شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من النبي المخلوع إلى النبي المجنون... ماذا حلّ بأدعياء النبوّة؟

من النبي المخلوع إلى النبي المجنون... ماذا حلّ بأدعياء النبوّة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

شخصيات قميئة ومرتدّة؛ هذا هو ملخص النظرة الدينية إلى أدعياء النبوة الذين عاصروا الظهور المبكر للإسلام، واستمروا ظاهرةً ممتدةً عبر التاريخ عاودت التكرار مرات عدة.

هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها بوضوح بعد فصلها عن سياقها السياسي، فحتى دعوة النبي محمد أُحيطت بتأثيرات سياسية، أبرزها مقولة أبي الحكم عمرو بن هشام، مبرراً عدم اعترافه بنبي الإسلام، بحسب رواية الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، ومفادها أن أبا الحكم قال للمغيرة بن شعبة: "والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. فقالوا: فينا الندوة. قلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. وقالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب، قالوا منّا نبي، والله لا أفعل"؛ أي أن رفضه كان في سياق التنافس بين القبائل، وتصديق نبوّته اعتراف بالسلطة لقبيلة النبي.

بالمنطق نفسه، ادّعى عدد من الأشخاص النبوة، وتمكنوا بفضل ما يتمتعون به من مواهب عالية من جمع القبائل وحيازة السلطة، فالنبوة كانت وسيلةً إلى السلطة عند العرب، وطريقةً للحفاظ على القومية والهوية عند الفُرس، ولم تكن مجرّد حركة ردّة، أو محاولة للمضي في طريق الهوى، بقدر ما هي نزوع نحو السلطة عبر أقصر طريق، أو احتجاج سياسي ضد الهيمنة القائمة.

النبي المخلوع

في اليمامة، ظهرت دعوة مسلمة بن حبيب الحنفي (ت.12هـ)، وأطلق عليه المسلمون تحقيراً "مسيلمة الكذاب". وبرغم ميله إلى السلام وبناء تحالفات، إلا أن المسلمين أجبروه على الدخول في معركة فاصلة.

النبوة كانت وسيلةً إلى السلطة عند العرب، وطريقةً للحفاظ على القومية والهوية عند الفُرس، ولم تكن مجرد حركة ردّة، أو محاولة للمضي في طريق الهوى، بقدر ما هي نزوع نحو السلطة عبر أقصر طريق، أو احتجاج سياسي ضد الهيمنة القائمة

في كتابه "مسلمة الحنفي: قراءة في تاريخ محرم"، ذكر جمال حلاق، أن مسلمة "كان في البدء كاهن قومه ثم تدرج في الحنيفية حتى ادّعى النبوة، في أماكن تواجد الأحناف بين اليمامة ومكة"، مُعللاً هذا التحول بأنه "سلوك انتشر بين كهنة الجزيرة حين أصبح مفهوم النبوة يمثل درجة اليقين القصوى".

عدَّه حلاق واحداً من الأحناف، والحنيفية تعاليم كان لها وجود محدود بين العرب، وتوصف بأنها ما تبقّى من ملة إبراهيم، وبفضل طغيان التشويه "لم يجرؤ أحد على اعتباره حنيفياً سوى جواد علي وحسين مروة".

رغبته في بناء التحالفات دفعته إلى مراسلة نبي الإسلام برسالته الشهيرة: "سلام عليك، أما بعد، فإني قد أُشْرِكت في الأمر معك، وإنّ لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون". ذكره ابن هشام في السيرة النبوية، وفيها محاولة لإقناع قريش بالبُعد عن لغة العدوان، وترك النبي محمد أمره دون حسم، وردّ عليه برسالة: "سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين"، كما ذكر ابن هشام.

تزوج مسلمة من سجاح، نبية بني تميم، وتحالف معها، وبحسب جمال حلاق فإن مسلمة ردّها عن الغزو، لأنه "كان يسعى إلى التحالف مع أي جهة يمكن أن تهدد أمن اليمامة، ومن هذا تحالفه مع سجاح التي كانت تنوي غزو اليمامة والرباب ثم يثرب".

عدّ المسلمون ذلك تهديداً محتملاً، لذا "أُجبِر في النهاية على خوض الحرب مع إسلام قريش"، وقتل المسلمون من أنصاره 10 آلاف رجل، "كي يتمكّنوا من الوصول إليه وقتله"، أي أنه كان محمياً من القبائل التي آمنت به، وأطلقت عليه "رحمان اليمامة"، ومدحه أحدهم قائلاً: "سموتَ بالمجدِ يا بنَ الأكرمين أباً /وأنت غيثُ الوَرى لا زلتَ رحمانا"، وفقاً لما نقله جمال حلاق.

في مقاله "النبي المخلوع"، المنشور في موقع "الأوان"، في كانون الأول/ديسمبر 2010، اتفق الباحث التونسي محمد النجار، مع جمال حلاق، في ذهاب المصادر الإسلامية إلى تشويه صورة مسلمة الجسمانية، وتشويه أفكاره، واللعب بنصوصه لتظهر بشكل ساذج وبهلواني.

ولم تنتهِ دعوته بمقتله، فوفقاً للنجار، برغم موت مسلمة "بقي البعض يرددون آيات من قرآنِه، ويصلّون بها حتى زمن خلافة عثمان بن عفّان"، ناقلاً روايةً تقول إن عبد الله بن مسعود، والي الكوفة، عرف بخبر مسجد لبني حنيفة أذانه أشهد أن لا إله إلا الله، وأن مسيلمة رسول الله، وكانوا يقيمون الصلاة بقرآن مسيلمة، ويفشون أحاديثه، فقبض عليهم ابن مسعود، فتاب البعض وأبى البعض الآخر، فضرب أعناق الذين أبوا.

النبي التائب

غادرت سجاح مشهد الأحداث بعدما قُتلَ مسلمة، وادّعت المصادر التاريخية أنها أسلمت وعاشت في البصرة، ولا يمكن التأكد من الحقيقة، خاصةً أنها انزوت، وتضاربت الروايات حول مصيرها، أما طلحة بن خويلد، مدّعي النبوة، فكان الأبرز في التوبة والعودة إلى الإسلام.

في أواخر حياة النبي محمد، ادّعى الأسود العنسي النبوّةَ في اليمن، وادّعى طلحة بن خويلد الأسدي النبوّة في منطقة سميراء في الحجاز.

في دراسة بعنوان "نجران: دراسة تاريخية حضارية"، شرح الباحث غيثان بن علي بن جريس، خطر اتّساع نفوذ العنسي، فذكر أنه توسّع ليشمل "ما بين بلاد حضرموت وعدن جنوباً إلى شمال بلاد نجران شمالاً، وامتد حكمه حتى وصل إلى بعض الأجزاء الساحلية الجنوبية من البحر الأحمر، وقد اضطربت أوضاع المسلمين باليمن وأصابهم الخوف الشديد من بطش الأسود العنسي".

لا تتفق الروايات حول زمن قتله، وما إذا كان ذلك في حياة النبي أم في زمن أبي بكر الصديق، ويرجح المؤرخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه "الوافي بالوفيات"، أنه قُتل في أيام النبي، فذكر "وأتى النبي صلى الله عليه وسلّم الخبر من السماء فخرج ليبشر الناس، وقال قُتِل الأسود البارحة، قتله رجل مبارك".

أما طلحة، فهزمه خالد بن الوليد، ووفقاً لمحمد بن عمر الواقدي، في تاريخه "فتوح الشام"، فإن طلحة خاف على نفسه فـ"هرب بالليل ومعه زوجته للشام"، ثم أعلن إسلامه، وفي عهد عمر بن الخطاب جاء مُبايعاً.

رفضُه للإسلام تجاوَز التمرّد على السلطة، ووصل إلى انتقاد الصلاة، إذ نقل محمد حسين هيكل في كتابه "أبو بكر الصديق" أن طلحة "أنكر الرّكوع والسجود في الصلاة، وقال: إن الله لم يأمر أن تمرغوا وجوهكم في التراب أو أن تقوّسوا ظهوركم في الصلاة". وبرغم ذلك، فإنه بعد الهزيمة عاد إلى الإسلام.

النبي المغدور

لأسباب سياسية، قتل الخليفة أبو جعفر المنصور (ت.158هـ)، قائدَه أبا مسلم الخراساني (ت.137هـ)، وسرد أبو الفداء بن إسماعيل، ما دار في اللقاء الأخير بينهما في كتابه "المختصر في أخبار البشر"، فذكر التالي: "لما قدم أبو مسلم، دخل على المنصور وقبَّل يده وانصرف، فلما كان من الغد ترك المنصور بعض حرسه خلف الرواق، وأمرهم أنه إذا صفق بيده يخرجون ويقتلون أبا مسلم، ودعا أبا مسلم، فلما حضر أخذ المنصور يعدد ذنوبه وأبو مسلم يعتذر عنها، ثم صفق المنصور فخرج الحرس وقتلوا أبا مسلم".

ازداد نفوذ الخراساني، واعتقد محبّوه أنه ليس بشراً، وفي كتابه "مدّعو النبوة في التاريخ الإسلامي"، رأى وليد طوغان، أن التفاف الفُرس حول الخراساني كان بدافع الحفاظ على وحدتهم وهويتهم، وذكر أن "منهم من اعتقد أن أبا مسلم الخراساني نفسه هو النبي بعد محمد، وأنه لم يُقتل، إنما رفعه ربه للسّماء لينزلَ بعد فترة ويسوس الناس بالحق، ويخلّص الفُرس من العرب".

مستحضراً الصراع العربي الفارسي، عدّ طوغان أن "هزيمة الفارسيين العسكرية وقهرهم بواسطة العرب حوّلهم للاعتقاد بأن التراث والأفكار أقوى من الحرب والسيوف، لذلك خلطوا تراثهم وأساطيرهم بالإسلام، وخرج من فارس وحدها على مرّ التاريخ ما يزيد على 40 نبياً و4 آلهة منذ غزاها الأمويون حتى جلا عنها العباسيون"، ما يعني أن حركة النبوات كانت محاولةً للخروج من الهيمنة العربية.

وبرغم أنه جرى النظر إلى أبي مسلم على أنه صاحب النفوذ في المنطقة، وعلى أنه نبيّ، إلا أن الخليفة المنصور أطاح به في لحظة، ما عرَّض أنصاره للتشتت، فـ"منهم من اعتبر الخليفة المنصور نفسه، قاتل أبي مسلم، إلهاً، فالخالق هو الوحيد القادر على قتل المنزّه عن القتل"، وفي المقابل "ظهر إيراني اسمه سندباد زاعماً أنه أبو مسلم من جديد وأن روح أبي مسلم قد حلّت به ودخلت جسمه وحوّلته إلى شخص صالح عظيم الموهبة"، كما ذكر وليد طوغان.

النبي المجنون

قصة طريفة سردها أبو الفضل ابن طيفور، في كتابه "تاريخ بغداد"، عن لقاء جمع بين الخليفة المأمون (ت.218هـ)، والمتكلم المعتزلي ثمامة بن أشرس (ت.225هـ)، وهو واحد من أدعياء النبوة.

وفقاً للرواية، فإن ثمامة حضر مجلس المأمون، وجاءوا برجل يزعم أنه "خليل الرحمن"، فسأله الخليفة: "سَمِعت أحداً أجرأ على اللَّهِ من هَذَا؟"، ولأن ثمامة من أعلام المناظرات لتيار المعتزلة، قال مستأذناً: "إن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْذَن لي فِي مناظرته؟ قَالَ الخليفة: شَأْنك بِهِ".

طالب ثمامة الرجل ببراهين لإثبات كلامه، قائلاً: "يا هذا، إن إبراهيم كانت معه براهين وآيات. فقال الرجل: وما كانت براهينه وآياته؟ قال ثمامة: أُضرمت له نار وأُلقي فيها فصارت عليه برداً وسلاماً، فنحن نضرم لك ناراً نطرحك فيها فإن كانت عليك برداً وسلاماً صدّقناك وآمنّا بك. قَالَ الرجل: هَات غير هَذَا".

شخصيات قميئة ومرتدّة؛ هذا هو ملخص النظرة الدينية إلى أدعياء النبوة الذين عاصروا الظهور المبكر للإسلام، واستمروا ظاهرةً ممتدةً عبر التاريخ عاودت التكرار مرات عدة

اختار ثمامة براهين مُوسَى، فقَالَ الرجل: وَمَا براهينه؟ قال: عَصَاهُ الَّتِي أَلْقَاهَا فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى، وفلق بهَا الْبَحْر فَصَارَ يابساً، وَأَلْقَاهَا فالتقفت مَا أفكَ السَّحَرَةُ. قَالَ: هَاتِ غير هَذَا. فاختار له براهين عيسى، وهي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بما في الضمير، فرفض الرجل أيضاً هذه البراهين.

الطريف أن الرجل كشف عن حوار بينه وبين ملاك الوحي، قائلاً: "ما معي من هذا الضرب شيء، وقد قلت لجبريل إنكم توجهونني إلى شياطين فأعطوني حجةً أذهب بها وإلا لن أذهب، فقال لي جبريل وغضب: قد جئت بالشرّ من الساعة، اذهب أولاً فانظر ما يقول لك القوم! فما كان من الخليفة إلا أن ضحك وأعجبه حديثه معلّقاً عليه بقوله: هذا طيب".

فسّر ثمامة ادّعاء النبوة هنا بالخلل في المزاج، قائلاً للخليفة: "هَذَا رجل هاج بِهِ المرة (المزاج) وأعلام ذَلِك بَيّنة فِيهِ. قَالَ الخليفة: صدقت. وَأمر بِهِ إِلَى الْحَبْس وَأَن يعالَج من مرة إن كان به".

رأى المبروك المنصوري، في كتابه "جدل الدين الإسلامي والعمران المغربي"، محللاً الظاهرة، أن المصادر التاريخية غيّبت معلومات مهمةً كثيرةً عن السمات الشخصية للمتنبّئين، وعلى العكس من ذلك اهتمّت برصد سماتٍ تحقيرية وصفات ذميمة، كما تجاهلت الدوافع الحقيقية للتنبؤ برغم أنها أخذت "شكل تنصّل من السيطرة القرشية على باقي العرب، لأنهم رأوا فيها مواصلةً لما كان لها من سطوة في عهد الجاهلية".

متفقاً معه، رأى المنصوري أن المفكر المغربي محمد عابد الجابري، عدَّ "هذه الحركات التنبئية صراعاً قبلياً أو عرقياً، وعالج بمفهوم القبلية كلَّ التحولات الدينية والسياسية والثقافية التي شهدها التاريخ العربي طوال القرنين الأول والثاني"؛ وأنه (أي الجابري) رأى في تنبؤ مسيلمة فصلاً من فصول الصراع القبلي التقليدي بين حنيفة وقريش.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard