في صورة العطاء الإلهي، امتازت قصص الأنبياء بفاعلية وأثر الرؤى والأحلام في مجرى أحداثها ووقائعها، وشاعت لها مكانة متميزة، خاصةً أنها لعبت دوراً بارزاً في الحبكة الدرامية لقصة النبي يوسف، وكانت ركيزةً أساسيةً لقصة الذبيح ابن النبي إبراهيم، وألحّت على أهميتها أحاديث نبوية، فقد روت السيدة عائشة أنه "أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح"؛ ذكره البخاري في صحيحه، أي أن الرؤيا كانت هي العتبة الأولى للنبوة.
أحاديث أخرى جعلت الرؤيا الجزء الباقي من النبوة، فهي وفقاً للحديث "جزء من سبعين جزءاً من النبوة"، وفي رواية "جزء من أربعين جزءاً"، وأخرى "جزء من ستة وأربعين جزءاً"؛ نقل هذه الروايات الضياء المقدسي وابن الكمال في كتابهما "صحاح الأحاديث في ما اتفق عليه أهل الحديث".
حازت الرؤيا مكانةً كبيرةً في الثقافة الإسلامية، وعوَّل عليها كثيرون، إلى درجة أن الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "خاتم النبيين"، نظر إلى منكر الرؤى بأن "نفسه واقعة في الأهواء والشهوات"، وذلك "لأنه لا يمكن أن يدرك معنى الرؤيا الصادقة، إذا لم يجرّبها، لأن الله تعالى لم يؤته قوةً روحيةً، ولم يؤته طاقةً نفسيةً يستطيع أن يتغلب بها على خواطر اللذات والشهوات".
استغلالاً لأثر الرؤى وفاعليتها الدينية الشائعة، سحب بعض الدعاة الرؤى والأحلام إلى دائرة الاستغلال، إذ وظفتها زعامات دينية في خطابها الشعبي لأغراض وتوجهات مختلفة، طمعاً في تحصيل جزء النبوة الباقي، وتعزيزاً لصورة الداعية لدى أتباعه وكأنه يمتلك إلهاماً صادقاً يشبه الوحي عند الأنبياء، وبالنظر إلى رؤى عدة جرى ترويجها يمكن اكتشاف الأغراض الكامنة والمخبّأة خلف كل رؤيا وُصفت بأنها إلهام إلهي صادق.
استغلالاً لأثر الرؤى وفاعليتها الدينية الشائعة، سحب بعض الدعاة الرؤى والأحلام إلى دائرة الاستغلال، إذ وظفتها زعامات دينية في خطابها الشعبي لأغراض وتوجهات مختلفة، طمعاً في تحصيل جزء النبوة الباقي، وتعزيزاً لصورة الداعية لدى أتباعه وكأنه يمتلك إلهاماً صادقاً يشبه الوحي عند الأنبياء
انحياز القدرة الإلهية إلى مسائل شخصية
جانب من الرؤى جرى توظيفه لإظهار انحياز القدرة الإلهية والإلهام الرباني إلى مسائل شخصية، وأمور صغيرة، تُسهم في بناء الصورة الذهنية النهائية لصاحب الرؤيا في وعي الجمهور، ويمكن التماس هذا النوع من الاستخدامات عند حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والشيخ عبد الحميد كشك أحد أعضاء الجماعة ذاتها.
روى البنا في سيرته الذاتية "مذكرات الدعوة والداعية"، أنه حينما تقدّم لامتحان النحو في الأزهر، رأى في ليلته رؤيا وصفها بـ"الصالحة"، وأنها "عاجل بشرى المؤمن"، وذكر: "رأيت في ما يرى النائم أنني أركب زورقاً لطيفاً مع بعض العلماء الفضلاء الأجلاء، يسير بنا الهوينا في نسيم ورخاء على صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء وكان في زيّ علماء الصعيد وقال لي: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هوذا. فقال: تعال نراجع فيه بعض الموضوعات، هاتِ صفحة كذا وصفحة كذا، لصفحات بعينها، وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحاً مسروراً، وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات"، دون أن يفوته أن يجعلها أيضاً "تيسيراً من الله".
أما كشك، فلم يذهب بعيداً عن البنا، إذ سرد في مذكراته "قصة أيامي"، رؤيا متعلقةً بالامتحانات في كلية أصول الدين، ذكر فيها: "رأيت ليلة امتحان العقائد رؤيا مفادها كأني في لجنة الامتحان وأمامي سبورة وقد كُتب عليها أجب عن ثلاثة أسئلة وقد كتب فيها أربعة أسئلة، وقرأت الأسئلة كأنها واقع في يقظة، وما تداخلت الأسئلة، وما التبس بعضها ببعض"؛ فطلب كشك من زملائه فجراً مراجعة المواضيع المعينة التي رآها في منامه، دون أن يخبرهم بالرؤيا: "خشيت أن أُرمى بادّعاء الصلاح أو التقوى"، ولما دخل امتحان العقائد أدرك بحسب تعبيره: "أُحطنا علماً بالأسئلة قبل مجيئها".
