أجلسُ في شرفتي وأشرب القهوة. هذا هو الخارج الوحيد الذي أذهب إليه في هذه الأيام، أيام الحجر الصحي. لا أرى من برلين إلّا شارعين: الشارع الذي تُشرف عليه نوافذ بيتي، والشارع الذي يُقاطعه. أرى الناس يمشون مثنى وفرادى، أرى عائلات وأطفالاً، لكن لا أحد يقترب من أحد. لم أرَ شخصين يتعانقان منذ أكثر من أسبوعين.
على الجانب الآخر من الشارع، في البناء المقابل لي، هناك أشخاص كُثر يعيشون، لم ألحظ ذلك قبل الآن. أراهم الآن يجلسون في غرفهم، في مطابخهم، في شرفاتهم، يقرؤون، يتحدثون مع بعضهم البعض أحياناً، يتصلون بأصدقاء آخرين عن طريق تطبيقات الفيديو التي أصبحت معروفة للجميع فجأة.
منذ أيام قليلة، احتفلنا بعيد ميلاد أحد الأصدقاء عن طريق تطبيق سكايب، نعيش جميعاً في برلين لكننا لم نتقابل لفترة طويلة، مذ بدأ هذا الحجر اللعين. أشعل كلّ واحد منّا شمعة وغنينا له، سألناه عن أمنيته، قال إنه يريد أن يلمس شخصاً ما، يريد أيّ تواصل فيزيائي مع بشر آخرين، هذه كانت أمنية صديقي في أغرب احتفال بعيد ميلاد شهدته حتى يومي هذا.
لا أستطيع تحمّل حياة الحجر هذه لولا الموسيقى.
أفعل مثلما يفعل الآخرون: أعمل، أكتب أحياناً، أشاهد أفلاماً ومسلسلات، أحاول تعلّم لغة جديدة، أسمع موسيقى لم أسمعها من قبل، أقرأ مقالات كنتُ قد حفظتها على كمبيوتري من أجل قراءتها لاحقاً، وها قد حان هذا الوقت اللاحق، أطبخ لساعات طويلة، أبدأ قراءة كُتب لا أنهيها، أنظّف البيت، أحفر ثقوباً في الحائط لوضع رفوف جديدة في مهمة مؤجلة منذ سنتين، أنظر من نافذة المطبخ مراقباً جيراني، أعود إلى الشرفة.
لكنني حقاً لا أستمتع بشيء مما أفعل. ينقصني شيء ما. أنا في هذا الحجر لستُ أنا. ينقصني بعض مني. لا أخرج إلى الشارع إلّا نادراً وللضرورات القصوى، خوفاً من فيروس لعين قد يصيبني وأنا صاحب الربو وحساسيّة الربيع، أخاف أن تأخذني مشكلة صغيرة في التنفس يسببها فيروس لا لُقاح له، من هذه الحياة، فأُحرم من رؤية ابنتي ذات السنتين، تكبر أمام عيني.
لكنني حقاً لا أستمتع بشيء مما أفعل. ينقصني شيء ما. أنا في هذا الحجر لستُ أنا. ينقصني بعض مني. لا أخرج إلى الشارع إلّا نادراً وللضرورات القصوى، خوفاً من فيروس لعين قد يصيبني وأنا صاحب الربو وحساسيّة الربيع، أخاف أن تأخذني مشكلة صغيرة في التنفس يسببها فيروس لا لُقاح له، من هذه الحياة، فأُحرم من رؤية ابنتي ذات السنتين، تكبر أمام عيني
أجلسُ في شرفتي. أحاول القراءة مرة أخرى، أقلبُ صفحات الكتاب معيداً إياها إلى الصفحة الأولى. أعدتُ قراءة أول عشرين صفحة من هذا الكتاب أكثر من خمس مرات، لا أستطيع استكمال القراءة والتركيز ومتابعة أحداث الرواية. أحاول الكتابة، كلّ يوم أكتب أشياء أحذفها لأنّها غير مترابطة وغير جديرة بالقراءة أصلاً.
