شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
وحش

وحش "العيب" الذي تربّيه أمّي تحت سريري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 23 يوليو 202410:30 ص

الأنوثة في بيتنا مربوطة بطرف الشعر الطويل الذي يعدّه أفراد العائلة من المقدسات الموروثة، كنسخة قرآن عتيقة، ولا يمكن العبث بها أو تغيير صورتها تحت أي ذريعة وفي ظل أي ظرف. هويتي التي تعبر عني من دون أن أنطق، حكاياتي المنسوجة في الظلّ ولعنتي الأبدية، نافذة حظي السعيد والعاثر معاً، أرجوحة أغنياتي ومخبأ وجهي.

كان شعري يمثل أكثر من ذلك، وكنت معه دائماً في علاقة متناقضة، يشعرني حين ينفلت على رحب هذا الهواء بحريّة من نوع آخر، ويعتقني من أشكال معينة من التقييد. شخّصته دوماً لأتمكن من تحديد اللغة التي تمكننا فعلاً من التفاهم، وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً كانت أمي دائماً ما تنبهني لضرورة أن أرفعه أو أربطه أو أجدله، وكأنه طفل تخاف أن يفلت مني ويضيع في الزحام.

عندما كنت في المدرسة، كانت أمي تسرح شعري صباحاً وهي تدندن: " يارا الجدايلها شقر، فيهن بيتمرجح عمر"، وكنت دوماً أقول لها: "أنا لست يارا وجدائلي ليست شقراء فلمن تغنين يا ماما؟"، كانت تبتسم وتخبرني بأن الاسم غير مهم واللون أيضاً، فالأهم هي الجدائل.
لم تسمح لي يوماً بأن أفرد شعري على عفويته إلا مرّات قليلة في مناسبات معدودة، ولم أكن أمانع كثيراً أو أعترض على طريقتها، ربما لأنني لم أكن أجرؤ على حمل كل ما يمتلكه شعري من تمرّد على كتفي.
أذكر ذات مرة حين زارتنا صديقة لأمي. كنت أسترق النظر إليها كلما سمحت لي الفرصة. أتفحّص هيئتها معجبةً بشعرها القصير جداً، لطالما وددت لو أن أمي تسمح لي بقصّ شعري إلى هذا الحدّ، ولكنها كانت دائماً ترفض بشدّة من دون أن تحاول أن تعطيني سبباً مقنعاً، ومن دون أن ألحّ في طلب ذلك. شعرت برغبة ملحة بأن أتهوّر، لكن لعل الشعور الذي تسلّل إليّ خلسة من نسيم مجهول المصدر يرحل خلسة كما أتى، من دون أن يشعر به أحد، فأنا لا ألتقي بنفسي إلا في المناسبات.

الأنوثة في بيتنا مربوطة بطرف الشعر الطويل الذي يعدّه أفراد العائلة من المقدّسات الموروثة، كنسخة قرآن عتيقة، ولا يمكن العبث بها أو تغيير صورتها تحت أي ذريعة وفي ظلّ أي ظرف

لكن الليل وبّخني بكل لديه من قسوة، اتهمني بنكران الذات، والتخلي عن أبسط الأمنيات التي يرسلها إلي عبر نجمة. هدّدني بأن يفصلني عن السماء بغيمة. وصفني بالسمكة، وأنا لست بسمكة ، فلا ماء كافٍ في عينيّ لأغوص فيه.

اعتنقت الهواء ولكن يحدث أن تشدّني نجمة بعيدة لها ظل يلتمع على سطح كأسي، فأهمّ بالتقاطه ثم يختفي، ويحدث أن أتوق لأروي نفسي فهي عطشى منذ الأزل، وأنا جافة، جافة إلى حد كبير، وقد حان الوقت لأشرب من كل الينابيع التي توهمت أنها ملوثة.

عندما أزاح الفجر طرف ثوب الليل عن وجهه، توهمت أنه أزاح أيضاً أفكاري الليلية التي يمحوها عادةً النهار، لكنه لم يفعل هذه المرّة، على العكس تماماً، فقد قفزت إلى رأسي معاناة جميع المقيّدين بقيود الوهم الاجتماعي والتقليد النمطي والاتباع الأعمى للمفاهيم التقليدية الموروثة، وخنقني شعوري بأنني ضمن دائرة القيود هذه، وأنني سأحيا في دوّامة التمنّي ولو بفكّ أول أزرار قميصي لو شعرت برغبة في ذلك، لكنّ حتى هذا مرهون بموروثي القابع في عمق ذاتي التي ترعرعت في ظلّ الـ "ما بيصير"، إنه وحش "العيب".

كانت المرة الأولى التي أجرّب فيها التمرّد. نظرت إلى نفسي في المرآة، رأيت فتاة غير مبالية، بشعر قصير قصّته للتو. أعجبت بشكلي الجديد وتقبّلت التغيير. أمي جن جنونها وكأني قد عدت إليها فاقدةً لذراعي أو إحدى قدمي، لكنني الآن أشعر بالتفرّد وغبطة عجيبة من نوع آخر.
سرعان ما تأقلمت أمي مع مظهري الجديد، مع التذكير دائماً بأن شكلي كان أجمل وأنها لن تسمح لي بتكرار ذلك، مع التهديد والوعيد بأنها لن تكلمني ثانية أو تنظر في وجهي إن كرّرت فعلتي هذه.
عندما تأملت شكلي في المرآة قبل أن أخرج شعرت بالخوف، ولا أدري ممَ خفت؟ ربما هو وحش "العيب".   

طوّقني حنين لبضع سنتيمترات أخرى تنسدل على كتفي، فربما تساعدني في إخفاء ملامح الارتباك التي باتت واضحة في عيني.
انتفضت فجأة وخرجت كمن تستعد لمواجهة عدو ما. التقيت بأحد الأصدقاء وتحدثنا قرابة عشر دقائق، وطوال الوقت لم يسأل عن هيئتي الجديدة أو يبدي رأياً. حتى عندما ركبت الحافلة لم يرمقني أحد بنظرات استغراب أو اندهاش، فأنا عاديّة إذن، مظهري عاديّ، شعري القصير عاديّ، إلا بالنسبة لأمّي.
يتكئ رأسي على النافذة بشعر قصير، بينما أدور حول نفسي بشعري الطويل في الخارج، على رصيف من الحدقات الواسعة الجاحظة بكل أشكال عدم الفهم. تأخذ الرياح أصابعي إلى منزل مهدّم، فألتمس بين ثقوبه دمية صغيرة أو مشطاً عاجياً، كان من تراث ذاك المكان منذ أن غادرت جدتي هذا العالم مبتسمة.
لطالما كرهت الحشرات وخفت أحياناً منها، لكنني ما إن تخيّلت رسم الفراشة على معصمي، حتى حلّقت بعيداً عن بؤرة النفاق الذي أعيشه، وسافرت عبر أكاليل من الورد الذي كلما زرعته كان يذبل
قبل أن تشهد اندلاع الحرب واندثار سريرها تحت الركام، كانت جدتي أيضاً ذات شعر طويل أكله الشيب من جذوره حتى أطرافه، ولم تتخلَّ عن شبر منه حتى رحيلها. ربما هو موروث لدى العائلة، أو أن إحداهن لم تجرؤ على الخروج على هذا العرف الغريب العجيب. بعد مرور أيام، عادت أمي لطبيعتها، ولم تعد تؤنبني كلما تذكّرت أنني قصصت شعري. ها قد أصبحت عاديّةً في نظرها، يالسعادتي، وفكّرت أنني قد أقوم بتغييرات أخرى وربما تأخذ الأمور المجرى نفسه من التقبل حتى لو بعد حين، فعزمت على تجربة الوشم.

لم أكن أفكر في ما يمكن أن يكون الرسم الذي سأختاره، لكنني خرجت من أكمام قميصي ونظرت إلى الطرقات كأنني التقيها أول مرّة. استقرّت دهشتي على بضع فراشات على سور الحديقة. لقد سحرتني أجنحتها التي تتحرك بحرية لتقبّل أي زهرة تغريها. نعم أريد فراشة.

لطالما كرهت الحشرات وخفت أحياناً منها، لكنني ما إن تخيّلت رسم الفراشة على معصمي، حتى حلّقت بعيداً عن بؤرة النفاق الذي أعيشه، وسافرت عبر أكاليل من الورد الذي كلما زرعته كان يذبل، لكن لا بأس، لعلّ هذا الرسم يحسن علاقتي بالحشرات، بعد تعذّر تحسينها مع أنماط من البشر بالحجم نفسه.

جلست مبتسمةً أتأمل كمّ الصور الملصقة على الجدر لوشوم أشخاص لا أعرفهم، وفي جميع الأحوال، كانت الوشوم مبالغاً فيها بالرموز والأحجام المختلفة. توترت قليلاً ولكن ما إن اقتربت الاختصاصية مني وسألتني: "وشم ناعم؟"، حتى افترضت أنها التقطت ما أفكر به. حسناً، فلتكن فراشة كتلك، وأشرت إلى إحدى الرسوم المعلقة على الحائط. لم يكن الأمر معقداً أو مملاً، فقد انتهت بعد عدة دقائق، وكنت معجبة بمعصمي وهو يتبنّى فراشة.

