لن نبالغ إذا قلنا إن السينما أضحت "عالماً" متعدد الجوانب، متنامي الأبعاد، متنوع المقاصد والغايات، حيث تضاعفت إسهاماتها الثقافية والعلمية والإعلامية والاجتماعية، حتى صارت جزءاً رئيساً من الحياة اليومية في معظم بلاد العالم، بعد أن ساهمت منذ بزوغ نشأتها في تغيير النظرة إلى العالم، بل إلى الكون بأبعاده وإيحاءاته، فتقاربت معها المسافات والبلدان والشعوب، ولم تقتصر السينما على تسجيل الواقع وعرضه، بل سجلت نجاحاً باهراً في تأكيد قدرتها كأداة تعبير ذات لغة خاصة وتعبيرات مميزة ومفردات متنوعة.
قصة ظهور أول الأفلام العربية والمصرية
كانت بواكير الأفلام السينمائية المصرية في أوائل القرن العشرين، مجرد أفلام إخبارية قصيرة. يقول فؤاد شاكر في كتابه "سينيمائيات طرائف وحكايات" إن أول فيلم روائي طويل مصري ظهر عام 1917، ولكنه كان من إنتاج شركة مصرية-إيطالية، وقد اشترك فيه تمثيلاً محمد كريم، فلما أفلست الشركة لضعف المستوى الفني لأفلامها، سافر كريم إلى إيطاليا، ثم ألمانيا لدراسة هذا الفن الجديد. سافر هاوياً مجتهداً، وعاد متعلماً محترفاً.
" التصوير كان يتم في كل مكان في العالم على شريط فيلم أبيض وأسود، إلا أن محمد كريم ابتكر مشهد اختيار زينب للملابس بالألوان، حيث صوّر المشهد، ثم أرسله إلى باريس ليتم تلوينه باليد"
وطبقاً لفؤاد شاكر في كتابه المشار إليه سابقاً، في عام 1923، ظهر نشاط شاب مصري يُدعى محمد بيومي، وكان قد عاد من ألمانيا بعد أن قضى فيها بضع سنوات في تعلم التصوير والإنتاج السينمائيين، فأنشأ في الإسكندرية أول إستوديو للتصوير وإنتاج الأفلام التي اعتزم إصدارها من تصويره وإخراجه، وكان أول فيلم أنتجه "الباش كاتب" بطولة بعض ممثلي المسرح: بشارة واكيم، أمين عطا الله، أديل ليفي، علي طبنجات، وكان فيلماً قصيراً لم يتجاوز الثلاثين دقيقةً، وبلغت تكاليفه مئة جنيه.
ثم قرر إنتاج سلسلة من الأفلام الفكاهية القصيرة على غرار أفلام شارلي شابلن، وبالفعل بدأ بتصوير "المعلم برسوم يبحث عن وظيفة"، من تمثيل بشارة واكيم، فردوس حسن، فيكتوريا كوهين، عبد الحميد زكي. وفي أثناء التصوير، توفي ابن محمد بيومي، وكان يؤدي دور طفل في الفيلم، فحزن عليه بشدة، مما جعله يقرر التوقف عن إنتاج الأفلام، ثم باع أجهزة الإستوديو ومعمل التحميل والطبع لشركة مصر للتمثيل والسينما، التي أنشأها بنك مصر عام 1925.
ويروي بعض مؤرخي السينما الثقات في كتاب سعد الدين توفيق "قصة السينما في مصر"، قصة أول فيلم عربي طويل وقد حمل اسم "قُبلة في الصحراء" للأخوين الفلسطينيين "إبراهيم وبدر لاما"، وبطولة "بدرية رأفت" و"محمود المليجي" و"أنور وجدي"، حيث نزل الأخوان "لاما" في مدينة الإسكندرية في أثناء عودتهما من شيلي إلى فلسطين عام 1927، ودُهشا بالنشاط السينمائي القائم فيها، فقررا الإقامة فيها وتجربة مغامرة الإنتاج، فكان هذا الفيلم الصامت أول فيلم عربي طويل، قبل أن يليه فيلم "ليلى" بنحو ستة أشهر، الذي أخرجه "ستيفان روستي" وأنتجته ومثلت فيه "عزيزة أمير" حيث أقنعها وداد عرفي، وهو شاب تركي جاء إلى القاهرة عام 1926، بإنتاج فيلم يكون من إخراجه وتكون هي بطلته، ولكن سرعان ما نشبت الخلافات بينهما بسبب بُطئه في العمل، فاستبدلته روستي، ويُعدّ "ليلى" أول فيلم روائي صامت طويل مصري مئة في المئة.
يؤرخ "جان الكسان" في كتابه "السينما في الوطن العربي"، للنجاح الكبير الذي حققه "ليلى" بعد حفلة كبيرة في ليلة افتتاحه، إذ دُعي إليه عدد كبير من الشخصيات العامة، أمثال "محمد طلعت حرب" وأمير الشعراء "أحمد شوقي"، وقد احتفت الصحافة المصرية والعربية بالنجاح الذي حققه، وعلّق شوقي على الفيلم قائلاً: "أرجو أن أرى هذا الهلال ينمو ليصبح بدراً كاملاً".
"زينب"... أهم تجارب السينما المصرية الصامتة
يحكي فؤاد شاكر في كتابه سابق الذكر، أن الدكتور محمد حسين هيكل (باشا) كان قد كتب روايةً تحمل اسم "زينب"، وذلك في أثناء دراسته القانون في باريس عام 1910، وقد نشرها عام 1914، وشعر بحرج شديد من أن يكتب على غلافها اسمه، فاكتفى بقوله "مناظر وأخلاق ريفية بقلم: مصري فلاح"، ويستطرد "شاكر" في سرد قصة خروج فيلم "زينب" إلى النور فيقول: قرأ "محمد كريم" الرواية حينما كان يدرس السينما في ألمانيا، فأعدّ سيناريو لإخراجها، لكنه لم يجد منتجاً واحداً يقبل بإنتاج الفيلم، حيث رفض المنتجون الأجانب إنفاق أموالهم على إنتاج فيلم تجري حوادث قصته في الريف، وأبطالها من الفلاحين! وأبدوا استعدادهم لإنتاج فيلم مصري تجري أحداثه في القصور، لكن "كريم" صمّم على "زينب".
لجأ كريم إلى صديقه يوسف بك وهبي، صاحب فرقة رمسيس المسرحية لإنتاج "زينب"، فوافق ووضع خمسمئة جنيه ميزانيةً لإنتاجه. لم تكن هناك إستديوهات في ذلك الوقت، وكانت الكاميرا تدار باليد، والإضاءة تتم بواسطة مرايا أُلصقت عليها قطعة من قماش التُل الأبيض تشبه الناموسية، وفي هذا الفيلم استخدم "كريم" لأول مرة في تاريخ السينما المصرية "الكاميرا كرين"، لتصوير مشهد من أعلى. كانت القاعدة الخشبية للكاميرا مربوطةً بالحبال إلى بكرة، ولما بدأ التصوير قام عدد من الرجال الأشداء بشد طرف الحبل، لترتفع القاعدة وعليها الكاميرا والمصور، واستغرق تصوير هذا المشهد العلوي ثلاث ساعات، بتكلفة وصلت إلى أحد عشر جنيهاً.
مشهد ملوّن في سينما الأبيض والأسود
ذهبت "زينب" الريفية لتشتري بعض الحلي والملابس الملونة المبهجة استعداداً لحفل زواجها، إذ تدور أحداث الفيلم حول قصة حب في الريف المصري، لم تتزوّج بسبب اختيار الأهل زوجاً أكثر ثراءً، قبل أن تودّع "زينب" الحياة على سرير المرض، بينما يشعر الحبيب بألم مفارقة الروح للجسد وهو يؤدي الخدمة العسكرية، حيث تم تصوير الفيلم في قرى الشرقية والقليوبية والفيوم في مشاهد طبيعية وبيوت حقيقية. هكذا يسرد جان الكسان في كتابه المشار إليه سابقاً، مشاهد موجزةً من الفيلم، ويقول: "إن التصوير كان يتم في كل مكان في العالم على شريط فيلم أبيض وأسود، إلا أن محمد كريم ابتكر مشهد اختيار زينب للملابس بالألوان، حيث صوّر المشهد، ثم أرسله إلى باريس ليتم تلوينه باليد في معامل باتيه، حيث تم إنفاق قرابة نصف ميزانية الفيلم على هذا المشهد فقط!".
سينما الواقع المصرية اجتازت المدرسة الإيطالية
يقول سعد الدين توفيق، في كتابه المشار إليه سابقاً، إن طريقة إخراج وتصوير "زينب" حققت له نجاحاً ضخماً بعد عرضه في 12 نيسان/ أبريل 1930، وكان خطوةً سباقةً ومتقدمةً على أصحاب مدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية بعشرات السنين، وبعد عرض الفيلم تشجع المنتجون لإنتاج أفلام واقعية وريفية، بل أعاد "د. هيكل باشا" طباعة روايته، ولم يجد حرجاً في وضع اسمه على غلافها، وقد أعيد إنتاج "زينب" عام 1952، في فيلم ناطق، وكان كريم يعتزم إخراجها للمرة الثالثة في فيلم ملوّن.
الفيلم المصري الناطق
لما نطق الفيلم السينمائي في أمريكا أواخر سنة 1927، ظهر -طبقاً لفؤاد شاكر- أول فيلم مصري ناطق عند عرضه في 14 آذار/مارس 1932، وهو فيلم "أولاد الذوات"، الذي اشتركت في تمثيله فرقة رمسيس المسرحية، وأخرجه محمد كريم ليصبح ثاني فيلم من إخراجه، وأدى دور البطولة فيه يوسف وهبي، وظهرت أمينة رزق ودولت أبيض وحسن البارودي وسراج منير، واشتركت ممثلة فرنسية تدعى كوليت، بينما كان أحمد بدرخان مساعداً للمخرج.
شقّ الفيلم المصري طريقه إلى مهرجانات السينما العالمية، عبر فيلم "وداد" بطولة أم كلثوم، كأول فيلم مصري يُعرض في مهرجان البندقية (فينيسيا) عام 1936
وأول الأفلام الغنائية المصرية هو فيلم "أنشودة الفؤاد" الذي اشترك في تمثيله جورج أبيض ونادرة وعبد الرحمن رشدي، وتم عرضه في 14 نيسان/أبريل 1932. وبرغم ضعف القصة وثقل الأغاني الطويلة وسوء الإخراج (المخرج مايو فولبي)، إلا أن الفيلم حقق نجاحاً تجارياً في مصر والبلاد العربية لسبب وحيد هو أنه فيلم غنائي!
"عيون ساحرة"... باكورة أفلام الخيال العلمي المصرية
يصفها "جان الكسان" في كتابه المشار إليه سابقاً، بأنها محاولة جريئة جداً، حيث أقدم المخرج "أحمد جلال" على تأليف وإخراج أول فيلم خيال علمي في تاريخ السينما المصرية عام 1933، وحمل اسم "عيون ساحرة"، حيث كانت الجرأة مضاعفةً بسبب إنتاج هذا النوع من الأفلام قبل ظهور الإستديوهات الكبيرة المجهزّة بالمعدات الحديثة، وتدور قصة الفيلم حول انبعاث الحياة في جسد "سامي" الذي دهسته سيارة فقتلته، ونجح "جلال" نجاحاً كبيراً كمخرج وسيناريست في استخدام لغة سينمائية جديدة، إذ كان الحوار قليلاً موجزاً وحركة الكاميرا بارعةً.
أول فيلم تاريخي
بعد سنتين من عرض فيلمه من الخيال العلمي، أقدم "أحمد جلال" على محاولة أخرى جريئة، وهي إخراج أول فيلم تاريخي مصري، "شجرة الدر". يقول سعد الدين توفيق في كتابه المشار إليه سابقاً إن جلال أعدّ سيناريو الفيلم عن قصة كتبها جرجي زيدان، مؤسس دار الهلال، وكان قد نشرها في سلسلة "روايات تاريخ الإسلام"، وأنتجت الفيلم شركة "لوتس فيلم" التي كانت تتألف من آسيا وماري كويتي وأحمد جلال، وتم تصويره في فندق هليوبوليس (مقر رئاسة الجمهورية الآن).
وطبقاً لسعد الدين توفيق، فقد شقّ الفيلم المصري طريقه إلى مهرجانات السينما العالمية، عبر فيلم "وداد" بطولة أم كلثوم، كأول فيلم مصري يُعرض في مهرجان البندقية (فينيسيا) وذلك عام 1936، وكان البرلمان المصري قد قرر تشريع حركة التمثيل، حيث تشكلت لجنة لفحص أعمال الفنانين وكتاب الروايات وأصحاب الفرق الفنية، ثم أُعلنت أسماؤهم، بعد تصنيفهم متفوقين في الدراما والتراجيديا والكوميديا، تحت عنوان جوائز الامتياز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين