أكثر من ساعة للوصول إلى المكان المنشود. أرادت ميلا استكشاف كلّ زاوية وكلّ باب. كنت أكتشف الحياة معها، وأستمتع بوقتي. كنّا نحكي عن أشياء شتى، ونخترع قصصاً ونلعب ونفعل ما يحلو لنا.

في طريق عودتنا إلى البيت، كان عليّ استعجالها بسبب اجتماع عمل لا أستطيع الفكاك منه. كان عليّ أن أعود إلى البيت، وأسلّم ميلا لأمها وأذهب إلى اجتماعي. لكن ميلا أرادت القفز في كلّ بركة ماء شكّلتها مياه الأمطار، وفوق كلّ عتبة تصادفنا. كدتُ أتأخر عن اجتماعي، فغضبت منها، ومن ثمّ غضبت من نفسي لأنّني غضبت من أفعال طفلة في الثالثة.

بعد أيام كنتُ أفكر في الأمر، وكان ما أفكر فيه أنّ لا ذنب لميلا في ما أرادت فعله، ولا ذنب لي في غضبي منها، إنّما الذنب ذنب هذا النظام (الأنظمة) الذي نعيش فيه. الذنب ذنب ضغوط الحياة التي لا تسمح لنا بقضاء وقت مع أحبائنا، وذنب نمط الحياة الذي يعيش فيه المرء تحت ضغط دائم، فيفقد صبره بسرعة.

الذنب ذنب الرأسماليّة.

أتذكر صورةً لجملة كُتبت فوق أحد جدران مدينة سانتياغو التشيليّة، تقول: "لم تكن الكآبة، كانت الرأسماليّة".

الذنب ذنب الرأسماليّة. أتذكر صورةً لجملة كُتبت فوق أحد جدران مدينة سانتياغو التشيليّة، تقول: "لم تكن الكآبة، كانت الرأسماليّة"

البيئة

أصابني شعور بالفخر ذات صباح، وكانت ميلا قد بلغت الثالثة. كنت تَعِباً لا قدرة لي على مغادرة سريري. ميلا كانت بجانبي وأمها في مكان ما خارج المنزل. قلت لميلا: "لنشاهد التلفاز". فكرتُ في أن نتفرج على شيء ما يعلّمها شيئاً عن الحياة، وكان برنامج "كوكبنا" (Our Planet) هو المقصود، وهو برنامج يحكي عن الطبيعة والحيوانات والنباتات والتفاعلات بين الكائنات الحيّة.

في أحد المشاهد يظهر كوكب الأرض وهو مصوَّر من الفضاء، وإذ بميلا تشير بإصبعها نحو الشاشة وتقول: "هذه أرضنا، هذا بيتنا".

أصابتني موجة من الفخر بابنتي، التي ربّما تأثرت بمظاهرات من أجل مستقبل بيئي أفضل كنّا قد شاركنا فيها.

الموت

كنت وحيداً مع ميلا في ذلك المساء، وكانت هي على أعتاب عيد ميلادها الخامس. كنّا نتجهّز للنوم، وهو وقت الأحاديث العميقة بين الأهالي وأطفالهم. تسألني ميلا من دون أيّ مقدمات: "ماذا عليّ أن أفعل حين تموت في البيت ونكون وحدنا؟". صعقني سؤالها بدايةً، ثمّ فرِحت بطريقة تفكيرها. شرحتُ لها ماذا عليها أن تفعل إن حدث شيء ما. 

مثلها مثل كلّ الأطفال، كانت ميلا، وما زالت، تسأل عن أصل الأشياء: من أين أتى الملح؟ ما هو أصل الماء؟ مم صُنعت الأريكة؟ من أين يأتي اللحم الذي نأكله؟ لما سُميت الشمس شمساً؟ وما هو القمر؟

صارت تسأل بعد الحرب الأخيرة على غزّة: هل يموت الأطفال أيضاً؟ هل يموت الآباء ويتركون أطفالهم؟ هل يموت الأطفال أمام أعين آبائهم وأمهاتهم؟ أين نذهب بعد أن نموت؟

يجب ألا يُقتل الأطفال أمام عيون آبائهم وأمهاتهم. يجب ألا  يكون للحرب مكان في هذا العالم. العدالة والحرية والكرامة لكلّ الناس مهما كانوا وأينما كانوا

المستقبل

أعود إلى سؤالي الأول وأقول: كيف نفكر في المستقبل في عصر الإبادة والتهجير والاحتلال والديكتاتورية؟

مرةً أخرى لا جواب عندي، لكن عندي أمل في أن يكون المستقبل على ما تراه ابنتي: كلّ الناس سواسيّة، لا أحد أفضل من أحد، كلّنا مميّزون وكلّ شخص يحمل في داخله جمالاً ما. الناس تحدّد هوياتها وتوجهاتها الجنسية، ولا أفضلية لأحد على آخر بناءً على جنسه أو لونه أو دينه.

الأرض لنا كلّنا، هذا الكوكب هو بيتنا، وعلينا أن نحافظ عليه. يجب أن تكون بيئة مستقبلنا نظيفةً وصالحةً للعيش، لنا ولأجيال أخرى قادمة.

يجب ألا يُقتل الأطفال أمام عيون آبائهم وأمهاتهم. يجب ألا يكون للحرب مكان في هذا العالم. العدالة والحرية والكرامة لكلّ الناس مهما كانوا وأينما كانوا.

هل هي أحلام وتمنيات؟ ربّما، لكن لا يضرّ بنا بعض التفاؤل في هذا العالم البشع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image