دخلت إلى المنزل وأنا أشدّ بأكمامي لكيلا يظهر أي جزء من الوشم، فأنا لم أكن على استعداد لتنغيص فرحتي به، ولكن شاء القدر ولاحظته أمي وشهقت: "وشم؟"، فقلت: "حنة، ألم تكن جدّتي تنقش الحنة على أصابعها ويديها؟". لم تصدّقني لكنها لم تجادل في الأمر، وقالت إنها قلقة وتشعر بأنني أتغيّر وأتبدل، ولكنها لم تعلم يوماً أن هذا التبدل هو عودة إلى هيئتي الأصلية، في كوني المخفي وعوالمي المشتهاة المخبئة تحت قبة قميصي، كانت تحوم حولي في المنزل متمتمة بعبارات مثل: "نحنا مو هيك تربينا، شو بدن يحكوا العالم... إلخ". إنه وحش "العيب" مجدّداً.

ولكن، لقد نجح الأمر، وفكرت أن إسقاط هذه التحديات على حياتي كلها أصبح أمراً غير مستبعد، خاصة وأنني قد اعتدت اللامبالاة تقريباً.

كنت مدعوة إلى حفل موسيقي مسائي في حلب، وأعلم تماماً أن مثل هذا غير مسموح به في عرفنا العائلي الموقر، ففي كل مرة أخرج فيها، كانت عشرات الاتصالات تأتيني من أمي، وفي كل مرة تسألني: "متى ستعودين إلى المنزل. لا تتأخري بعد حلول المساء". أفكار الأمهات رهيبة حول الظلام، فلا تكاد الشمس تبدأ بالمغيب حتى تبدأ أمي بعملية الإحصاء لأبنائها كافة، وتشرع في مراقبة الشارع من الشرفة، حيث تحصي عدد المارة وتلحظ أي تغيير في ازدحام الحي، وقد تراقب أعمدة الإنارة التي تقع ضمن منقطة نظرها، لتطمئن على عدم سيطرة العتمة على سماء عودتنا. لقد رغبت كثيراً في البقاء خارج المنزل ليلاً. أغرتني فكرة التمرّد، وحجزت موعداً مع بعض الأصدقاء في رحلة صباحية مبكرة.

قالت أمي إنها قلقة وتشعر بأنني أتغيّر وأتبدل، ولكنها لم تعلم يوماً أن هذا التبدّل هو عودة إلى هيئتي الأصلية، في كوني المخفي وعوالمي المشتهاة المخبئة تحت قبة قميصي

حزمت حقيبة صغيرة وانطلقت في وقت مبكر. أخبرت أمي أني سأتأخر، لكن الأمور أخذت منحى آخر، فبعد وصولنا إلى حلب، وتسكعنا لساعات وحضورنا الحفل، قرّرنا أن نرافق الليل إلى طرطوس، وهي مسافة طويلة، مسافة تعبر بي ميلاً بعد ميل إلى أقرب نقطة من روحي، السفر عبر خيالاتي والمضي جنباً إلى جنب مع أحلامي المصغرة التي لا تعدو كونها قصة شعر أو وشماً أو رحلة مغامرة، من دون تفكير في العواقب، من دون انصياع للأوامر، من دون تفكير أكثر من اللازم في وحشي الذي بات يصغر في الحجم يوماً بعد يوم.

غفوت في الطريق، وعندما أفقت تبدت أمامي المساحات الخضراء التي تعكس روح البحر. أول خيوط الفجر التفّت حول معصمي، فشعرت بفراشتي الصغيرة تطير. التقطت صورة مع الموج، وعندما فتحتها رأيت قلبي بلون وردي قبالة شاطئ طرطوس الهادئ.

فعّلت الاتصال في هاتفي بعد أن أوقفته مساءً بعد رسالة أرسلتها إلى أمي أخبرتها فيها أنني بخير وسأمضي الليلة خارجاً، وسرعان ما وصلتني رسالتها: "لا تتأخري بعد حلول المساء".

اتصلت فردّت أمي بصوت ناعس قلق مُجهَد، مطلقةً كل أنواع التحذير من عدم عودتي حالاً إلى المنزل، قلت لها أن تنام، فأنا الآن أصحو في زمنٍ حقيقي، بسيط وعفويّ. تجرّدت من ملابسي الثقيلة، وفردت شعري القصير المحبَّب إليّ. لامست بقدميّ العاريتين بساط الرمل الذهبي، وسلّمت جسدي لإله البحر. فتحت ذراعي للشمس وسحبت منها شعاعاً لأقتل وحشي الصغير، ورحت أغني: "طلعنا على الضو، طلعنا على الريح، طلعنا على الشمس، طلعنا على الحرية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image