لا سبب من الأسباب، التي تمنعني عادة عن التركيز، موجود. في كثير من أوقات نهاري هدوءٌ أحبه. أسمع الموسيقى التي أحب. لا مواعيد نهائيّة لتسليم عمل ما. لا مدير يحكي لي ما عليّ فعله ولا أحد يلاحقني، لكن ينقصني أهم ما في الحياة، تنقصني الحياة ذاتها، ينقصني تفاعل فيزيائي مع البشر، ينقصني، مثل صديقي صاحب عيد الميلاد، كثير من الحياة.
ربما أظهر لنا/ لي هذا الحجر، بعد شهور طويلة من الكآبة، جمال ما يفعل الإنسان. أعرف بشاعة الإنسان، أعرفها جيداً، أعرف القتل والظلم والتعذيب والسجون واللجوء والفقر وملايين الأشياء الأخرى التي تثبت بشاعة الإنسان لكنني لم أنتبه للجمال، وهذا اكتشافي الشخصي خلال أيام هذا الحجر.
ما العالم من دون كرة قدم؟ ما العالم من دون صالات سينما ومسارح ومتاحف؟ ما العالم إن لم يكن هناك مساحات مفتوحة وأسواق ولقاءات وأصدقاء؟ ما العالم إن لم يكن هناك مدارس وأطفال يلعبون في الشوارع؟ ما العالم من دون…. ما العالم إن لم يكن هناك... هل تستطيع حياتنا التي نعيشها في شاشة كمبيوتر أن تأخذ مكان حياتنا الحقيقية؟ هل زيارة متحف على موقع إلكتروني تساوي زيارة المتحف الأصل؟ هل حضور حفلة موسيقيّة على موقع فيسبوك يساوي حضور حفلة موسيقيّة بتواصل فيزيائي مع عشرات الأشخاص، حيث نرى الموسيقيين ونتبادل النظرات والمشاعر؟
أجلس في شرفتي وأقول لنفسي: لولا الموسيقى لكنت قد جُننت منذ زمن بعيد. لا أستطيع العيش دون موسيقى، مذ أفيق من نوم متقطع حتى أعود إلى ذلك النوم أستمع إلى الموسيقى. لا أستطيع تحمّل حياة الحجر هذه لولا الموسيقى.
أجلسُ في شرفتي. أفكر بنفسي وبحياتي السابقة، أفكر بكلّ ما فعلت وبكل ما أودّ فعله. أفكار هذا الحجر ليست مناسبة تماماً لشخص مكتئب مثلي. أفكر ما الذي كان سيحدث لو قمت بهذا الفعل عوضاً عن ذاك الفعل الذي قمت به. أفكر لو أنّني أستطيع تبديل أفعال سابقة بأفعال أُخرى
أجلسُ في شرفتي. أراقب جيراني وأفكر بالعالم. أفكر بالعالم قبل كرة القدم: كيف كان العالم قبل اختراع هذه اللعبة؟ أفكر بالعالم قبل اختراع الإنترنت: كيف عاش الناس الأوبئة السابقة دون أن يكون لديهم إنترنت؟ دون أن يشاهدوا أفلاماً ومسلسلات؟ هل كانوا يقرؤون الكتب بكثرة مثل أيامنا هذه؟ أفكر بهذه الأسئلة وأقول لنفسي بأنّها أسئلة غبية لا معنى لها. لكن لا يهم، من ذا الذي يحاسب المرء على أسئلته الغبيّة ونحن نواجه مرضاً قد يفتك بنا؟
أجلسُ في شرفتي. أفكر بنفسي وبحياتي السابقة، أفكر بكلّ ما فعلت وبكل ما أودّ فعله. أفكار هذا الحجر ليست مناسبة تماماً لشخص مكتئب مثلي. أفكر ما الذي كان سيحدث لو قمت بهذا الفعل عوضاً عن ذاك الفعل الذي قمت به. أفكر لو أنّني أستطيع تبديل أفعال سابقة بأفعال أُخرى. أفكر بأثر الفراشة، وأضحك من نفسي.
أجلسُ في شرفتي. أراقب الحياة وأقول لنفسي: ما أجمل حياة الخراء التي كنا نعيشها!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...