علّق كشك على هذه الرؤيا التي تجاوبت مع مشاعر القلق والحيرة التي سيطرت عليه قبل امتحان العقائد، وذكر أن "الرؤى إنما كانت من باب قوله تعالى 'فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً'" (الفتح: 19).
هكذا، فإن البنا وكشك تمتعا بحسب ما كتباه بنوع من الإلهام الصادق والدعم الإلهي عن طريق الرؤيا التي سرَّبت أسئلة وموضوعات الامتحان لهما قبل ليلة من أدائه، وكل منهما عدّ الأمر تأييداً وتيسيراً من الله، وشبهها كشك بالسكينة التي أنزلها الله على صحابة النبي يوم صلح الحديبية عام 6هـ.
زاد كشك من حصيلة أحلامه برؤيا أنبأته بوقوع خطأ كارثي قبل يوم الامتحان، وحكى في مذكراته المشار إليها: "أما ما رأيته ليلة امتحان التفسير، فقد رأيت كأنني أقف على محطة القطار، فركب الراكب وتركني وحدي"، فاكتشف أن مرافقه نسي بطاقة تحقيق الشخصية، فمنعه المراقب من دخول اللجنة، وطلب منه أن يحضرها قبل توزيع أسئلة الامتحان، "وكانت المسافة بين بيته وبين الكلية في الزاوية الحمراء بعيدةً، وسألت الله أن يطوي له الأرض لأنني لو دخلت اللجنة ووزعت الأسئلة قبل أن يحضر لكان في دخوله بعد ذلك حرج شديد"، وحضر المرافق في الوقت المناسب، حيث احتوت هذه الرؤيا على تحذير منامي في صورة رمزية فهمها بعد واقعة المرافق والمراقب.
الثبات على المواقف أو التراجع بإشارة إلهية
دعماً لرأيه الفكري أو لموقفه السياسي، ساق البعض قصصاً لتأكيد هذا الجانب، أبرزها ما نُقل عن زينب الغزالي (أدينت في قضية تنظيم سيد قطب عام 1965)، التي حكت رؤيا شاهدت فيها النبي يساندها ويخفف عنها، ووفقاً لما ذكره عبد الله إمام في كتابه "عبد الناصر والإخوان المسلمين" نقلاً عن مذكراتها، فإن زينب "كانت تُضرب بالسياط، ويسيل الدم منها ولكن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يجيئها في المنام ويقول لها: قومي يا زينب يا غزالي. فتستيقظ، ولدهشتها لم تجد ألم السياط، وأن اسمها في شهادة الميلاد زينب غزالي، وهو الاسم الذي ناداها به الرسول"؛ بينما كان تعليق عبد الله إمام على رؤيا الغزالي بأنها قصص ضمن "عملية النصب" على وعي الناس.
خلافاً للثبات والمساندة، ثمة رؤيا يمكن أن توصف بأنها تمهيد للتراجع عن الآراء، والاسم البارز في هذا النوع هو الشيخ محمد متولي الشعراوي، إذ لا تكون آراؤه الجديدة بناءً على مراجعة المواقف القديمة وتبيّن عدم صوابها، لكنها آراء ظهرت مصحوبةً بالرؤيا الصادقة والإشارة الإلهية
خلافاً للثبات والمساندة، ثمة رؤيا يمكن أن توصف بأنها تمهيد للتراجع عن الآراء، والاسم البارز في هذا النوع هو الشيخ محمد متولي الشعراوي، إذ لا تكون آراؤه الجديدة بناءً على مراجعة المواقف القديمة وتبيّن عدم صوابها، لكنها آراء ظهرت مصحوبةً بالرؤيا الصادقة والإشارة الإلهية.
في مقال له في موقع "المصري اليوم"، بعنوان "رؤيا الشيخ الشعراوي"، نقل حمدي رزق عن صحيفة الأهرام بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1995 التالي: "زار فضيلة الشيخ الشعراوي عصر أمس ضريح الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بكوبرى القبة، وقرأ الفاتحة على روحه ترحماً، وكان الشيخ الشعراوي قد رأى الزعيم عبد الناصر في منامه فجر أمس وهو يقدّم إليه شيخين معممين، أحدهما يمسك بسماعة الطبيب، والآخر يمسك بمثلث وبرجل المهندس".
هذه الرؤيا استخدمها الشعراوي تمهيداً لزيارة قبر عبد الناصر، معلناً تراجعه عن موقفه السابق الرافض إدخال دراسة الطب والهندسة في جامعة الأزهر، وهنا لا تأتي الزيارة ولا التراجع فجأةً إنما بتمهيد من رؤيا عدّها الشيخ لفتةً وإشارةً إلهيتين، وكأن تراجعه أو بناء مواقفه لا يأتي إلا بدعم من الإلهام الإلهي.
الإعانة في البحث والتدقيق
نوع إضافي من الرؤى يأتي في صورة إعانة المؤمن في همومه، ومساعدته في البحث من أجل الوصول الآمن، وهو ما استفاد منه محمد عمارة، حينما تحدث عن مرحلة شبابه وحيرته في الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين أو إلى جمعية مصر الفتاة.
سليمان بن صالح الخراشي، في كتابه "محمد عمارة في ميزان أهل السنّة والجماعة"، يسرد على لسان عمارة قوله: "ومما هو لافت للنظر، عندما قررت الدخول في مصر الفتاة والاستمرار فيها كان لدي بعض التردد، هل المكان الطبيعي لي هو مصر الفتاة أم الإخوان المسلمون، ولأني من الذين يأخذون الأمور مأخذ الجد، فلقد بلغ الأمر بي إلى الحد الذي أرى فيه الأحلام والمنامات حول هذه القضية، فأرى الشيخ حسن البنا في المنام وأرى أحمد حسين في المنام، ويدور الحوار حول أيهما أجدى، وأيهما أنفع وأصح: الطريق الذي تسير فيه مصر الفتاة أم الإخوان المسلمون؟".
هكذا، رأى عمارة في أحلامه مناظرات بين حسن البنا مؤسس الجماعة وأحمد حسين رئيس الجمعية وزعيمها، كمساعدة لعمارة في بحثه وتدقيقه، لكنه في النهاية اختار "مصر الفتاة" معللاً اختياره بأن جماعة الإخوان تفرض على أتباعها عدم قراءة كتب المخالفين لها، وهو ما أثار استياءه ورفضه.
ذهب سيد قطب في تفسيره "الظلال" إلى التأكيد على قدرة الرؤى على التنبؤ، وأن المسلم ملزم بتصديق ذلك والإيمان به، ووفقاً لتفسيره سورة يوسف ذكر التالي: "إننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد، ملزمون بهذا أولاً من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبيه في السجن، ورؤيا الملك في مصر، وثانياً من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية
نبوءة المستقبل
نوع آخر من الرؤى استُخدم كنبوءة خاصة بنبوغ أحد الأشخاص، أو للتلميح بما يمكن أن يقوم به شخص من دور مهم مستقبلاً، ومن هذه الرؤى ذات القدرة العجيبة ما نُقل عن خال والد الشيخ الشعراوي، أنه بُشِّر بطفل لابن أخته سيكون له شأن عظيم، إذ "رأى في منامه أن كتكوتاً صغيراً وقف على منبر المسجد وأخذ يخطب في الناس"؛ ليلة ميلاد الشعراوي، وفقاً لما ذكره محمد الباز في كتابه "محاكمة الشعراوي"، معلقاً على هذه الرؤيا بأنها نوع من التعزيزات "التي تقول لنا إن القدر يصطنع هذا الرجل لموقف عظيم"، ومشككاً فيها بأن "النبوءات عادة لا تُردد إلا بعد أن يصل الناس إلى مواقعهم الكبيرة والمهمة".
أما الشيخ علي عبد العال الطهطاوي، من التيار السلفي، ومؤلف كتاب "تعبير الرؤى والأحلام عند الأئمة الأعلام"، فحكى في مقدمة كتابه، رؤيا من باب الاضطرار والبوح بالسرّ، مفادها أنه "من سنوات عدة رأيت النبي في المنام، أنا جالس والنبي نائم في حجري، ويدي اليمنى ملتفة حول نحره، وعنقه صلى الله عليه وسلم، ونظرت جهة اليمين فوجدت أن ذباباً كثيفاً يهاجم النبي، وأنا أدافع عن النبي باليد اليسرى، لأن اليد اليمنى ملتفة حول نحره، وفسرت الرؤيا بأن الذباب هم أهل البدع والضلالات وأنا أدافع عن سنّة المصطفى".
تأكد الطهطاوي من تفسيره عندما اضطر إلى الرد على رئيس مكتب الوعاظ في الجمعية الشرعية، مستنكراً حكايته عن الشيخ محمود خطاب مؤسس الجمعية الشرعية بأنه رأى النبي "جهاراً نهاراً يقظةً، ثم أخذه بالأحضان"، ثم ازداد تأكيده بتأليفه كتاب "تعبير الرؤى والأحلام" الذي دافع فيه عن سنّة النبي، رافضاً ترويج رؤى وأحلام كلها بدع وضلالات بحسب رأيه.
في السياق ذاته، ذهب سيد قطب في تفسيره "الظلال" إلى التأكيد على قدرة الرؤى على التنبؤ، وأن المسلم ملزم بتصديق ذلك والإيمان به، ووفقاً لتفسيره سورة يوسف ذكر التالي: "إننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد، ملزمون بهذا أولاً من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبيه في السجن، ورؤيا الملك في مصر، وثانياً من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده، لأنه موجود بالفعل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع